تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية اث زيري
اث زيري
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 21-08-2009
  • الدولة : Algérie
  • المشاركات : 565
  • معدل تقييم المستوى :

    17

  • اث زيري is on a distinguished road
الصورة الرمزية اث زيري
اث زيري
عضو متميز
أقوام الجزيرة العربية وأصولها
30-10-2009, 08:17 PM
مقال من القدس العربي بقلم
سامي مهدي

أقوام الجزيرة العربية وأصولها

قرأت باهتمام مقال الأستاذ سليم مطر ( الرؤية القومية العروبيةفي دراسة التاريخ ) المنشور على موقع ( أدب وفن ) في جريدة القدس العربي بتاريخ ( 30/7/ 2009 ) . وأول ما لاحظته أن المقال حاول أن يتخذ لنفسه طابع الدراسةالتاريخية الموثقة في نقد تلك ( الرؤية ) ولكن سرعان ما ظهر لي أنه لا ينطلق منموقف علمي حيادي في دراسة التاريخ ، بل من موقف آيديولوجي _ سياسي مسبق ، فبدا ليمقالاً سياسياً أكثر منه بحثاً في التاريخ . وها قد مر على ذلك أكثر من شهرين مندون أن تتيسر لي ظروف مناقشته ، ولكن هذا لا يمنع من مناقشته الآن ، نظراً لماتضمنه من أفكار مثيرة للجدل .
يقول الأستاذ مطر في مقدمة مقاله ( إذا أردت أنتسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه بأن تاريخه تابع لك ، وإذا أردت تقسيمه يكفيك أنتقنعه أنه في تاريخه كان مقسماً ، بل يمكنك أن تصنع وطناً من لا شيء إذا نجحت أنتصنع تاريخاً خاصاً به ، وإسرائيل أوضح مثل على ذلك ! ثم أن التاريخ سلاح خطير لايمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود ، فإن لم تسارع إلى الاستيلاء عليهواستعماله لصالح وطنك ، فإن هنالك مختلف القوى الإقليمية والدولية تعمل ليل نهارلكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل مصالحها ويبرر إضعاف بلادك والسيطرةعلى شعبك . لهذا فإن مسألة ( ما هو الموطن الأصلي للساميين والعرب ) قد تبدو ثانويةمن الناحية المعرفية ، إلا أنها للأسف تعتبر من أخطر الإشكالات التاريخية التي تماستخدامها سياسياً في العراق خصوصاً ، وكذلك بلاد الشام ( ... ) بل بلغت المازوشيةإلى حد نفي أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الأصل الجزيري ) .
يتضح من هذهالمقدمة الساخنة الساخطة أن الأستاذ مطر غير راض عن التاريخ المكتوب ، ويشعر بأنهناك من استولى على تاريخ وطنه ، وهو يريد إعادة كتابة هذا التاريخ ، وصناعة تاريخخاص آخر ، وهذه مسألة لا تحتمل الحياد والبرود في رأيه ، لأنه إن لم يفعل ذلكفسيسارع غيره للاستيلاء على هذا التاريخ ، هذا إن لم يكونوا قد استولوا عليه فعلاً . ثمة إذن تاريخ مسروق ، سرقه العروبيون في رأي الأستاذ مطر ، ومقاله يهدف إلىاسترداد هذا التاريخ ، وهذا هدف آيديولوجي سياسي يتعارض ومتطلبات أي منهج علمي فيكتابة التاريخ . إذ ما يلبث الأستاذ مطر أن يقرر أن ( الهلال الخصيب ) هو موطنالحضارة التي نشأت منذ آلاف السنين إلى جانب الحضارة المصرية ، وأن سكان هذا ( الهلال ) الذين يسميهم ( ساميين ) هم صناع هذه الحضارة ، وأن من العبث البحث عنأصولهم خارجه ، ومن التعصب ، وربما التآمر ، أن ننسب هذه الأصول إلى ( الجزيرةالعربية ) . وبهذا نكتشف أن الأستاذ مطر يريد أن يقوّض ( حقيقة تاريخية ) يظنها منتلفيق ( العروبيين ) ليقيم على أنقاضها ( نظرية ) جديدة تضع ( الهلال الخصيب ) فيموضع ( الجزيرة العربية ) وبذلك يصنع لأفكاره الآيديولوجية أرضية تاريخية تلبيطموحها النظري والسياسي . وليس من شأني هنا مناقشة هذه الآراء فهو حر فيها ، بليهمني فقط تفحص المفاصل الأساسية في النظرية التي جاء بها والتعرف على مدى سلامتها . وهذا ما أحاول القيام به بهذه التعليقات .
الهلال الخصيب :
ما دام الأستاذمطر قد سيّس الموضوع فلابد لي من القول : إن الرجل لم ينتبه ، في ما أظن ، إلى أننظريته هذه تخدم آيديولوجيا محددة هي آيديولوجيا الحزب القومي الاجتماعي ، المعروفبالحزب القومي السوري ، أما إذا كان منتبهاً إلى ذلك فهذه مسألة أخرى تعنيه . ولكنكيف ؟
إن أول من استخدم تسمية ( الهلال الخصيب ) هو المؤرخ البريطاني هنريبريستد في كتابه ( العصور القديمة ) ، ثم تلقفه المفكر السوري الراحل أنطون سعادةوأدخله في أدبيات حزبه : الحزب القومي الاجتماعي ( السوري ) . والمعروف عن سعادةأنه كان يؤمن بأن هناك ( قومية سورية ) وبأن ( سوريا الكبرى ) كما يسميها القوميونالاجتماعيون ويكتبونها في أدبياتهم ، أو ( سوريا الطبيعية ) التي تضم كلاً من سوريةولبنان وفلسطين والأردن هي وطن ( الأمة السورية ) . ولكن يبدو أن سعادة رأى ، في مابعد ، أن ( سوريا الكبرى ) تبقى ناقصة ما لم يضف إليها ملحقات أخرى ، فأجرى تعديلاًعلى هذه الخارطة الحزبية عام 1947 وضم إليها كلاً من العراق والكويت وجزيرة قبرص ،لأسباب حضارية واقتصادية وستراتيجية ، وأطلق على خارطته الجديدة اسم ( الهلالالخصيب ) . وهنا أتساءل : هل هذا هو ( هلال ) الأستاذ مطر أيضاً كما يبدو من مقاله؟ إذا صح أنه هلاله فهذا يعني أن للمقال مرجعية آيديولوجية محددة ، وإذا لم يصحفهذا يعني أن الأستاذ مطر انهمك ، دون أن يقصد ، في كتابة تاريخ جديد يتفق مع هذهالمرجعية ويخدم أهدافها السياسية البعيدة ، وهو حر في ذلك أيضاً ، ولكن ليس علىحساب الحقائق التاريخية .
ما قبل التاريخ :
يمر الأستاذ مطر في مقاله مروراًسريعاً وعابراً على التطور الحضاري في المنطقة في عصور ما قبل التاريخ ، فيقولبإيجاز ( إن الهلال الخصيب ظل مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ، وفيهنشأت أولى المستوطنات الزراعية منذ الألف التاسع ق. م. وظهرت معالم الحضارة فيالألف السادس ق. م. في حسونة وسامراء وحلف والعبيد وأوروك وجمدة نصر ) . ولكن عبارة ( إن الهلال الخصيب ظل مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ) عبارة عامةمضللة . فحتى أواخر الألف العاشر قبل الميلاد لم يكن في هذه المنطقة سوى أعدادقليلة جداً ، ومتناثرة ، من بقايا إنسان الكهوف الذي عاش على الصيد وجمع القوت . وابتداء من هذا التاريخ بدأت القرى الزراعية بالظهور . ولكنها كانت قليلة جداً ،ومتباعدة ، هي الأخرى ، وسكانها قليلون جداً لا يتجاوزون عدة أسر صغيرة في أفضلالأحوال . وليس لدينا في كل ما يسمى ( الهلال الخصيب ) حتى الآن مثال لقرية زراعيةمتطورة نسبياً سوى القرية التي عثر عليها في موقع ( جرمو ) في العراق والتي يعودتاريخها إلى الألف السابع قبل الميلاد . ومع أن القرية التي عثر عليها في أريحا فيفلسطين توازيها في القدم ، ولكنها كانت أقصر عمراً وأقل تطوراً . ومع ذلك قدر سكانقرية موقع ( جرمو ) في آخر مراحل تطورها بنحو (150 ) فرداً ، وقدر عدد بيوتها بنحو ( 25 30 ) بيتاً . ولذلك فإن القول ( إن الهلال الخصيب كان مأهولاً بالبشر منذعشرات الآلاف من الأعوام ) يوهم بوجود كثافة بشرية مهمة فيه خلافاً للحقيقة .
ولكن من المهم أن نذكر أن هذا كله قد حدث قبل ظهور من سماهم الأستاذ مطربالساميين على مسرح الأحداث بآلاف الأعوام . فالذين أسسوا القرى الزراعية في مواقعزاوي جمي ، وكريم شهر ، وملفعات ، وكردي جاي ، وجرمو ، والذين أقاموا المراكزالأولى للحضارة في مواقع حسونة ، وسامراء ، وحلف ، فالعبيد ، فالوركاء ، فجمدة نصر، ليسوا ( ساميين ) ومصادرتهم بهذه التسمية الأسطورية الغامضة تجاوز على التاريخ . فليس ثمة دليل واحد يدل على أنهم كانوا ( ساميين ) لا بالمعنى العرقي ، ولا بالمعنىالحضاري . إنهم مستوطنون محليون ، عراقيون إن شئت ، يدل على ذلك التطور التدريجي ،والمترابط ، الذي حدث في هذا القطر منذ أقدم القرى الزراعية المكتشفة فيه ( زاويجمي / حوالي 9500 ق. م. ) حتى الدورين الحضاريين المعروفين بدور أوروك ( 3500 ق. م. ) ودور جمدة نصر ( 3000 ق. م. ) . وتؤكد هذا التدرج في التطور الحضاري حفريات تلشمشارة ( قرب رانية ) وتل الصوان ( قرب سامراء ) .
ومادام الأستاذ مطر يعترف بأن ( الموجة السامية الأولى ، وهي الأكدية الكنعانية ) ظهرت على مسرح الأحداث في نحو ( 2350 ق. م. ) فعليه أن يعترف أيضاً بأن مراحل التطور الحضاري التي تحدثنا عنها لميكن لمن يعدهم ( ساميين ) شأن فيها ، برغم أن الأكديين ( الساميين ) نزحوا إلىالعراق في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد . ومعنى هذا أن الأستاذ مطر يتعسف حينيقول ( إن الساميين أسسوا أولى الحضارات في تاريخ البشرية بجانب الحضارة المصرية ) . فالحضارة التي يعنيها كانت قواعدها الأولى قد وضعت وأقيم بنيانها وحققت منجزاتهاالأولى ( وأهمها اختراع الكتابة ) دون أن يكون للساميين دور واضح وملموس فيها . وليس صحيحاً أن يقول الأستاذ مطر لتسويغ قوله السابق : إن السومريين والساميينكانوا من ( نفس العنصر ) ، فلم يقل مثل هذا أحد من الباحثين ، بمن فيهم الباحث جورجرو الذي استشهد به ، بل قالوا العكس ، فالسومريون ( العراقيون ) هم السومريون ،والأكديون ( الساميون ) هم الأكديون ، ولكل من السومريين والأكديين لغته وثقافتهومعبوداته ومواطن سكناه في العراق ، وإن اندمجوا معاً بعد الألف الثاني للميلاد تحتاسم البابليين . وهذا لا يحط من قيمة الدور الحضاري الذي لعبه الأكديون ، ومن بعدهمالعموريون ، والكلديون ، في تاريخ العراق ، فهو دور عظيم ، بل يعطي لكل ذي حق حقهفي حدود مساهمته الفعلية في بناء الحضارة .
ولسبب غير مفهوم حرص الأستاذ مطر علىأن يضيف اسم الشام إلى اسم العراق ليجعلها شريكاً له في تأسيس هذه الحضارة ( التييعدها سامية ) والنهوض بها ، وهذه مصادرة أخرى لا تؤيدها الوقائع التاريخية . فمعأن مؤثرات أدوار حسونة وسامراء وحلف امتدت إلى الشام والأناضول ، غير أنها لم تفضِفي الشام ، ولا في الأناضول ، إلى نشوء حضارة أصيلة كالتي نشأت في العراق . والمثلالذي يستشهد به الأستاذ مطر لتسويغ إضافة اسم الشام إلى اسم العراق في هذا المجالهو : إيبلا ، في حين أن إيبلا ، على قدمها وأهميتها التاريخية ، لم يكن لها أي دورحضاري أصيل في التاريخ . وأقصد بالأصالة هنا : الإبداع . فإيبلا كانت ( تتلقى ) منجزات حضارة بلاد سومر وأكد وتستفيد منها ( كالخط المسماري وغيره ) ولا تبدع شيئاًتضيفه إليها . وليس في وسعنا ، في أية حال ، أن نتحدث عن حضارة إيبلاوية كما نتحدثعن الحضارة السومرية أو الحضارة الفرعونية أو أية حضارة أصيلة خلاقة . وقل مثل ذلكعن مدينة : ماري ، على الفرات . فهي ، إذا غضضنا النظر عن حدود سايكس بيكو ، مدينةعراقية بالمعنى الحضاري الكامل .
الساميون :
لا أتفق مع الأستاذ مطر علىاستخدام تسمية ( الساميين ) وإطلاقها على أقوام مثل : الأكديين والعموريينوالكلديين والكنعانيين والفنيقيين والآراميين والعرب وغيرهم . فهذه التسمية ليستعلمية ، وقد جاء بها المستشرق النمساوي اليهودي شلوتزر عام ( 1781 ) وبناها علىأسطورة توراتية تقسم الأمم والشعوب وتنسبها إلى أبناء نوح ومنهم ( سام ) جد ( الساميين ) المزعوم . وقد سعى إلى إشاعة هذه التسمية المستشرق الألماني إيشهورنوأطلقها مصطلحاً على أقوام المشرق العربي . وتمسك بها الآثاريون والمؤرخون الغربيونلأغراض غير علمية ، وربما غير نزيهة ، أقلها إضفاء مصداقية على مقولات التوراة ( التاريخية ) .
غير أنني أتفق مع الأستاذ مطر على أن هناك عدة نظريات ( ربما ستأو يزيد ) حول الوطن الأصلي الذي جاءت منه تلك الأقوام ، وأن واحدة منها فقط تجعلالجزيرة العربية وطناً أصلياً لها ، ولكنني وجدت أن هذه النظرية هي المعول عليهابين جمهور الباحثين حتى اليوم ، بخلاف ما يقوله الأستاذ فراس السواح الذي استشهد به . أما النظريات الأخرى فقد عفا عليها الزمن لضعفها وتهافتها . وبين يدي الآن قائمةبأسماء أكثر من عشرين عالماً من علماء القرنين التاسع عشر والعشرين ، وهم من جنسياتمختلفة ، يقولون بهذه النظرية من دون أن يكون أي منهم من العروبيين الذين يصبالأستاذ مطر نقمته عليهم . ولكن بعض هؤلاء ( مثل : فيلبي ومونتغمري ) يرى أن هذاالوطن هو : اليمن ، وبعضهم ( مثل : ورل وآرثر كيث ) يرى أنه : هضبة نجد ، وغيرهميرى أنه : الجزيرة العربية عامة . ولم يجتمع كل هؤلاء العلماء على اعتبار الجزيرةالعربية هي أمّ تلك الأقوام اعتباطاً وغفلة .
أما الأستاذ مطر فيرى أن الوطنالأصلي لمن يسميهم الساميين هو الهلال الخصيب وأطراف الجزيرة العربية الشمالية ،وقد أخذ هذا الرأي عن باحث واحد هو : جورج رو نفسه ، وهذا أخذه عن موسل في ما أظن . ولكن رو لم يقل هذا عن جميع الساميين كالأستاذ مطر ، بل قصره على الأكديينوالكنعانيين والفنيقيين والعموريين ، واستثنى من ذلك الأقوام اللاحقة ( أيالآراميين ، وعرب ما قبل الإسلام ، والعرب المسلمين ) . وحجته ( وهي الحجة التيتبناها الأستاذ مطر وجعلها ركيزة أساسية من ركائز مقاله ) أن الجمل لم يدجن ويستخدمفي التنقل في المشرق العربي إلا في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد ، وأن الاعتمادعلى الحمير في التنقل ، قبل هذا التاريخ ، لم يكن يسمح لمثل هذه الأقوام بالهجرةإلى مناطق بعيدة . وقد تبدو هذه الحجة منطقية في ظاهرها ، ولكن فات رو ، وفاتالأستاذ مطر من بعده ، أن الهجرات البشرية الأولى لم تكن كثيفة ، وكانت تتم بمتاعخفيف قليل ، وعلى مراحل تستغرق مدداً زمنية طويلة ، وإلا فكيف يمكننا أن نستوعباليوم وصول جماعات بشرية إفريقية إلى الهلال الخصيب قبل تلك الحقبة مثلاً ؟!
ومعذلك ثمة نظرية أخرى حول تاريخ تدجين الجمل واستخدامه في المنطقة تبدو أقوى من هذهالنظرية التي تقوم على الافتراضات والتخمينات وإن قال بها علماء مثل توينبيوأولبرايت ، وأخيراً جورج رو والأستاذ مطر . والنظرية التي أعنيها يذكرها الدكتورأحمد سوسة ، وهي تقول : إن الجمل قد دجّن واستخدم في المنطقة منذ أقدم العصور ،ودليلها على ذلك ما اكتشف فيها من صور له في نقوش يعود تاريخها إلى ما قبل الألفالثاني قبل الميلاد بكثير ، ومنها : صورة نقشت على صخرة في جبل ( طويق ) عند الحدودالجنوبية الشرقية للمملكة الأردنية في الموقع المسمى قلوة أو كلوة Kilwah يعودتاريخها إلى العصر الحجري الميسوليثي ، ويظهر فيها جمل ذو سنام واحد كالجمال التيشاع استخدامها في الجزيرة العربية وبادية الشام . ومنها أيضاً صورة أخرى لهجينوراكبه يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، وظهور الراكب في هذه الصورةيدل على أن الجمل قد دجّن واستخدم قبل تلك الحقبة بكثير . وظهرت صور للجمل في نقوشمصرية تعود إلى التاريخ نفسه ، أي إلى الألف الثالث قبل الميلاد . ويؤكد سوسة أنبعض العلماء أثبت وجود الجمال ذوات السنام وذوات السنامين في العهد الأكدي ، أي فيأواسط الألف الثالث قبل الميلاد ، وكان الأكديون يسمون هذا الحيوان باسم ( جملو ) أو ( إبلو ) وهما الاسمان المعروفان للجمل في اللغة العربية ، وفي اللغات الجزرية ( السامية ) الأخرى . ويبدو أن الجمل كان معروفاً منذ العصر السومري ، حسب سوسة نفسه، وكان السومريون يسمونه ( حمار أرض البحر ) والمقصود بأرض البحر هنا سواحل الخليجالعربي . وقد عثر في مدينة الوركاء العراقية المعروفة بـ ( أوروك ) وفي دور كوريكالزو ، عاصمة الكاشيين ، قرب بغداد ، على ألواح طينية نقشت عليها صورة هذا الحيوان . هذا وذكرت التوراة في سفر التكوين مرتين أن إبراهيم ( القرن التاسع عشر قبل الميلاد ) كان له قطيع من الجمال أيام وجوده في حران . ومثل ذلك ذكرت عن يعقوب . ويفهم منسفر القضاة أن المدينيين والعمالقة كانوا ( في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ) يغيرون بجمالهم على مستوطنات اليهود الزاحفين على فلسطين من سيناء .
فإذا صحتالمعلومات التي جاء بها أصحاب هذه النظرية ، ولا نراها إلاّ صحيحة ، فهي تنسفالنظرية الأخرى حول هجرة الجماعات البشرية ، وتنسف أيضاً الكثير من افتراضات جورجرو والأستاذ مطر وما بنياه عليها من استنتاجات . وعلى أية حال ، إن هجرة هذهالجماعات البشرية إلى مواطن بعيدة جداً عن ديارها الأولى كانت تحدث منذ أزمان سحيقةفي القدم ، بغض النظر عن نوع وسائل الانتقال ، بما فيها الأقدام ، والأمثلة على ذلككثيرة ، وعلى هذا الأساس يمكن الحديث عن هجرة الأكديين والكنعانيين والفنيقيينوالعموريين من الجزيرة العربية بغض النظر عن تاريخ تدجين الجمل .
ثم أن القولإننا لا نملك دليلاً على أن الأكديين والكنعانيين كانوا بدواً هو قول مردود ، فجورجرو ( ومن بعده الأستاذ مطر ) ينظران إلى ما أصبح عليه هؤلاء بعد مرور أكثر من ألفعام على هجرتهم إلى المناطق الخصيبة في العراق والشام واستقرارهم فيها ، وهي حقبةكانوا خلالها رعاة ، ثم زرّاعاً ، قبل أن يتحضروا ويشيدوا المدن ويكون لهم دور فاعلفي التاريخ . فالفاصل بين حقبة استقرار الأكديين في العراق مثلاً وبروز دورهمالحضاري يبلغ نحو ألف عام . أما العموريون فالدليل على بداوتهم موجود ، وحسبنا نصسومري يصفهم بأنهم ( بدو مخربون ، لا يعرفون السكن في البيوت ، ولا الزراعة ولاالحبوب ، ويعتمدون في قوتهم على استخراج الكمأة من الأرض ، ويأكلون اللحم نيئاً ،ولا يدفنون موتاهم ) .
إذن فاحتمال هجرة هذه الأقوام من الجزيرة العربية هوالمرجح هنا ، وليس العكس . فالدافع إلى الهجرة من الجزيرة كان موجوداً ، والوسيلةكانت متوفرة ، والطريق سالكة .
بادية الشام :
وليس صحيحاً أن بادية الشامكانت تسمى ( عربايا ) كما يقول الأستاذ مطر في مقاله . وهذه التسمية ليست أكديةمشتقة من ( غربا ) وتعني الغرب ، كما يذكر ، بل هي تسمية سريانية معناها ( بلادالعرب ) مثل ( ماتو _ أريبي ) الأكدية _ الآشورية . وقد أطلقت على المنطقة الواقعةبين نهري دجلة والفرات ، والتي تعرف اليوم بالجزيرة . وهي سميت بهذا الاسم بعد أنتدفقت إليها موجات من القبائل العربية النازحة واستوطنتها بعد سقوط الدولة الآشورية ( 612 ق. م. ) وسقوط الدولة الأكدية ( 539 ق. م. ) وربما قبل ذلك بقليل . وقد وردتالتسمية نفسها في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) إقليماً من أقاليم الإمبراطوريةالإخمينية في عهد دارا الكبير نهاية القرن السادس قبل الميلاد ، ثم أطلقت في ما بعدعلى مملكة الحضر التي أسسها هناك هؤلاء النازحون ( 85 _ 241 م ) وليس للعروبيين فيهذا أي ذنب .
هذا أولاً ، وثانياً ليس صحيحاً أن بادية الشام ( منفصلة عملياًعن الجزيرة من ناحية التكوين البيئي والارتباط المباشر الطبيعي والسكاني بالعراقوالشام ) كما يقول الأستاذ مطر في هذا المقال ، بل هي امتداد جغرافي طبيعي لها منذوجدتا ، وتكفي نظرة واحدة إلى الخارطة وما يظهر عليها من تضاريس لاكتشاف هذهالحقيقة . فليس بينهما أية موانع طبيعية ( كالبحار والسلاسل الجبلية والأنهارالعظيمة ) تفصلهما وتعيق الاتصال بينهما والانتقال من إحداهما إلى الأخرى بأيسرالوسائط . وطبيعة أراضي البادية الجنوبية امتداد لطبيعة أراضي الجزيرة الشماليةالغربية . ومناطقها البركانية هي امتداد لسلسلة جبال السراة البركانية . وقد كانتالرياح الغربية التي تحمل الأمطار إلى مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنةالغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد رطوبتها . وعدا ذلك كانت البادية (وظلت حتى عهدقريب) هي المنفذ البري الرئيس والمفضل لسكان نجد والحجاز إلى العراق والشام ،وعبرها مرت الخطوط التجارية بين اليمن وسواحل البحر الأبيض المتوسط ، وبين هذهالسواحل وسواحل الخليج العربي . ومن يدرس تاريخ المدن الثلاث ( تيماء ، ودومةالجندل ، وسلع أو بطرا ) تتكشف له بجلاء قوة الارتباط والتواصل بين الباديةوالجزيرة ، والمقيمين هنا وهناك ، ويظهر له أن نزوح أقوام الجزيرة إلى العراقوالشام كان يبدأ بنزوحهم إلى هذا المثلث وما حوله حتى قبل نشوء هذه المدن ( الواحات ) وظهورها على مسرح الأحداث في أوائل الألف الأول قبل الميلاد ، بل أن نواة كلمدينة من هذه المدن تكونت بفعل النزوح المستمر من الجزيرة إلى البادية ، ثم نمتوازدهرت بفعل الحركة التجارية التي نشطت في تلك الحقبة ، حتى أصبحت من أهم المحطاتالتجارية وأشهرها ، وقد كانت تقطنها مجموعات بشرية من قبائل عربية شتى ، شماليةوجنوبية ، وبعضها ممن غلب عليها اسم العرب البائدة كالثموديين . وكان ملوك العراقالقديم ، من بابليين وآشوريين وكلديين ، يحرصون على إخضاع هذه المدن ، وخاصة تيماءودومة الجندل ، بالقوة أو بغيرها من الوسائل ، لتأمين خطوط تجارتهم الخارجية مع مصروسواحل البحر الأبيض المتوسط وسد الطريق على القبائل البدوية التي تغير عليها . وهكذا يظهر أن الفصل الذي يقيمه الأستاذ مطر بين بادية الشام وجزيرة العرب هو فصلمتعسف وليس له أي أساس مادي على الأرض .
وقد أسهب الأستاذ مطر في وصف طبيعةبادية الشام ليقنعنا بأنها هي الوطن الأصلي ، وليس المؤقت ، الذي انتشر منه منسماهم بالساميين . ولكنه لم يقدم دليلاً مقنعاً بأن هذه البادية تصلح لأن تكونوطناً أصلياً لقوم من الأقوام . فالأوطان الأصلية تنشأ حيث تتوفر مقومات العيشوالاستقرار لأمد طويل ، وأولها وجود موارد مائية ثابتة وكافية على مر الفصولوالأعوام ، ولحقبة زمنية طويلة بحيث تسمح بالاستيطان والنمو والتكاثر ، وهذا ما لميتوفر لبادية الشام منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم . فبرغم أن معدل أمطارها السنويةيقدر بحوالي 127 ملم ( حسب الأستاذ مطر ، وهو ما لم يتسنّ لي التأكد منه ) لا تكفيهذه الكمية من مياه الأمطار لنشوء وطن أصلي لتفريخ البشر وتصديرهم إلى الأقطارالمجاورة في دفعات متعاقبة ، صغيرة وضخمة ، عبر آلاف السنين ، بل يمكن فقط أن تكونمرعى موسمياً مؤقتاً ومعبراً للنازحين ، كما كانت منذ ما قبل التاريخ حتى نشوءالدول العربية المعاصرة ، بل حتى بعد نشوئها بقليل . ذلك لأنها تفتقر افتقاراًشديداً إلى عيون المياه ومجمعاتها التي تسمح بإقامة نظم ري كفؤة وثابتة تساعد علىالاستقرار وتسمح بالاستيطان والتكاثر وتصدير البشر . ولذلك ندرت في داخلها الواحاتوتحولت إلى مراع شتوية _ ربيعية مؤقتة ، ولم تستطع أن تستوعب إلا جماعات صغيرةقليلة العدد من الرعاة وشبه الرعاة ، تعيش على هوامش المراكز الحضارية وتتسلل إليهابمرور الزمان . وكان هذا هو شأنها في الماضي ، وهذا هو شأنها اليوم ، وهو ما كانيدفع النازحين إليها من الجزيرة العربية إلى تصيّد أقرب الفرص للنزوح منها إلىالمناطق الخصيبة المتحضرة ، وإن عزت عليهم الفرص صنعوها هم بأنفسهم ، بالغزو أوبغيره .
أما ما ذكر الأستاذ مطر من مدن يقول إنها نشأت في البادية فهي لا تتجاوزثنتين ، هما تدمر وبطرا ، أو ثلاثاً ( بإضافة بصرى إليهما ) . وهذه المدن لم تنشأفي البادية نفسها ، بل على أطرافها ، وهي نادرة وقصيرة العمر ، وكان وقوعها على طرقالتجارة هو العامل الحاسم في نشوئها وازدهارها في الحقبة التي نشأت فيها ، وكان هوالسبب أيضاً في طمع الإمبراطوريات القديمة فيها وسعيها لبسط نفوذها عليها ، وقد جلاأغلب سكانها عنها بمجرد أن غزيت وتحولت عنها الطرق التجارية . ولو كانت البادية علىما يصوره لنا الأستاذ مطر لكانت اليوم تعج بالمدن المزدهرة ، بدلاً من كونها معبراًمملاً للمسافرين .
لهذا يتعذر قبول فكرة أن بادية الشام كانت وطناً أصلياً لأيقوم من الأقوام ( السامية ) بل كانت معبراً لهم من الجزيرة العربية في رأي أغلبالعلماء والباحثين ، وليس للعلماء العراقيين الذين يلومهم ، ولا للعروبيين الذينينقم عليهم ، يد في ذلك . ووجود كهوف ومغارات ومدافن في هذه البادية أمر طبيعي ،فما أكثر ما مر بها من أقوام تبحث عن وطن جديد ، ولكنه لا يدل على وجود وطن أصليلأية جماعة بشرية متوسطة ، أو كبيرة كالعموريين والآراميين مثلاً . فمثل هذهالجماعات لا يتكون في المناطق الرعوية ومواسمها المتقلبة ، بل في الأماكن التيتتوفر فيها مقومات الاستيطان الطويل . ولذا لم تستقر فيها الأقوام التي نزحت إليها، بل نزحت منها إلى مراكز الحضارة . فالعموريون مثلاً نزحوا في موجات متعاقبة صغيرةوكبيرة إلى جنوب العراق ووسطه وشماله ، ونزح آخرون منهم إلى أعماق بلاد الشام ،وأسسوا ، في العراق والشام ، ممالكهم وإماراتهم بالقوة وبدونها . وقل مثل ذلك عنالآراميين . فهؤلاء نزحوا إلى حيث تتوفر لهم موارد ثابتة من مياه الأنهار والأمطارفتغلغلوا في عمق سورية ( الحالية ) وانتشروا على ضفاف الفرات الأعلى وفروعه ووصلواأطراف الأناضول وتسللوا إلى أراضي الجزيرة ( بين دجلة والفرات ) وأسسوا إماراتصغيرة حيثما استطاعوا في هذه الأصقاع .
جزيرة العرب :
كانت جزيرة العرب فيالعصر البلايستوسيني ( قبل الميلاد بعشرة آلاف عام أو أكثر ) أرضاً خضراء ، غزيرةالمياه ، معتدلة المناخ ، عامرة بالحياة النباتية والحيوانية ، ثم تصحرت ، وأخذتتزداد تصحراً على مر العصور ، وتطرد سكانها تدريجياً إلى بادية الشام في موجاتصغيرة وكبيرة من حقبة زمنية إلى أخرى ، ولم يسجل التاريخ من هذه الموجات إلا تلكالتي أحدثت تحولات سكانية وحضارية وسياسية .
إن خضرة الجزيرة العربية حقيقةتاريخية تدل عليها جغرافيا الجزيرة نفسها ، وتؤكدها الكتابات القديمة ، شاء جورج رووفراس السواح أم أبيا . فصورتها التي نعرفها اليوم كانت غيرها في الأمس البعيد ،وخاصة مناطقها الصحراوية الحالية . ففي الجزيرة عدة وديان كبرى كانت تجري فيهاأنهار عظيمة تخترقها من شتى الجهات أهمها : وادي حنيفة الذي يبدأ من منحدرات جبلطويق الغربية ويتجه شرقاً نحو الخليج العربي ولا يصل إليه ، ووادي الحمض الذي نشأتمدينة يثرب على أحد فروعه ، وكان نهر هذا الوادي يصب في البحر الأحمر . وواديالسرحان الذي كانت مياهه تنبع من شرقي جبال حوران وتخترق سهول الجزيرة الشماليةلتصب في الخليج العربي . ووادي الرمة الذي كانت مياهه تنبع من شرقي جبال مكة وتتجهشرقاً لتصب في بحر عمان بعد أن تنضم إليها عدة فروع . ووادي الدواسر ، وكانت مياههتنبع من شرقي اليمن وتتجه شمالاً فتخترق الربع الخالي ثم تتصل بوادي الرمة علىمقربة من الخليج العربي . غير أن هذه الوديان جفت منذ زمن بعيد ، ولم تعد بالعمقالذي كانت عليه ، ولكن آثارها الباقية تدل على أنها كانت مجاري أنهار عظيمة ، وأصبحبعضها مجاري للسيول ومراكز مؤقتة لتجمع المياه في المواسم المطيرة ، قبل أن تتحولإلى مياه جوفية .
ويذكر برترام توماس صاحب كتاب ( العرب ) أنه وجد بقايا بحيرةفي الربع الخالي عند منخفض ( أبو بحر ) ، كما لاحظ في حينه أن وادي الرمة ما يزالمليئاً بالصخور الرسوبية والحصى ، وهذا يدل على أنه كان في القدم مجرى نهر غزيرالمياه . ويؤكد الدكتور احمد سوسة وجود بقايا بحيرات مليئة بالمياه في بعض المناطقالصحراوية ، ويذكر أن في منطقة الخرج ، مثلاً ، عدة بحيرات في وسط الصحراء استغلتهاالحكومة السعودية في زراعة الأراضي المجاورة . وقد درس سوسة ، كما يقول ، هذهالبحيرات عندما أوفدته الحكومة العراقية على رأس بعثة فنية لإقامة مشروع ري عليهامنذ بضعة عقود . وتقع منطقة الخرج هذه جنوب شرقي الرياض ، وتوجد فيها خمس بحيراتمنها أربع تقع جنوبي اليمامة ، والخامسة تقع جنوبي منطقة الخرج بمسافة تقرب من مائةكيلومتر . وأهم هذه البحيرات ثلاث تبلغ مساحة كل منها أكثر من أربعة آلاف متر مربع، ويصل عمق مائها إلى أربع مائة قدم ، ويتصل بعضها ببعض بمجار جوفية . وقد عثرالعاملون في شركة أرامكو النفطية على صهاريج أرضية شبيهة بها متصلة بأنفاق وعليهافتحات متعددة لاستقاء الماء في القطيف والأحساء والفلج وأواسط نجد وأماكن أخرى تعداليوم من المناطق الصحراوية ووجدوا على مقربة منها آثار قرى كانت عامرة وذات مزارعواسعة ، وهذا يدل على غزارة المياه الجوفية التي كانت تختزنها في الماضي .
هذهالبحيرات والصهاريج ، وتلك الوديان ، دليل على أن الجزيرة العربية لم تكن كمانعرفها نحن اليوم ، بل ربما لم تكن فيها أية صحارى في الماضي السحيق . ولكن التصحرحدث في حقبة بعيدة ، وتزايد بمضي القرون في خضم التحولات المناخية التي طرأت علىالعالم وعلى الجزيرة نفسها ( مثلما يحدث اليوم في القارة الإفريقية ) فراح يدفعببعض سكانها حين يتكاثرون وتشح مياههم إلى الرحيل عنها والبحث عن مواطن أخرى أكثرخصباً منها ، أو أقل جدباً ، ولذا اتخذت هجرة هؤلاء السكان شكل موجات متعاقبةومتباعدة .
ويبدو أن الوضع في الجزيرة كان في أواسط الألف الأول قبل الميلادأفضل مما أصبح عليه في القرون اللاحقة . فقد ذكر هيرودتس ( 484 425 ق. م. ) خبر ( نهر عظيم ) في بلاد العرب سماه ( كورس ) يصب في البحر الأحمر وقال إن ملكهم عمل علىنقل المياه من هذا النهر إلى الصحراء على مسيرة اثني عشر يوماً من ضفته ، وربما قصدهيرودوتس بذلك وادي الحمض . وبعد أربعة قرون أو نحوها ذكر ديودروس الصقلي ( 80 ق. م. _ 40 م ) أن بلاد العرب التي تقع في الشمال من العربية السعيدة ( أي اليمن ) وتمتد حتى سورية ( يتخللها كثير من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكونلسكانها بذلك موسمان زراعيان في السنة الواحدة ) . أما بطليموس ، وهو من رجال القرنالثاني الميلادي ، فذكر اسم ( نهر عظيم ) آخر من أنهار الجزيرة سماه ( لار ) وذكرأنه ينبع من منطقة قرب نجران ، ويرى المختصون أن المقصود به وادي الدواسر .
ويبدو أن الجزيرة أصبحت أكثر تصحراً في العصر الجاهلي فاضطرت بعض قبائلها إلىالنزوح من مواطنها نحو العراق والشام وسواحل الخليج العربي . ومع ذلك يعرف المطلعوناطلاعاً واسعاً على شعر هذا العصر ، وعلى مؤلفات البلدانيين العرب ، أن القبائلالعربية لم تكن قبائل جوالة ، كما يتوهم المتوهمون ، بل كانت لها مستوطنات وداراتثابتة عند عيون المياه وتجمعاتها وآبارها ، وكان لكثير منها مدن ( يسمونها قرى ) تقطن فيها وعلى أطرافها . ولو أخذنا الحجاز مثلاً وبدأنا من نجران على تخوم اليمنواتجهنا شمالاً نحو بادية الشام ، لوجدنا سلسلة من المدن والواحات منها : نجران ،وجرش ، وتبالة ، والطائف ، ومكة ، ويثرب ، ومية ، وخيبر ، والعلا ، وتيماء ، وتبوك، وصولاً إلى دومة الجندل . وعدا هذه المدن كان ثمة عيون مياه كثيرة ومستوطناتثابتة وحِرار ( جمع حرّة ) ودارات على امتداد الحجاز وجباله ووديانه . وهذا لايقتصر على الحجاز وحده ، بل يشمل هضبة نجد واليمامة وسواحل الخليج العربي . وقد بلغعدد دارات الجزيرة حسب الفيروز أبادي نحو ( 110 ) دارات ، وهي ليست كل الدارات بلما تمكن هذا الرجل من إحصائه . والواقع أنه ما من قبيلة ( أو بطن من بطونها أو فخذمن أفخاذها ) إلا وكان لها ( أو له ) موطن مستقر عند مورد مائي ثابت يغزر حيناًويشح حيناً آخر بحسب الأمطار ومدى غزارتها في المواسم . ولذا يندر أن كانت القبائلتتنازع من أجل المياه ، وأشهر النزاعات التي نشبت لهذا السبب هو النزاع بين قبيلةطيء ( القحطانية ) وقبيلة أسد ( العدنانية ) حول جبلي أجأ وسلمى ( جبل شمّر اليوم ) في شمالي نجد . ولكن غالباً ما كان تقلب المناخ وشح المياه وتكاثر السكان ما يدفعالقبائل للنزوح . فقبيلة إياد ( العدنانية ) مثلاً كانت تقيم في تهامة ، ولما شحتمياهها وكثر أبناؤها نزحت بطون منها نحو سواحل الخليج العربي ، ونزحت أخرى نحوالعراق . ونزح بعض الأزد من اليمن إلى تهامة فنزلوا عند عين يقال لها ( غسان ) ثمشح ماؤها فنزحوا إلى الشام ، وهؤلاء هم من عرفوا في ما بعد بالغساسنة . وكان رعاةقبيلة بكر بن وائل يشتون في الجزبرة العربية ويصيفون في بوادي العراق ، بل أن بعضهم ( بني شيبان وبني يشكر) نزح إليه واستوطنه . ويمكننا أن نقيس ما كان يحدث من هجراتفي الماضي البعيد بما كان يحدث في العصر الجاهلي . فما حدث في هذا العصر يعطيناصورة واضحة مشابهة لما كان يحدث قبله ، وهو أيضاً ما كان يحدث حتى عهد قريب ، حيننزحت بطون من قبائل شمر وعنزة وغيرهما إلى بوادي العراق والشام .
هذا كله يعنيأن الجزيرة العربية ، بعكس بادية الشام ، كانت تتمتع بكل مقومات الوطن الأصليالقادر على استيعاب أعداد كبيرة من البشر ، ولكن التصحر المطّرد وشح المياه ، فيمقابل تكاثر السكان ، هو ما كان يدفع بأقوامها إلى النزوح . وهذه حقيقة ليس في وسعالأستاذ مطر ، ولا الأستاذ فراس السواح ، إلغاؤها باجتهاد متحيز .
أصل العرب :
لا يكتفي الأستاذ مطر بجعل بادية الشام وطناً أصلياً للأقوام ( السامية ) بليجعلها وطناً أصلياً للعرب أنفسهم ، ويتبنى في ذلك تقسيماً أسطورياً حول أصل العربوضعه الأخباريون والنسابون بعد ظهور الإسلام بمدة طويلة . فقد قسم هؤلاء العربَ إلىقسمين : عرب بائدة وعرب باقية ، ثم قسموا العرب الباقية إلى قسمين : عرب عاربة وعربمستعربة . فأخذ الأستاذ مطر بهذا التقسيم وكيفه على هواه ، واتخذه هيكلاً لبناءنظريته حول أصل العرب . فقد وافق على وجود أقوام ( بادت ) بالمعنى الحضاري فيالجزيرة العربية ، ولكنه رأى أن هؤلاء لم يكونوا ( ساميين ) ولا ( عرباً ) بل منأصول هندية وبلوشية وفارسية ( وفاته أن يضيف إليهم ذوي الأصول الإفريقية ! ) وأطلقعليهم تسمية ( جنس المحيط الهندي ) . ثم قرر أن ( العرب العاربة ) هم جماعات سامية ( عراقية كنعانية ) قدمت إلى الجزيرة من الهلال الخصيب عن طريق البحر ، وأسست لها ( قواعد بحرية ومستعمرات تجارية عديدة في البحرين وقطر وعمان وحتى اليمن ) . بل هوتحدث عن وجود كنعاني في قطر ، ووجود فنيقي في سواحل عمان والفجيرة وخور فكان ،وأشار أيضاً إلى دور ( عراقي كنعاني ) في نقل ما سماه ( الثقافة السامية ) واللغةالسامية ( الأكدية والكنعانية ) إلى الجزيرة وتأسيس أول حضارة نشأت فيها ، وهي فيرأيه ( الحضارة السبئية ) في اليمن ويؤرخها بحدود الألف الأول قبل الميلاد .
أما ( العرب المستعربة ) فهم ، كما يعتقد الأستاذ مطر ، آراميون هاجروا من ( الشمالالعراقي- السوري إلى الجزيرة بعد شيوع استخدام الجمل في التنقلات ، وأسسوا هناكأولى معاقل الاستيطان مثل يثرب ومكة ) . ثم أنهى كلامه عن العرب بما يفيد أن فرضيةهجرة ( الساميين ) من الشمال إلى الجزيرة تفسر لنا الفرق الواضح بين جنسين : غالبيةسكان شمال الجزيرة ووسطها هم من ذوي البشرة الفاتحة ، ثم غالبية سكان الجنوبوالسواحل من ذوي البشرة السمراء وشكل المحيط الهندي .
هكذا بنى الأستاذ مطرنظريته حول أصل العرب . والحق أنه لا وجود في التاريخ لعرب عاربة وعرب مستعربة ،ولا ذكر لهذا التقسيم في المصادر القديمة المكتوبة كالسجلات الملكية الآشورية ،والكتابات اليمنية ، والتوراة اليهودية ، والمؤلفات اليونانية والرومانيةوالبيزنطية والسريانية . وهو لم يذكر في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم ، ولا فيأحاديث الرسول محمد ( ص ) ، ولم يتحدث به أحد من الخلفاء الراشدين ، ولا حين تنازعتالقبائل ( العدنانية ) و( القحطانية ) قبل ظهور الإسلام ، ولا حين تهاجى شعراءالمشركين وشعراء الأنصار ، ولكنه ظهر بعد ظهور الإسلام بمدة طويلة حين نشأت الحاجةإلى تفسير بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ومنها ما يتعلق بالأقوامالخالية وبتاريخ العرب قبل الإسلام وأنسابهم في خضم الصراعات السياسية التي نشبتبين العرب المسلمين . والصحيح أن سكان الجزيرة عرب في كثرتهم الكاثرة ، بعضهم كانيقطن اليمن وحضرموت وظفار وبعضهم انتشر في أنحاء الجزيرة الأخرى ، وقد يصح أننسميهم عرب الجنوب وعرب الشمال ، ولكن لا يصح أبداً أن نسميهم بالعرب العاربةوالعرب المستعربة . والغريب أن الأستاذ مطر أخذ بهذا التقسيم المصطنع برغم أنه يعدهضرباً من ( الحكايات الشعبية ) . فهو يرى أن هذه الحكايات لابد لها من أصل ، ولكننيأظن أنه فعل ذلك لأن به حاجة إليه لترميم صدوع نظريته . ومع ذلك سنناقش ما جاء بهفي هذه النظرية .
العرب البائدة :
العرب البائدة حسب الأخباريين هم : عادوعبيل وطسم وعمليق وجاسم وحضرموت والسلف وأميم والعوذ وثمود وجديس ووبار وجرهمالأولى . وعلى الرغم من تفاوت الأخباريين والنسابين في ذكر أسماء هذه الأقوام فإنكثرتها تدل على كثرتهم . فعددهم ، كما يقدر بعض المؤرخين ، ثلاثة عشر قوماً . ومعأن تقسيم العرب إلى بائدة وباقية لا ذكر له في المصادر القديمة المكتوبة قبل ظهورالإسلام ، فإن عدم ذكره لا ينفي وجود أقوام بادت فعلاً ، أو تشتت ، أو ذابت فيغيرها ، أو نزحت من مواطنها وسميت بأسماء أخرى في مواطنها الجديدة ، ولم يبق منهاسوى ذكريات غامضة تناقلها الرواة والأخباريون وحاكوا حولها الأساطير على مر القرون . فورود ذكر بعضها ( مثل : عاد وثمود وطسم وجديس ووبار وعبيل وعمليق ) في المؤلفاتالكلاسيكية ، وفي التوراة ، وفي الشعر الجاهلي ، والقرآن الكريم ، يعني أنها كانتموجودة ، وعدم ذكر بعضها لا يعني عدم وجودها في الماضي ، أو وجود بعضها في الأقل . وبناء عليه لا يستبعد ، وهذه وجهة نظر شخصية ، أن بعضها كان ممن هاجر إلى العراقوالشام وعرف في ما بعد باسم آخر ، فأسماء مثل الأكديين والعموريين والكنعانيينوالفنيقيين .. إلخ هي أسماء طارئة على الأقوام التي سميت بها وليست أسماء أصلية .
إذن فوجود أقوام عُدّت ( بائدة ) بالمعنى الحضاري فيالجزيرة العربية يبدوحقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها ، ولكن الأستاذ مطر اجتهد فرأى أن هؤلاء ليسوا ( ساميين ) وليسوا ( عرباً ) بل هم من ( جنس المحيط الهندي ) . وهذا يعني أن الجزيرةكانت خالية إلا من هؤلاء ، وهو افتراض عجيب ، أثبتت التنقيبات المتأخرة في عمان ،في الأقل ، ضعفه وضلاله .
ترى كيف عرف الأستاذ مطر أن الجزيرة كانت خالية إلا منهؤلاء ، وأن هؤلاء كانوا من جنس المحيط الهندي حصراً ؟ ومن قال ذلك ؟ إنه يستخدمهنا جملة عامة غامضة يقول فيها ( تخمن البحوث ) أنهم كانوا كذلك ! فهو إذن يعتمدعلى ( التخمين ) ليضع افتراضه في مصاف الحقائق التاريخية . ولكنه لا يقول لنا أيةبحوث إنثربولوجية تلك التي أطلقت هذا الزعم فاعتمد عليها ، فهو لا يحدد هنا ولايوثق ، بل يتجاوز الأمر ليستدل على وجود تلك الأقوام ، في ذلك الماضي البعيد ، بمايراه اليوم في سواحل الخليج العربي وعمان من ذوي البشرة السمراء الداكنة ، ويحاولأن يقنعنا بأن هؤلاء هم أحفاد أولئك ، متناسياً كل الموجات التي توافدت على هذهالسواحل عبر آلاف السنين بسبب حركة التجارة ، وكل العمالة الوافدة التي أغرقتهابتدفقاتها خلال النصف الثاني من القرن العشرين !
ولكي يتفادى الأستاذ مطر أيسؤال عما ترك هؤلاء من آثار حضارية أو كتابية تدل على وجودهم وطبيعة ثقافتهم ، بعدأن بادوا ، فإنه يخبرنا بأنهم ظلوا يعيشون في العصر الحجري حتى الألف السابقللميلاد ، أي حتى قدوم الساميين إلى الجزيرة كما يقول . وهو يحدد هذا التاريخ حتىلا يحتج عليه أحد بعدم وجود آثار مادية أو كتابية تدل على وجودهم في الجزيرةوسواحلها قبل العرب أجمعين ؟إنني لا أنفي احتمال وجود أفراد من ذلك الجنس علىتلك السواحل منذ القدم ، ولكنني أستبعد أن يكونوا أكثر من أقلية صغيرة مشتتة جاءتبها حركة التجارة بين بلاد الرافدين والهند على مدى ثلاثة آلاف عام ، وأتوقع أنعددهم قد زاد حين نشطت حركة التجارة بين سواحل الخليج العربي واليمن والبحر الأبيضالمتوسط خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد ، ولكنهم ليسوا من سكانالجزيرة الأصليين في أية حال . إنهم جالية وافدة لا أكثر ولا أقل ، شأنها شأنالجالية الرافدينية المحتمل وجودها هناك . فهم ليسوا العرب البائدة كما يرى الأستاذمطر ، بل هم وافدون كما يطلق على أمثالهم في الخليج اليوم .
وثمة حقيقة أخرىتؤكد ذلك ولم يلتفت إليها الأستاذ مطر على ما يبدو ، وهي أن الإشارات الواردة عنالعرب البائدة في المؤلفات اليونانية والرومانية ، وفي التوراة ، وفي الشعر الجاهليوالقرآن الكريم ، تبين أنهم لم يكونوا كلهم من سكان السواحل ، فبعضهم كان يستوطنالحجاز ، وبعضهم كان يستوطن اليمن وحضرموت ، وبعضهم كان في الأحقاف ، وبعضهم فياليمامة ، وبعضهم في عمان ، أي أنهم كانوا منتشرين في شتى أرجاء الجزيرة وليس فيسواحلها الشرقية والجنوبية فحسب ، فهم هم مواطنوها الأصليون وليسوا أولئك الذينوفدوا على تلك السواحل من الهند أو غيرها بفعل حركة التجارة بين الهند والجزيرةالعربية وبلاد الرافدين .
وبعد هذا كله علي أن أذكر أن تنقيبات أجراها ( عام 1992 ) فريق من رجال الآثار البريطانيين والاميركيين بالاشتراك مع باحثين عمانيينيقودهم رانولف فاينز ، كشفت عن بقايا مدينة في صحراء الربع الخالي جنوبي سلطنة عمان . وقد أعلن هذا الفريق أن هذه المدينة هي ( وبار ) التي ذكرها بطليموس من المؤلفينالكلاسيكيين ( وذكرها الأعشى من شعراء الجاهلية في إحدى قصائده ) . وقدر عمرها بين ( 2800 ق. م. 300 م. ) . أما هذه التنقيبات فجرت استنادا إلى صور التقطها رادار وضععلى المكوك الفضائي الأميركي 'تشالنجر' يصاحبه قمر صناعي لرسم الخرائط كشف وجود هذهالمدينة مطمورة تحت الرمال . وأظهرت الصور آثار نبع قديم للماء جف منذ عهد بعيدجداً ، فقرر فاينز الحفر في الموقع الذي حددته ، وحين أزيحت الرمال في هذا الموقعانكشفت عن بقايا مدينة ذات أسوار وأبراج ، عثر فيها على جدران عريضة ، وقواعدلأبراج حراسة ، وعدة أعمدة ، ولقى أثرية منزلية ، وتبين أن المنطقة التي كشف عنها ،تربض على جرف كلسي فوق بحيرة من المياه الجوفية . وذهب بعضهم إلى أن هذه المدينة هيإرم ذات العماد التي ذكرت في القرآن الكريم ، وهذا احتمال لا يجوز إهماله ، لأن قومعاد كانوا يقطنون هذه المنطقة ( الأحقاف ) وكانوا من الأقوام الكبيرة ، بعضهم بادفعلاً بفعل الكارثة التي حلت بهم ، وبعضهم نزح إلى شمال غربي الجزيرة .
وسواءكانت هذه المدينة هي وبار ، أم إرم ذات العماد ، أم غيرهما ، فإن اكتشافها يدل علىما يأتي :
_ إن وجود أقوام جزرية بادت حقيقة تاريخية ، وإن الجزيرة العربية لمتكن خالية من السكان الأصليين ( الساميين ) كما يتوهم الأستاذ مطر أو سواه .
_ إن التصحر المطّرد الذي أصاب الجزيرة حقيقة أخرى والدليل على ذلك ( وبار ) التيوجدت مطمورة تحت رمال صحراء الربع الخالي ، وأن الكوارث الطبيعية التي حلت بسكانالجزيرة حقيقة ثالثة ، وهذه الحقيقة وتلك كانتا تدفعان هؤلاء السكان إلى النزوحمنها والبحث عن أوطان أخرى من حقبة إلى أخرى .
_ إن تاريخ الحضارة في الجزيرةالعربية يعود إلى أقدم العصور ، وأن سكان الجزيرة لم يكونوا يعيشون في العصر الحجريحتى ( الألف السابق الميلاد ) كما ذهب الظن بالأستاذ مطر ، فتاريخ وبار يعود إلى ( 2800 ق. م. ) وآثارها تدل على أن أهلها كانوا قد غادروا العصر الحجري منذ زمن بعيد .
_ إن هناك الكثير من الحقائق التي تتعلق بتاريخ الجزيرة وسكانها ما يزالمطموراً ولم تكشف التنقيبات إلا عن القليل جداً منه . ولذا لا يجوز الإسراف في بناءالفرضيات واستخلاص استنتاجات قاطعة منها في هذا الشأن ، على نحو ما فعل الأستاذ مطر .
العرب العاربة :
ولكن الأستاذ مطر الذي أخلى الجزيرة العربية من سكانهاالأصليين ، وجعل من العرب البائدة مجرد أناس من جنس المحيط الهندي ، لم يفعل ذلكإلا ليملأها في ما بعد بعرب عاربة وعرب مستعربة يستوردهم من خارجها !
فهو يرى أنالعرب العاربة جماعات سامية ( عراقية _ كنعانية ) جاءت من الهلال الخصيب إلى سواحلالخليج العرب ( عن طريق البحر ) خلال ألفي عام من ظهور الحضارة في العراق والشام ،أي قبل الألف الأول للميلاد ، وأنهم نقلوا إليها الثقافة السامية ، واللغة السامية، وأسسوا أول حضارة فيها هي الحضارة السبئية .
إن وجود جاليات عراقية ( مجردجاليات ) لها قواعد بحرية ومستوطنات في سواحل الخليج العربي في الحقبة التي يشيرإليها الأستاذ مطر أمر محتمل جداً ، بل أكيد . فالتجار العراقيون كانوا على صلةوثيقة بدلمون ( البحرين ) ومكان ( عمان ) وملوخا ( الهند ، أو جنوب الجزيرة عامة ،أو بلاد النوبة ، أو الحبشة حسب الآشوريين ) منذ العهد السومري ، وتوثقت هذه الصلةفي العهد الأكدي بعد تجريد كل من سرجون الأكدي وحفيده نرام _ سين حملة عسكرية عليها، واستمر الأمر على ذلك في العهود اللاحقة حتى بعد سقوط الدولة الكلدية ( 539 ق. م. ) ولكن من التعسف أن يحشر الأستاذ مطر اسم الكنعانيين والفنيقيين في هذه المسألة .
فمن المستبعد تماماً أن تصل إلى هناك ( عن طريق البحر ، كما يقول ) جماعاتكنعانية أو فنيقية في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ ، لأن هذا الأمر يتطلب ، فضلاًعن المعرفة بالمسالك المائية والمرافيء الساحلية ، رحلة طويلة جداً وشاقة جداًتستغرق ثلاث سنوات في الأقل ، فهي تستوجب الدوران حول القارة الإفريقية وجنوبالجزيرة العربية بأكمله وصولاً إلى عمان وسواحل الخليج العربي . والواقع ، كمايحدثنا التاريخ ، أن الفنيقيين لم يبدأوا باكتشاف سواحل إفريقيا الشمالية وتأسيسمواطيء لأقدامهم في السواحل التونسية ، ثم السواحل الجزائرية ، إلا في أواخر الألفالثاني قبل الميلاد ، وهم لم يؤسسوا قرطاج إلا في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد ( نحو 812 ق. م. ) في عهد الملك بغماليون ، وهم لم يجرؤوا حتى أواخر الألف الثاني قبلالميلاد على الذهاب بعيداً في استكشاف شواطيء الأطلسي ، فالشواطيء الأطلسية في شمالالمملكة المغربية هي أبعد ما ذهبوا إليه ، فكيف يمكنهم أن يخطوا خطوة جبارة كهذهالتي يتحدث بها الأستاذ مطر ؟ ثم أن التاريخ لم يحدثنا عن رحلة ( أو رحلات ) كنعانية أو فنيقية مثل هذه قط ، بل حدثنا عن نشاط بحري مصري ، تجاري وعسكري ، فيالبحر الأحمر منذ عهد الملكة حتشسبوت . وحدثنا عن حملة عسكرية من 400 سفينة جردهارمسيس الثاني ( 1290 1224 ق. م. ) ووصل بها حتى نهر الجانج في الهند . ولم يرد اسمالكنعانيين أو الفنيقيين في نشاط بحري من هذا النوع إلا في زمن متأخر جداً ، عندماأمر الفرعون نيخو ( 609 593 ق. م. ) بإرسال بعثة مصرية ( فيها فنيقيون ) للدورانحول القارة الإفريقية عبر البحر الأحمر ، وعادت البعثة بعد ثلاث سنوات إلى الشواطيءالمصرية في البحر الأبيض المتوسط ، أي أنها لم تذهب إلى عمان وسواحل الخليج .
إنالاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يصل فيه كنعانيون أو فنيقيون إلى سواحل الخليج العربيهو البر ، وليس في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ بل خلال النصف الثاني من الألفالأول قبل الميلاد . والطريق الوحيد الذي كان يمكن أن يسلكوه هو الطريق البريالممتد من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى جرها ( الجرعاء ) والذي نشطت حركةالتجارة عليه بفضل الكلديين الفارين بعد سقوط مملكتهم في بابل ( 539 ق. م. ) . ولمينشأ طريق بري آخر بين بلاد الشام وسواحل الخليج العربي إلا في عهد مملكة تدمر ،وكان هذا الطريق يسير بمحاذاة نهر الفرات حتى يصل مدينة ( فورات ) في مملكة ميسانجنوبي العراق ، ومنها إلى الخليج العربي .
ومهما يكن الحديث عن وصول كنعانيينوفنيقيين إلى سواحل الخليج، فإننا لا يمكن أن نتحدث إلا عن أفراد قلائل ، أو جماعةصغيرة جاءت في زمن متأخر ولم يكن لها وزن في التركيب السكاني ، وليس عن قواعد بحريةومستوطنات ذات دور وتأثير .
السبئيون :
أما السبئيون فحديثهم حديث آخر . فقداختزل بهم الأستاذ مطر تاريخ اليمن كله وأقوام اليمن كلها ( من معينيين وقتبانيينوحضارمة وأوسانيين وحميريين ) وهذا تجاوز على حقائق تاريخية كثيرة ، منها أنالمعينيين سبقوا السبئيين إلى تأسيس دولتهم وخطوطهم التجارية بعدة قرون ، وأنهم هممن ابتكر الخط المسند وهم أول من كتب به في أوائل القرن السابع للميلاد ، وقد عثرعلى نماذج من هذه الكتابات في مناطق متباعدة من العالم القديم . ومنها أن اليمن شهدنشوء دول بعدد الأقوام التي ذكرناها ، وكلها عاصر الدولة السبئية ونازعها . ولكنالأستاذ مطر لم يعط السبئيين هذا الدور إلا لوجود اجتهادات حول أصلهم في كتابات بعضالمختصين بتاريخ اليمن ، يعتقد أنها تساعد في بناء نظريته ، لأنها تنسبهم إلىالشمال .
إن أول ذكر واضح وصريح ودال للسبئيين ورد في سجلات بعض الملوكالآشوريين : تغلات بلاصر الثالث ( 745 727 ق. م. ) وسرجون الثاني ( 721 705 ق. م. ) وسنحاريب ( 704 681 ق. م. ) . وجاء ذكرهم بمناسبة دفعهم الجزية وتقديمهم الهدايالهؤلاء الملوك . ويرى بعض المؤرخين أن الذين كانوا يفعلون ذلك هم زعماء جاليةتجارية سبئية كانت تقطن في الشمال الغربي من الجزيرة العربية ، وليس ملوك اليمنالسبئيين ، ربما باستثناء واحد منهم هو ( كرب إيلو ) ، في حين يرى مؤرخون آخرون ،كتوينبي مثلاً ، أن المعنيين هم أولئك الملوك أنفسهم .
ولكن ما يهمنا هنا هو أصلالسبئيين . فالأستاذ مطر يعتقد أنهم آراميون هاجروا إلى الجزيرة العربية مما يسميهبعبارة غامضة ( الشمال العراقي السوري ) وأسسوا في اليمن أول حضارة نشأت في الجزيرةالعربية . والواقع أن هناك اجتهادات لبعض الباحثين المعنيين يتاريخ اليمن تفيد بأنالسبئيين جاءوا إلى اليمن من خارجها . ويبدو أن هذه الاجتهادات قد بنيت أصلاً علىكتابة سبئية ذكر فيها أن المكرب ( سمه علي ) قدم إلى معبود سبأ ( المقة ) البخوروالمرّ لأنه ( قادهم من البرية إلى أرض تفيض عسلاً ولبناً ) . وبناء على هذهالكتابة ، أو لسبب آخر ، رأى مونتغمري أن أصل السبئيين يعود إلى منطقة ( العربالصحراوية ) وأنهم هاجروا إلى اليمن في وقت غير معروف . أما أولبرايت فيرى أنهماستقروا في اليمن في حدود القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، بينما يرى أوليري ( أن منالممكن ) أن تكون مملكة السبئيين قد ظهرت أولاً في ( عرب الشمال ) ثم تحركوا نحوالجنوب تحت ضغط الهجمات الآشورية على المناطق الشمالية من جزيرة العرب حوالي القرنالثامن قبل الميلاد ، وهذا ما ذهب إليه فرانتز هومل أيضاً .
ويفهم مما تقدمثلاثة أمور في الأقل أولها : أن هؤلاء العلماء تحدثوا بشأن هجرة السبئيين من الشمالإلى الجنوب عن ( احتمالات ) قابلة للنقاش وليس عن حقائق قطعية مؤكدة ، فلم يجزم أيمنهم بشيء كما جزم الأستاذ مطر . وثانيها : أن السبئيين نزحوا من ( العربيةالصحراوية ) حسب مونتغمري ، وأنهم من ( عرب الشمال ) حسب أوليري وهومل ، ولم يقل أيمن هؤلاء أنهم ( آراميون ) جاؤوا من الشمال العراقي السوري ، كما قال الأستاذ مطر . وثالثها : أن وجود المعينيين في اليمن أسبق من وجود السبئيين ، فمن المتفق عليه أنالمعينيين أسسوا دولتهم في اليمن في حدود ( 1500 ق. م. ) وهم أول من أسس دولة فياليمن ، ومن اخترع الكتابة بالخط المسند ، وليس السبئيين .
ولنسأل الأستاذ مطرالآن : إذا كان السبئيون آراميين ، فلماذا لم ينزحوا كبني عمومتهم إلى عمق بلادالشام ، أو إلى بلاد الرافدين ، بدلاً من التوغل في الجزيرة العربية واجتياز الحجازكله للوصول إلى اليمن ؟ أليس العراق والشام أقرب إليهم ؟ ثم لماذا لم يستوطنواالحجاز إذا كان خالياً من السكان كما يفترض هو نفسه ؟ وإذا كانت حجته في نزوحالسبئيين المفترض هي ( ضغط الهجمات الآشورية ) كحجة أوليري وهومل ، فهي حجة مردودة، لأن من كان يعاني من ضغط الهجمات هم الآشوريون أنفسهم وليس غيرهم . فالقبائلالبدوية هي التي كانت تهيمن على طرق التجارة وتتحكم بها وتغير على القوافل وتقطعالطرق ، وكان هذا مما يضني الآشوريين ، ومن بعدهم الكلديين ، ويضطرهم إلى تجريدحملات عسكرية سنوية ، أو شبه سنوية ، لتأمين هذه الطرق وحمايتها بحاميات عسكرية . وإذا سلمنا جدلاً بأن السبئيين عانوا من ضغط الهجمات الآشورية ، فأي الأقوام لميعان من ضغط هذه الهجمات في تلك الحقبة ؟ ولكن أيها ترك موطنه ورحل بسببها ؟!
إنهجرة السبئيين ( وأقوام اليمن الأخرى ) إلى هذا البلد فرضية ضعيفة أصلاً ، في رأيي، فهي تقوم على تصورات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة ، وهي لا تستند إلىآثار مادية أو كتابية ، أو إلى أي دليل ملموس . والأقرب إلى المنطق هو أن هذهالأقوام ، ومنهم السبئيون ، هم سكان البلد الأصليون ، وليسوا مهاجرين . ذلك لأنبلداً معتدل المناخ ، وفير المياه ، تكثر فيه الوديان والسهول والنباتات والحيواناتوالمراعي والمروج لا يمكن أن يخلو من البشر وتظهر فيه فجأة مجموعات كبيرة ومنتشرةمن البشر ، تنشيء المدن ، وتنظم الري ، وتقيم السدود ، وتؤسس الممالك ، وتخترعلنفسها نوعاً خاصاً من الكتابة ، وتضع نظاماً دقيقاً ومتكاملاً لتجارتها الدولية ،خلال حقبة قصيرة من الزمن لا تتجاوز عدة قرون . فهذا لا يكون إلا نتيجة تطور طبيعيطويل الأمد . وكل ما في الأمر أن اليمن كانت بعيدة عن مراكز الحضارة القديمة ، وظلتشبه معزولة عن غيرها ، فتباطأ تطورها ، وتأخر ظهور الحضارة وتأسيس الممالك والدولفيها .
والواقع أن المعنيين بتاريخ اليمن القديم لم يتحدثوا بوضوح عن أصولالأقوام اليمنية ، واكتفوا بافتراض أنها أقوام مهاجرة ، وركزوا في حديثهم عن ذلكعلى هجرة السبئيين المفترضة ، وتصوروا أنهم من جاؤوا من شمال غربي الجزيرة العربيةكما ذكرنا ، لأن السجلات الملكية الآشورية ، والتوراة اليهودية ، وبعض المؤلفاتالكلاسيكية ، تحدثت عن وجود سبئيين هناك ، وفاتهم أن هؤلاء كانوا مجرد جالية تجاريةتمثل مملكة سبأ في الجنوب ، ولم تقم هناك ( في الشمال ) أية مملكة سبئية . فوجودجاليات تجارية يمنية في تلك المنطقة كان قائماً منذ العهود الأولى لنشأة الدولةالمعينية . وقد كانت للمعينيين هناك مستعمرتان تجاريتان هما ديدان ( العلا ) وحجر ( مدائن صالح ) . وكان يشرف على تنظيم أمور الجالية المعينية رئيس يدعى ( كبير ) ،وكان هذا الكبير يمثل الملوك المعينيين ويأتمر بأوامرهم ، وقل الشيء نفسه عن وجودالسبئيين في المنطقة . فهم نافسوا المعينيين في تجارتهم في باديء الأمر ، ثم حلوامحلهم وأصبحت لهم جاليتهم هناك ، أما وطنهم الأصلي فهو اليمن نفسها .
ومن يدرستاريخ اليمن بعناية لابد له أن يلاحظ أن هذا البلد كان مصدراً من مصادر الهجرات إلىخارج الجزيرة العربية ، وليس العكس ، منذ أن مكنت التجارة أبناءه من اكتشاف العالمالبعيد عنهم . وقد كانت التجارة والحروب الداخلية والكوارث الطبيعية أهم أسبابهجراتهم المتوالية إلى خارج بلادهم . فاللحيانيون الذين أسسوا مملكة في الشمال هميمنيون ، وقل مثل ذلك عن المعينيين الذين انتشرت كتاباتهم في شتى أصقاع العالمالقديم ، من العراق حتى مصر ومن العلا وحجر حتى جزيرة ديلوس في بحر إيجة ، وعنالسبئيين الذين ذكرتهم السجلات الملكية الآشورية والتوراة اليهودية . وقد استمرتهجرات اليمنيين من بلادهم إلى الشمال ( داخل الجزيرة وخارجها ) حتى ظهور الإسلام ،وكانوا في الإسلام من أوائل المهاجرين والفاتحين .
العرب المستعربة :
إذا كانالأستاذ مطر يتكيء على آراء بعض العلماء ، بعد أن يكيفها لخدمة رأيه ، حول وطنالسبئيين الأول ، ويحدد لهجرتهم إلى اليمن تاريخ الألف الأول قبل الميلاد ، فيعدهممن العرب العاربة ، فإنه يعتمد على خياله فقط حول هجرة من يسميهم العرب المستعربةإلى الجزيرة العربية . فهو يقطع من دون سند أو دليل بأنهم آراميون هاجروا مما يسميههذه المرة ( الشمال العراقي الشامي ) ولا يحدد أي تاريخ واضح لهجرتهم ، ويقول عنهمبلا تردد : إن ( الجرأة ) بلغت بهم حد ( أنهم راحوا يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرةالعربية نحو سواحل الخليج وواحات الحجاز ليؤسسوا أولى معاقل الاستيطان مثل يثربومكة ) .
وهنا نعيد سؤالنا السابق بصيغة أخرى : إذا كان هؤلاء آراميين ، فلماذا ( يجرؤون ) على اقتحام الجزيرة ( الصحراوية ) وعلى مقربة منهم الشام والعراق بمافيهما من خيرات كثيرة ؟ لماذا يصدون عن مناطق ماؤها وفير ومطرها غزير ويقصدونالحجاز بشحة مائه وقلة مطره ؟ وما الذي يدفعهم إلى اختراق صحراء نجد لاستيطانالخليج العربي ؟ ومتى وقع هذا على سبيل الاحتمال ؟
الأستاذ مطر لا يحدد هناتاريخاً ، بل يحيلنا إلى جفاف أصاب بادية الشام خلال الحقبة الممتدة بين القرنينالسادس عشر والثاني عشر قبل الميلاد ، ويفترض أنه هو الذي كان وراء نزوحهم إلىالجزيرة العربية . ولكن الجفاف الذي أصاب الجزيرة في هذه الحقبة كان أقسى بكثير مماهو في البادية ، فلماذا ينزح إليها هؤلاء الآراميون؟ أليس نزوحهم إليها يخالفالمنطق المعقول ؟ إن المنطقي هو أنهم جزريون نزحوا من الجزيرة إلى بادية الشام وليسالعكس . وإذا كان هؤلاء ممن عاشوا في المناطق الهامشية من سورية وفلسطين ، كما يقولالأستاذ مطر ، فلماذا لم يجتاحوا ، كغيرهم ، المراكز المتحضرة والمناطق الخصيبةالقريبة منهم بدلاً من هذا التوغل المتخيل في الجزيرة العربية ؟
ثمة إشاراتعديدة في الشعر الجاهلي ، وآيات قرآنية عديدة ، ومفردات لغوية كثيرة تتعلق بإرموتصاريفها ودلالاتها ، لا يستنتج المرء منها إلا أن الآراميين كانوا قوماً من أقوامالجزيرة العربية ثم نزحوا منها نحو الشام ، ولكن وجودهم السابق في الجزيرة والمصيرالذي آلوا إليه بقي في الذاكرة العربية الجمعية ، فعدوا من العرب البائدة بوصفهم منقوم عاد . وإلى مثل هذا ذهب الباحث فاضل الربيعي في كتابه : إرم ذات العماد . بلهذا ما يؤيده التاريخ المكتوب أصلاً . فهو يخبرنا بأن الآراميين قصدوا ، في هذهالحقبة بالذات ، المناطق الخصيبة من بلاد الشام فأسسوا إمارات صغيرة على ضفافالفرات الأعلى وفروعه ( الخابور ، البليخ ، الساجور ) وفي سنجرلي وحران وحماه ودمشقوجبل الشيخ ( في سورية ) والبقاع ( في لبنان ) ، واتجه قسم منهم نحو العراق من أقصىشماله الغربي ( في الجزيرة ) حتى جنوبه ، ودخلوا في صراعات دامية مع الدولتينالآشورية والبابلية ، وكانت الحملات العسكرية الآشورية السنوية هي السبب في عدمتمكنهم من إنشاء دولة كبيرة ذات شأن في سورية . وهذا كله تاريخي ، وكله منطقي ،ولكن ليس من التاريخ ، ولا من المنطق ، أن يقال : إن ( الجرأة ) بلغت بهؤلاءالآراميين حد ( أنهم راحوا يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة العربية نحو سواحلالخليج العربي والحجاز ) . فالهجرة تكون عادة من المناطق المجدبة والفقيرة إلىالمناطق الخصيبة وليس العكس . والمسألة هنا ليست مسألة ( جرأة ) كما صورها لنا خيالالأستاذ مطر ، بل مسألة حقائق تاريخية ومنطق معقول . وأخيراً ما الدليل على أنهمنزحوا إلى الجزيرة ؟ وماذا تركوا فيها من آثار تدل على هذا النزوح ؟ ولماذا لميكتبوا ، أو ينشروا الكتابة ، في الحجاز وسواحل الخليج كما فعل السبئيون في اليمنعلى حد قول الأستاذ مطر ؟ ولماذا ظلوا يجهلون الكتابة حتى القرون الميلادية الأولى؟
وهكذا يظهر مما تقدم أن فرضيات الأستاذ مطر حول العرب البائدة ، والعربالعاربة ، والعرب المستعربة فرضيات خيالية ، يرفضها المنطق ، وتنقضها الحقائقالتاريخية . فمصدر الهجرات هو الجزيرة العربية وليس بادية الشام ، ولم تكن باديةالشام سوى محطة من محطات الهجرة إلى المناطق الخصيبة في الشام والعراق .
العربفي المدونات التاريخية :
يبدو أن أول ذكر للعرب في المدونات التاريخية جاء فيالسجلات الملكية الآشورية ، وأول من ذُكِر منهم ملك ( زعيم قبيلة ) يدعى جندب ( جندبو ) جهز حلفاً مضاداً للآشوريين بألف جمل ، فذكره الملك شلمانصر الثالث في مادون عن معركة قرقر ( 853 ق. م. ) في سجلاته . ثم تتالى ذكر شخصيات عربية أخرى فيسجلات الملوك الآشوريين اللاحقين . فتغلات بلاصر الثالث ( 745 727 ق. م. ) ذكرزبيبة ( زبيبي ) ملكة بلاد العرب ( ماتو أريبي ) التي تلقى منها أتاوة ضخمة تدل علىعظمة ثرائها . وذكر سرجون الثاني ( 722 705 ق. م. ) ما تلقى من شمس ( سمسي ) ملكةبلاد العرب . ويخبرنا الملك سنحاريب ( 705 681 ق. م. ) أنه قاد حملة عسكرية علىتلخونو ملكة بلاد العرب ( في وسط الصحراء ) وعلى خزعل ( خزائلو ) ملك العرب ،واستلب أصنام مملكته ، وأخذ ابنته توبة ( تبوءة ) رهينة عنده . أما آسرحدون فيخبرناأنه تسلم من خزعل أتاوة كبيرة فأعاد إليه أصنام مملكته التي استلبها أبوه سنحاريب ،ونصب توبة ( تبوءة ) التي تربت في كنف أبيه أميرة على العرب ( أريبي ) . وقد صورالآشوريون العرب في آثارهم وهم يركبون جمالهم ويلبسون ملابسهم المميزة ، وأقدم صورةلهم هي تلك التي عثر عليها في قصر تغلات بلاصر الثالث في كالح ( كالخو ) وقد ظهرفيها عربي على جمل وفي أثره فارس آشوري .
وليس هذا كل ما جاء عن العرب فيالسجلات الملكية الآشورية ، ولكننا نكتفي بما ذكرنا لأنه يفي بالغرض . ويذكر جورجرو ( المصدر المفضل لدى الأستاذ مطر ) أن العرب كانوا آنذاك في بادية الشام بأعدادغفيرة . ويقول هاري ساكز إن آشور كانت على اتصال بعرب الصحراء منذ عهد تغلات بلاصرالثالث في أقل تقدير . وكان الآشوريون يبسطون نفوذهم تدريجياً في الصحراء . وقداستمر آسرحدون في هذه السياسة ، إذ زاد السيطرة الآشورية من خلال التدخل بينالزعامات العربية المتنافسة وتقريب من يرضى منهم بالسيادة الآشورية .
وليستالسجلات الآشورية وحدها ذكرت العرب ، بل ذكرتهم أيضاً التوراة اليهودية ، ثمالمصادر اليونانية والرومانية ، فالبيزنطية والسريانية . غير أن هذا لا يعني أنهموجدوا على الأرض عندما ذكرتهم هذه المصادر أول مرة في عهد الملك الآشوري شلمانصرالثالث ، بل يعني أنهم صاروا يذكرون عندما كثر عدد النازحين منهم إلى بادية الشاموأصبحوا إحدى القوى المؤثرة في حسابات القوى والممالك الإقليمية ابتداء من القرنالتاسع قبل الميلاد في الأقل .
ويلاحظ مما ذكر عن العرب في السجلات الملكيةالآشورية ، بوصفها أقدم المدونات التي ذكرتهم ، أن نزوحهم من الجزيرة إلى باديةالشام قد تزايد ، وتأثيرهم تنامى ، خلال القرون الثلاثة الأخيرة من عمر الدولةالآشورية . وكانوا عدة قبائل متنافسة ، يتزعم بعضها رجال وبعضها نساء ( وهذه ظاهرةلافتة للنظر ) . وهم لم يكونوا بدواً أو رعاة كلهم ، بل كانت لبعضهم مستوطنات وحصونفي الأطراف الشمالية من الجزيرة ، وكان بعض هؤلاء على ثراء بناء على ما كانوايدفعونه للآشوريين من أتاوات باهظة . ولكن الأهم من ذلك أنهم كانوا يذكرون بوصفهمقوماً غير الأقوام الأخرى . فقد ميزتهم تلك السجلات ، وكذلك المصادر الأخرى ، عنالآراميين والأحلاميين والكلديين والسبئيين حيثما ذكروا معهم ، بغض النظر عما بينهمجميعاً من أصول عرقية ولغوية مشتركة ، وعما نشأ بينهم من تحالفات أو ما نشب مننزاعات . فهم عرب ( A-ri-bi ) ، ويتصل ذكرهم بالصحراء فهي بلاد العرب ( ماتو أريبي ) وبالجمال فهي وسيلة النقل المميزة عنهم ، وبالخيام التي يفخر الملوك الآشوريونبحرقها . وكانت لهم أسماؤهم المميزة عن أسماء أبناء الأقوام الأخرى ، ولهم زعماؤهم، ودورهم في صراعات القوى والممالك الإقليمية وأحلافها وحروبها ونزاعاتها . وليسثمة إشارة واحدة تصفهم بأنهم آراميون أو تحيلهم إلى الآراميين .
الغريب أنالأستاذ مطر يصر على أن المقصود بـ ( بلاد العرب ) أو ( أرض العرب ) التي ترد فيالنصوص الآشورية هو بادية الشام وليس الجزيرة العربية ، مع أن هذه النصوص تشير إلىالصحراء وعمق الصحراء بوضوح . يقول سرجون الثاني في سجلاته ( بناء على نبوءة صادقةمن إلهي آشور سرت وقهرت ( ... ) العرب الذين يعيشون بعيداً في الصحراء ، والذين لايعرفون البحار ولا الرؤساء ، ولم يدفعوا جزية لملك ) . وواضح من هذا النص أنالمقصود هنا بالصحراء هو جزيرة العرب وليس البادية الشام . ويقول فراس السواح فيكتابه ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم / ص 290 ) ( إن الكلمة الآشورية ( أريبي ) هي نسبة إلى العرب ، وأن هؤلاء هم شعب كبير متنوع في تقسيماته ومتوزع فيمختلف أنحاء الجزيرة العربية ) . وتوينبي الذي يستشهد به الأستاذ مطر حول تاريختدجين الجمل ، يحيل ما ورد في النصوص الآشورية إلى الجزيرة العربية وليس إلى باديةالشام ، في الصفحة التي تسبق الصفحة التي يحيلنا إليها الأستاذ مطر من كتاب : تاريخالبشرية (1 /203 ) .
ومما ينبغي التذكير به أن خروج بعض القبائل العربية منالجزيرة في تلك الحقبة قد بدأ بالتواجد في أطرافها الشمالية الغربية ، وخاصة مثلث ( تيماء دومة الجندل بطرا ) وواحاته وما حولها ، ثم امتد غرباً نحو فلسطين وسيناء ،وشمالاً وشرقاً في بوادي العراق والشام ، إلى أن وجدوا فرصتهم الكبيرة بعد سقوطالدولة الآشورية ( 612 ق. م. ) ثم سقوط الدولة الكلدية ( 539 ق. م. ) ، فانتشرواغربي الفرات ، ثم عبروه ، بحيث أصبحت المنطقة الشمالية الغربية من العراق ،المحصورة بين دجلة والفرات ، تعرف باسم (عربايا) بعد قرن واحد من سقوط الدولةالآشورية . وقد وردت هذه التسمية ، كما ذكرنا من قبل ، في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) من أقاليم الإمبرطورية الفارسية الإخمينية في نهاية القرن السادس قبلالميلاد ، وصار للعرب يومها دور في الصراع بين الفرس واليونانيين . ومن هنا جاءذكرهم في مسرحيتي برومثيوس والفرس لأسخيلوس ( 525 456 ق. م. ) .
ويبدو أن موجاتنزوحهم من الجزيرة قد ازدادت خلال هذه الحقبة فاندفعت موجة منهم غرباً واستولت علىمملكة الأنباط في بطرا ، وأسست هناك مملكة عربية حكمها عشرة ملوك عرب أولهم حارثةالأول ( 169 120 ق. م. ) وآخرهم رب إيل الثاني ( 70 106 م ) . واندفعت موجة أخرىشرقاً وأسست بين دجلة والفرات مملكة عربية أخرى هي مملكة الحضر ( 85 _ 241 م ) وعرفت باسم عربايا أيضاً . وقد سقطت الأولى على أيدي الرومان عام ( 106 م ) وسقطتالثانية على أيدي الفرس عام ( 241 م ) . ولم تكد تسقط هاتان المملكتان حتى نشأتمملكتان عربيتان أخريان هما : مملكة المناذرة في العراق ، ومملكة الغساسنة في الشام .
وقد كان سكان هذه الممالك الأربع خليطاً من عرب الجنوب المسمون بـ ( القحطانيين ) وعرب الشمال المسمون بـ ( العدنانيين ) . والدليل على ذلك أسماؤهمالشخصية وأسماء معبوداتهم التي وجدت في مدافنهم ومعابدهم . ومع أن ملوك هذه الممالككانوا من عرب الجنوب ( القحطانيين ) صاروا يلقبون أنفسهم بلقب ( ملك العرب ) دونتمييز بين جنوبيين وشماليين ، ودون ذكر أسماء القبائل جنوبية كانت أم شمالية . ولمتظهر أسماء القبائل العربية ( عدنانية وقحطانية ) في المدونات إلا حين نشب صراععسير طويل الأمد من أجل الهيمنة على الخطوط التجارية بين مملكة المناذرة في الشمالمن جهة ، والمملكة الحميرية ثم مملكة كندة في الجنوب من جهة أخرى . فقد تطلب هذاالصراع إخضاع القبائل عرب الشمال المعدية ( العدنانية ) بالقوة ، وفرض الأتاواتالباهظة عليها ، وارتهان العشرات من أبنائها وتجنيدهم في الحروب ، وتعيين أبناءالملوك رؤساء عليها . وعندئذ أصبحت أسماء القبائل ( عدنانية وقحطانية ) متداولة ،وصار بعضها يظهر في نقوش هذه الممالك وكتاباتها ، غير أن هذا لا يعني أن هذهالقبائل لم تكن موجودة قبل هذه الحقبة بكثير .
وبعد ، فليس مهماً أن نعرف من أينجاءت كلمة ( عرب ) ومم اشتقت وكيف ، فكل ذلك يخضع للتخمين والتأويل ، شأنها في ذلكشأن تسميات الأقوام القديمة الأخرى ، ولكن منذ أن استخدمت هذه الكلمة ومشتقاتها فيالكتابات الآشورية وغيرها عني بها قوم مختلفون عن الأقوام الأخرى المعروفة في تلكالحقبة ، قوم يتصل ذكرهم بالصحراء وبالجمال والخيام . وقد تحمل الكلمة معنى البداوةفي عرف معاصريهم ، أو تعني شيئاً آخر عرقياً أو غير عرقي ، ولكنها تعنيهم هم ، تعنيالعرب ولا تعني الآراميين أو فرعاً من فروعهم . وللأستاذ مطر تحياتي .

  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية mohrafik27
mohrafik27
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 07-08-2009
  • الدولة : مستغانـــــــــــــم
  • العمر : 41
  • المشاركات : 676
  • معدل تقييم المستوى :

    17

  • mohrafik27 is on a distinguished road
الصورة الرمزية mohrafik27
mohrafik27
عضو متميز
رد: أقوام الجزيرة العربية وأصولها
02-11-2009, 04:24 PM
شكرا
شكرا شكرا
شكراشكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا
شكراشكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا شكرا
شكرا شكرا
شكرا
{ إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ، و إذا أنت أكرمت اللئيم تمردا }
نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة
  • ملف العضو
  • معلومات
lv2gucci
زائر
  • المشاركات : n/a
lv2gucci
زائر
Shanghai is China's PIAGETearl opening
16-04-2010, 07:59 AM
The world famous architects Gerard Barrau himself was designed in "time corridors" count dracula Shanghai huaihai image store on the second floor. The collection of brand exhibition in 1874 established the historical documents, the different developing track, PIAGET watches of infinite originality in. Stop, like on a DuanQiDi exciting time travel. Since 1967 earl and surreal Salvador Dali masters of art Dali (into) the fest writing passion, design, Dali d "or gold to spin out three replica watches case can turn with the modelling of DaiZhe mood Piaget Magic provides hour-by-hour wrist. Count not only by its bold avant-garde concept formed to imitate, classical infinite image style, more conservative TAB injection of wind field of luxuriant.And a touch of hidden design, two buttons luxurious glass door slowly open, summon electric every guest into a garden with time and art hall, it is the private earl Shanghai huaihai image store and the VIP room corridor of time. Noble elegant interior layout and the perfection of the illicit close space that the guests fully shopping experience earl brings the distinguished service. Display in the exquisite guest bookcase 19th century impressionism books and master all reflect the masterpiece earl as Europe's top luxury brand of royal demeanor.Earl Shanghai huaihai image store and time is not currently corridor earl is China's largest specialty, is the most complete product design type earl of stores. Each exquisite jewellery and wrist watch here. Among them, the 9th Geneva horological extravaganza won Grand Prix Watchmaking Geneva () "the best female wrist watch" Limelight Piaget Twice double wrist jing. China horological network your report, beautiful huan of United States annulus Limelight and wide best-known Possession of two series of jewelry, and MEDALS with independent and 150 Polo30 anniversary of the Numbers of Piaget to watch and perfect blend in the spirit of classical masterpieces being main FortyFive wrist Piaget etc are displayed in the shop, shining with their unique twinkle light of glamour, attitude is perfect deduce the earl of hua flow drag and elite of advanced craft, fully gem replica watches shows its "gem" reputation timer innovation fervor and the persistent pursuit of perfection and perfect.
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 09:35 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى