صورة عالقة في ذهني
16-01-2010, 10:57 AM
كانت تنظر الى نفسها في المرآة بشغف كبير و كانها لا تعرف وجهها. كانت تعلوه تساؤلات كثيرة و هي تمسك بالمشط لتسرح شعرها تفعل ذلك في كل ليلة دون أن تمل أو تكل فهي تحس بارتياح كبير عندما تقف أمام تلك المرآت التي تعكس لها شغفها و عنفوانها. بعد مدة من التأمل تذهب ريما إلى مخدعها لتنال قسط من الراحة لكنها قبل أن تغفو تكمل تأملها الذي بدأته في المرآة فتمر عليها كل لحظات عمرها بجلوها و مرها فتارة تعلو وجهها ابتسامة و تارة ثانية تعلو وجهها حزن عميق لا يمكن لأحد أن يفهمه فتحس إنها تائهة بين أغصان الدنيا المتشابكة فبالرغم أنها تعلم أن كل شئ مقدر و مكتوب لكنها دائما تحس انه هناك بين ذلك البريق في عينيها حزن قاتل لما كان في حياتها هذا هو الشئ العالق في ذاكرتي تلك الصورة أو تلك الذكرى كلما أتذكرها أتذكر جلوسها أمام المرآة لتسريح شعرها قبل النوم. اجل هكذا هي ريما جارتنا الجديدة التي دخلت عالمي في عام 1990 عام و لا كل الأعوام حيث إنني أتذكر هذا العام لما فيه من ماسي و أحزان حلت على قريتنا العتيدة منها الفيضانات العارمة التي اجتاحتها و موت جدتي بعد هذا الفيضان المشؤوم و محاولة غلق المؤسسات التربوية من طرف الإرهاب بالرغم أن فرحتي كانت عارمة لأني كنت صغيرة و أحببت أن يكون لي عطلة طويلة. على العموم هذا لا يهم لأني لست بصدد سرد حكايتي بل حكاية صديقتي و والدتها لقد كانوا من أصول فلسطينية جاؤوا إلى الجزائر و قد كان أبواها يدرّسان اللغة العربية في الاكمالية لا ادري اذا كانت ريما قد ولدت هنا ام في فلسطين لكن إتقانها اللهجة الجزائرية و كذا اللغة الفرنسية جعلني اجزم انها ولدت هنا ريما بمثابة الصديقة الوفية إلي لقد كانت قصيرة القامة ذات شعر اسود سواد الليل طويل انسيابي تعتني به اعتناء الأم بولدها, كانت دائما تطلقه أو أحيانا تربط جزء و تترك جزء منه يتطاير مع الريح حتى يغطي وجهها الصغير بأكمله فيحجب عنها الرؤيا فتحاول أن تنزعه دون جدوى كانت عينيها العسليتان الصغيرتان حدتان ترى فيهما ذلك البريق الغامض لا تفهم هل هو بريق أمل أم شئ آخر؟ لكن كنت أحس دوما انه وراء كل ابتسامة حزن عميق , أتذكر تلك المشية التي كانت تتسم بالثقة و القوة عندما تراها لأول وهلة تظن إنها متكبرة لكنها عندما تقترب منها تجد فتاة بسيطة جدا ابتسامتها تسبقها . تعرفت على ريما بعد وفاة جدتي بشهر تقريبا حاولنا أن نتقرب من بعضنا قدر الإمكان فكانت الفرصة مواتية عندما كان لزاما علينا أن نعمل معا في مشروع مدام ليلى التي كانت تدرسنا اللغة الفرنسية كانت عجوز شمطاء تعامل بالوجوه كما يقال باللهجة الجزائرية. كنت انا و ريما من بين المتفوقات في هذه المادة و نتقنها أحسن من أترابنا فكان علينا أن ندرسهم خوفا من المدرسة حتى نكون عند حسن ظنها و نتفادى ضربها. لقد كان يوم الاثنين المفضل لدينا حيث إننا كنا نذهب إلى حيث المدرسة و نلعب و نجري في كل مكان بالرغم مللنا منه لكن اللعب فيه في أوقات العطل له طعمه الخاص لقد كانت ريما من الشخصيات الأكثر تأثيرا على حياتي و نمطها. فقد كنا لا نفارق بعضنا البعض كنا نجلس أمام بيت منزلها فترغمنا أمها على الدخول إلى البيت و تفتح لنا التلفاز فتاتي لنا بكوب من الحليب الساخن و معه بعض من البسكويت كانت قد اعدته الينا خصيصا و تامرنا بانهائه و الاتجاه فورا الى غرفة المذاكرة و من ثمة الى النوم . لكن الملفت للنظر إنهم لا زالوا يحافظون على اللهجة الفلسطينية حيث إنهم يتحدثون بها في المنزل أما في الخارج فيحاولون التكلم باللهجة الجزائرية فتكون لهجتهم لها نكهة خاصة مختلطة أو كما يقال بين البينين, كنت دوما حريصة على أن تبقى علاقتنا متينة جدا حيث إننا كنا نتبادل المبيت و أحيانا أخرى كنا نبقى في بيتها بحكم عمل والديها و نحرص على إخوانها الخمس احمد ,محمود, رنا , حسين و الحسن, كان فعلا عمل شاق لكنه كان مسلي جدا أظن أننا قد استمتعنا بوقتنا آنذاك اتذكر مرة انه حينما كان الحسين صغيرا و قد اتسخت كل ملابسه . ريما كانت فعلا مثالا للصديقة الوفية لم نكن نعيش أو نضحك بأنانية. كانت أمها دوما تحكي لنا عن فلسطين و عن شوقها لها كانت تحكي لنا و عيونها تغرورق من الحزن تحاول ضبط نفسها لكنها ما تفتأ ان تخونها دموعها فتنزل غصب عنها كيف لا تبكي و هي تركت بلدها بقوة الاستعمار الغاصب كيف لا و قد اضطرت الى التشرد مع ابناءها و ان تكون بعيدة عن اهلها التي كان الشوق يزيد يوما عن يوم . كانت تقول دوما ان التراب الذي جمعنا هنا تراب أحبتنا و شهداءنا تراب طاهر أخاف أن أدوس عليه لأنه بمثابة التراب المقدس يذكرني دوما برائحة تراب قريتنا الصغيرة ثم تسكت لبرهة و تكمل أتمنى من كل قلبي ان ادفن حيث عائلتي ننظر انا و ريما بتعجب ثم تحاول ريما سرقة الصوت منها أمي ان شاء الله كما حررت الجزائر ستحرر بلدنا و نرجع معا و اكمل انا اجل ستتحرر و ترحلون و يكون بيننا زيارات و مجالسات و رحلات ثم اتابع اقول لها ماما مريم (كنت دوما اقول لها هذا اللقب لا ادري لماذا يمكن لطيبتها و حنيتها معي) هل تأخذينني معكي عندما تتحرر فلسطين؟ هل ساراها معكي اني فعلا مشتاقة لرؤيتها؟ تنظر الي بكل فرح و سرور و تجيب عن سؤالي و تضمنا الى صدرها اجل سنذهب كلنا الى هناك و نعيش بسلام و وئام ثم تطلب منا ان نكف عن اللعب و نذهب للدراسة قليلا ياتي والد ريما فيسلم علينا ثم يدخل الى غرفته يحاول ان ياخذ قسطا من الراحة حيث انه بعد الدوام يذهب مباشرة الى الحديقة التي كانت لديه و يعمل فيها قليلا و كان لديه الكثير من الحمام بحيث لا تقدر ان تحصيها هذا غريب فعلا بالنسبة لنا فأهل القرية هنا لا يهتمون بتربية الحمام الا الأطفال الصغار كهواية فقط لا غير لكن الاولاد يمنعونه بالرغم من ان الإعياء يسيطر عليه الا انه يحاول ان يكون سعيدا مع اولاده و فلذة كبده فيأتي كل واحد اليه و يحاول ابهاره بما فعله اليوم خصوصا الحسن و الحسين حيث كانا توامين فتجدهما دوما معه و يجعلونه فرحا مسرورا خصوصا مع الهبال الذي يفعلونه. يأتي دور ريما و دوري انا كذلك حيث انه بعد دخوله الى الغرفة ياتي لمجالستنا و يحاول ان يرى ماذا درسنا و اذا كان عندنا فروض منزلية فيرى أعمالنا و اذا وجدنا صعوبة ام لا في اللغة العربية و الإسلامية فقط أما المواد الأخرى فيقول لنا رفع عني القلم هنا لا افقه في أي شئ و يتبعها بضحكة هستيرية فتقاطعه ماما مريم بقولها كفاك ضحكا و تعالى الى العشاء حيث انها كانت تعد احلى الكسرة نشم رائحتها من بعيد فنحاول انا و ريما ان نكمل ما تبقى من الدرس لنجلس فوق المائدة فنجد احلى و اطيب الأكلات خصوصا الحمام المحشي الذي كانت تعده لنا عند قدومي الى منزلهم لانها تعلم حبي له. ان الملفت للنظر هو ذلك الإبريق الشاي الأخضر الذي لايفارقهم ابدا حيث انه كان لديه نكهة جميلة جدا لازلت أستسيغها لحد الان تقول ريما ان طريقة امي لعمل الشاي فريدة من نوعها... كانت والدة ريما تبتسم دوما لقد جعلتني فعلا ان احس بذلك الحنان المنبعث من صدرها كيف لا و هي لم تذق طعم الخلفة الا بعد 10 سنوات من الصبر لذلك تعتبر ريما هي الكبرى في ابناءها فتحاول دائما ان تجعلها نصب عينيها. كنا دوما انا وريما اسرارنا لبعضنا البعض لا نخفي شيئا ابدا حتى و ان كان بسيط كانت دوما تحكي لي عن عشقها لبلدها فبالرغم عدم معرفتها له الا ان الشوق و الحنين يسيطران عليها و كنت انا كذلك اعتبره و لازلت موطني الثاني في البادي كنت احبه لحب ريما و اهلها له اما الان فالحب قد عشعش في قلبي و جعلني اشتاق لرؤيته و مجالسة ريما بالرغم من ان العائلة كانت بسيطة الا ان الحزن كان دوما محيط بها لم افهم ذلك ابدا لماذا كل هذا الحزن بالرغم أني أرى دوما تلك الابتسامات و الضحكات التي تعلو بيتهم ما اجمل تلك الايام و ما احلاها وصلنا مزاولة الدراسة مع بعض الى غاية سنة 1998حيث كان الرحيل كم كان قاسيا علي هذا اجل لم استطع الاحتمال حتى انني توسلت الى ماما مريم ان تأخذني معها حتى اكون مع ريما حاولت ان تفهمني انها تتمنى ذلك لكنهم راحلون و لا يدروا ماذا هناك في غزة اجل لقد قرروا الرحيل الى غزة لم اكن اعلم ان هذا الرحيل سيؤثر في حياتي حتى ريما لم تستحمل هذا الرحيل الا انها كانت تظن انها سيلتئم شملنا يوما ما. كان يوما عصيبا لم استطع التحمل خصوصا انهم راحلون الى غير عودة راحلون الى المجهول بعد هذا الرحيل الكبير انقطعت كل الأخبار عني و عشت أياما عصيبة لم اقدر التحمل و محاولة معرفة أخبارهم حتى إنني أصبحت كالمجنونة كلما اسمع كلمة فلسطين في التلفاز. و شيئا فشيئا بدا أمل اللقاء بهم او سماع أخبارهم يخبوا لكن بعد مرور ثلاث سنوات وصلتني رسالة من ريما تذكرني بأيام مضت علينا. كتبت أيضا عن الجو الذي كانت تعيشه في غزة بالرغم أنها كانت حزينة لفراقنا الا إنها سعيدة لوجودها على ارض أجدادها و قد علمت أيضا ان السبب في التأخر عن الكتابة هو وفاة ماما مريم بعد عدة أشهر من دخولها الى ارض الوطن و كان القدر كان يعلم أمنيتها فقدر لها أن تتحقق حزنت فعلا لموتها لأنها فعلا بمثابة الأم الحنون و المرأة المناضلة المكافحة, قالت ريما في رسالتها الأولى و الأخيرة (الذي جمعنا هو صداقتنا و ارض بلدك الطاهر ولقد استنشقت هواءكم المنعش و ملئت رئتي به و أحسست إني طائر حر يغرد بين أغصان الطبيعة و يزيده غبطة و فرحا و يجعل قلبي يرقص من شدة المرح و الحب, حب اكبر من كل الأحزان التي كنا نعيشها على ترابكم المقدس كما كانت تقول أمي دائما رحمها الله و إني اليوم أقف بين تراب بلدي و قد أخذت حفنة من ترابكم الذاكي و مزجته بترابنا عله ينتعش و يتحرك أو يحدث زلزالا يدوم دهرا و يعيد لنا ما سلب منا. إني فعلا استنشق هواء بلدي و إني لسعيدة بهذا لأنه ليس أجمل من أن تكون ببلدك و بين أجدادك لكن هذا الهواء ملئ بالخوف و الرهبة ليس خوفا من الاستيطان الغاشم فحسب بل خوف على أن يستمر الوضع إلى غاية نهاية حياتي الفانية. إني أتمنى فعلا أن أعيش يوما حرة ببلد حر أعيش بين ماضي أجدادي و حاضري و مستقبل أولادي فهل هذا سيتحقق يوما؟ مع كل شروق شمس يوم جديد أتمنى فيه أن يكون آخر يوم نعيشه مع هذا الاستيطان الذي طال أمده لا ارغب ان يكون أولادي او ان يعيشوا كما عاش والديا متشردون بين بلدان عربية كثيرة محطة يحطون فيها الرحال و أخرى يرحلون منها و انتهى بهم الأمر الى بلدكم الحبيب حيث ولدت انا. ارجو فقط ان لا تحد صداقتنا شئ او تشوبها شائبة و ان توفي بوعدكي لي انك ستاتين يوما الي. عزيزتي دامت صداقتنا الى بعد المغيب مغيب شمسنا و حياتنا اختك ريما الفلسطينية ) لقد كان ردي لها كالتالي ( رحم الله والدتك التي كانت بمثابة الام لي ايضا لم تبخل عني بحنانها و حضنها الدافئ لقد كنت احس اني كلما حضنتها احضن بلدي العزيزة شعور جميل و مميز. اني فعلا اشعر بكل كلمة مما تقولينه احاول ان اكون مكانك لكني لا اقدر لاني لا استطيع فانا ترعرعت بحضن بلدي العزيز اما انتي فانتي كنتي يتيمة البلد لم تحسي بطعمه او حضنه فبالرغم انكي وجدتي حضنا اخر الا انه لايساوي حضن بلدك فحضنها اسمى و اجمل لا احد يحس به إلا الذي فقده.... عزيزتي اني اتمنى فعلا ان يكون لكم بلدا ووطنا لا يشارككم فيه احد. لكن التمني شئ و الفعل شئ آخر. لا اريد ان تعيشي على اثار الماضي بل عيشي مستقبلك و حاولي ان تبني احلاما بالرغم اني اعلم انها ستتهدم مع مرور الوقت. عزيزتي اني باقية على وعدي لكي يوما ما ساكون بجانبكي و نحاول ان نتذكر ذلك الماضي الذي جمعنا يوما ما في قرية صغيرة و كبرت احلامنا مع بعض اني فعلا افتقدك بكل المعاني و الكلمات لا تكفي لأصف ما في جعبتي شكرا لكي لمراسلتي و اتمنى ان يبقى حبل الود قائما بيننا اختكي سميرة الجزائرية) ان ريما بمثابة الارض الخصب الثيب التي لم تطا اقدامها احد الا العزيز فالعزة من كرامتها و عزيز قدرها كلامها و عنفوانها و طيبتها التي لا تقدر بثمن اظن اني تعلمت منها اشياء كثيرة لا تعد و لا تحصى اشياء لا يمكن نسيانها او تجاهلها. ريما اني لازلت احتفظ برسالتك بالرغم من مرور تلك السنوات عليها و ها انا ذا اتذكر كل ماضينا فهل انتي تتذكرينني. الآن و بعد مرور تلك السنوات و رحيلهم عن قريتنا و عن البلد بأسره لازال قلبي يخفق كلما ذكرتهم فاجد في كل فلسطينية ريما التي جعلتني بتلك الكلمات اعشق ارض فلسطين و اتمنى من كل اعماق قلبي ان أزورها و امشي على ترابها كما سرت انتي على تراب بلدي و املا رئتي بهوائها المنعش فهل لي بهذا الشرف العظيم؟؟ فهل ساكون معكي هناك نسرد حكايتنا لاطفالنا معا حكاية بدات بالجزائر و ان شاء الله ستكون نهايتها بفلسطين. اهداء الى الغالية
الى غاليتي ريمة كم افتقدك ارجو ان تكوني بالف خير
الى غاليتي ريمة كم افتقدك ارجو ان تكوني بالف خير









