واقع الأحداث بين الدعاة و الشباب
17-11-2007, 05:16 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


إن الإنغلاق الذي يبديه بعض الشباب والإقتصار على بعض العلوم النظرية وإهمال كثيرٍ من جوانب الحياة العملية المتمثلة في الواقع الذي يحكم التفاعلات الشعبية والسياسات العامة ليأذن بخطر كبير على مستقبل الصحوة الإسلامية في ظل المتغيرات الدولية .. إن حلم المثالية الذي يتيه فيه بعض الشباب ليُنبىء عن خلل كبير في المنهج العلمي المتمثل في التلقي النظري البعيد عن الواقع.

لقد أبرزت هذه الأحداث الكثير من العفوية المهزوزة التي تدل على سطحية غريبة في التعامل مع معطياتها .. التهور والإقدام والمجازفة مع ابتعاد التأصيل أصبح السمة البارزة للتصريحات التي تنطلق من عقول كثير من أبناء الصحوة ، فلا زالت الصحوة تفتقد إلى التوازن بين العاطفة والعقل.

قال لي طالب علمٍ تكاد النار أن تأتي علىالبيقة الباقية من قلبه حرقة على أوضاع الأُمة "الأُمة تغلي وعلمائنا لا زالوا يتكلمون عن أقسام التوحيد ، والأحكام الفقهية ، والفرق والمذاهب التي عرفناها كما نعرف آبائنا..." ، فقلت له رويدك ، وهل تُريد منهم أن يتركوا تعليم الناس أُمور دينهم ؟!" وضربت له هذين المثالين الذين يبينان حاجة العوام للعلم الشرعي قبل كل شيء:

الخميني
كنا ثلاثة في غرفة نناقش موضوع التفجيرات الأمريكية والحرب على أفغانستان ، فتطرقنا إلى موضوع إيران والدور الإيراني في الأحداث .. وجرنا الحديث عن الخميني ودوره في تأصيل الفكر الرافظي في إيران ، فنظر إلي أحد الأخوين نظرة تعجبٍ واستنكار شديدين ، وسألني بدهشة: "الخميني شيعي" ؟!! مع العلم أن الأخ يعد من المثقفين وعمره فوق الثلاثين !!.

حديث المقهى
دعاني أحد الإخوة للجلوس معه واصحابه في أحد المقاهي .. فقلت أذهب لعلي أنفع أو أنتفع.. فذهبت مع الأخ واستقبلني الإخوة بأدب فاق ما كنت أتصوره من رواد مثل هذه المقاهي ، حيث أن كل الإخوة من خريجي الجامعت ومن أصحاب التخصصات التقنية العالية.. بعد أن تعرفت على الإخوة وترددت عليهم أكثر من مرة ، اقترحت عليهم في يومٍ أن نستفيد من مجلسنا بزيادة رصيدنا الذهني من المعلومات .. فأتيت بأوراق لبعض المسابقات الشرعية المدعمة ببعض المعلومات العامة وطرحت على الإخوة بعض الأسئلة فاستحسنوا الأمر .. ولكن احد الإخوة اشتكى من صعوبة الاسئلة الشرعية (علماً بان الأسئلة كانت من أبسط ما في السوق من المسابقات الشرعية) وتكررت شكواه حتى تأثر بها بعض الإخوة .. فقلت لهم مازحاً: إذاً أسألكم أسئلة من عندي: ما اسم الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثي ؟
فطرق الإخوة يفكرون .. وطالت لحظة التفكير .. فرفع أحد الإخوة رأسه فرحاً يريد الإجابة وكأنه وجد حلاً لقضية المجاعة الأفريقية "محمد بن عبدالمطلب" !!!

إن الأُمة الجاهلة بدينها لا يمكن أن تتصدر البشرية .. وكثير من الشباب – من أبناء اللحظة - يظنون بأن الأمر قد انتهى بتعليمهم وأن الأُمة يجب أن تنهض في وقتهم ويجهلون أو يتجاهلون الأجيال السابقة واللاحقة بل حتى أبناء لحظتهم من عوام الناس ..

وإن كنا قد تعلمنا شيئاً من الحرب الأفغانية فهو: أهمية غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في قلوب الخاصة والعامة .. فقد لاحظنا مدى الخلل الذي حدث في صفوف طالبان عند أول امتحان حقيقي تعرضت له ، حيث انسحب كثير ممن لم تتأصل فيهم عقيدة الولاء والبراء ولم يعرفوا معنى الورع (ممن انظموا إلى طالبان بعد تغلبها على باقي القوى) وغرتهم أمطار الدولارات التي هطلت عليهم من سماء أمريكا فضعفت نفوسهم وتخلوا عن مبادىء كانت ظاهرة فيهم ولاكن لم تتمكن منهم. وهذا إلى حد ما شبيه بحال المرتدين في جزيرة العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يبقى على الطريق إلا القلة القليلة المؤمنة التي تربت على الإيمان الحق ، أما البقية الباقية من الأعراب ومن على شاكلتهم من المرتدين فعقيدتهم عقيدة القوي الغالب.

أقول لشباب الأُمة: إن جموع المسلمين لازالت جاهلة ، فلابد من العلم ، ولا بد من التوازن ، فلا يتفرغ كل العلماء للقضايا السياسية فتفرغ الساحة الدعوية ..

وإني إذ أُخاطب شباب الصحوة فلا أنسى أن أُوجه بعض الملاحظات إلى الدعاة والعلماء الذين لهم علينا حق التذكير والمناصحة فهم الأصل الذي نتفرع منه ، و هم قادة الأُمة الذين تشرئب لهم الأعناق ويشار إليهم بالبنان ، وأقصد العلماء الربانيين الذين لهم قبول بين الأوساط العلمية والشعبية.
أقول للعلماء: لا يتفرغ كل العلماء للساحة الدعوية فتخلوا الساحة السياسية لمن لا عقيدة له فيتكلم الرويبظة في أُمور المسلمين.

وسوف أتطرق – مستعيناً بالله - إلى بعض الأمور التي أرى أنها مهمة في هذا الوقت لتذكير العلماء والدعاة وأسأل الله سبحانه وتعالى أن تتسع لها الصدور:

لا بد من مراعاة التجديد
إن للصحوة الإسلامية دورات تجديدية يصعب على كثيرٍ من الناس مواكبتها.. فشباب الأمس أصبحوا رجال اليوم وأطفال الأمس اصبحوا شباب اليوم .. وهذا التجديد (أو التغيير) قد يؤثر سلباً أو إيجاباً على الدعوة أو الدعاة المعروفين الذين أبرزتهم الأحداث .. فقبل عشر سنوات كان الشيخ عبدالله عزام علماً من أعلام الصحوة الإسلامية ، واليوم يكاد لا يعرفه أحد من شباب الصحوة (الصغار السن) .. قبل سنوات برز بعض العلماء وانتشر صيتهم فبي العالم الإسلامي فعرفهم الشباب الذين اصبحوا في عداد الرجال ، ولكن لا يكاد هؤلاء الدعاة يُذكرون في صفوف شباب الصحوة الذين أقبلوا على الله حديثاً ..فلا بد من مراعاة التجديد ..

جهل العامة بالعلماء
جهل العامة بالعلماء أمرٌ محيّر .. ولعل هذا يرجع إلى ضعف الإعلام الإسلامي وتجاهل كثيرٍ من الدعاة هذا الإعلام الذي أصبح أداة التعارف في زمن الفضائيات .. فلما توفي العلامة الذي كنى نظن أنه ملأ الدنيا صيتاً ، نعيته إلى أحد الإخوة .. فقلت له: "مات بالأمس فقيه هذه الأُمة" ، قال من ؟ قلت: "ابن عثيمين" ، فأطرق قليلاً ثم قال: لا أعرفه !!! فقلت: كان رحمه الله من أفظل علماء هذه الأُمة علماً وخُلقاً .. فقال: رحمه الله ، هذا زمن موت العلماء، لم يبقى في هذه الأُمة غير الشيخ "فلان" و "فلان" لشيخين كثر ظهورهما في الفضائيات (ومع احترامي الشديد للشيخين الجليلين ، وأنا لا أقصد الإنتقاص من قدرهما) ، قلت "الله المستعان" .. وانتهى الحوار. فهذا شاب (مثل كثير من غيره من المسلمين) لا يعرف من العلماء في هذه الأمة إلا اثنين ليسوا من أشهر العملاء ولكن لظهورهم في الفضائيات عرفهم الناس !!


عدم ترابط الأُمة
وهذا القصور ليس مقصوراً على العامة ، بل حتى على شباب الصحوة: فإن أكثر شباب ورجال الصحوة الإسلامية لا يعرفون علماء الهند أو الباكستان ومحدثيها أو علماء المالكية في المغرب الإسلامي والشافعية في المشرق ، وهناك علماء في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية لا يعرف عنهم المسلمون عندنا شيئاً .. بل لا يعرفون بأمر الصحوة الإسلامية القوية في تلك البلاد..

الحاجة إلى علماء العامة
متى تعي هذه الصحوة الإسلامية بأن للإعلام دورٌ لا يجب تجاهله ، ولا بد من استغلال وتنظيم وتوظيف سائر الوسائل المتاحة لإيصال الرسالة الربانية الحقة إلى الشريحة العامة للمجتمعات الإسلامية وأن لا يقتصر هذا العلم على الخاصة ..ونحن الآن بأمس الحاجة إلى علماء العامة (إن صح التعبير) .. ورحم الله الشيخين (ابن باز وابن عثيمين) لقد كان علمهما مبذولٌ للعامة أكثر منه للخاصة حتى اتهمهما بعض الجهلة بقلة علمهم بالقضايا الكبرى .. وللأسف فإن كثير من تلاميذهما تعلموا منهما العلم ولم يتعلوا طريقة بذله ولا إلى من يُبذل !! إن بعض الدعاة يكتب المقالة المليئة بالعلم والحكمة ولكنها طلاسم لا يفهمها إلا الزمخشري أو سيبويه ، فتضيع الفكرة ويضيع الكلام ويختلف الشباب بين منتقد لما لا يعي ومفسر يحمل الكلام على غير محمله !!

نقد العلماء والدعاة
كثر هذه الأيام نقد العلماء والدعاة الذين لم يحركوا ساكناً في أمر الجهاد الأفغاني ضد أمريكا ، واتهم كثير من الشباب العلماءَ بالتخاذل عن نُصرة الإسلام وعدم بيان الحق في مسألة مصيرية ..
كثير من الشباب بدأ صبره ينفذ ومعين عقله ينضب وبدأوا في النيل من العلماء والدعاة الذين لازلنا نحثهم بلزومهم والأخذ منهم لكن الأمر قد يخرج عن السيطرة قريباً إلى الإحباط أو الإنفجار ، وكلاهما شر ..
وإليكم بعض هذه المشاعر (التي لم يستطع كثير من الشباب اخفائها فكتبوها في المنتديات في الشبكة العالمية "الإنترنت") عن شيخين فاضلين ظهرا بعد غياب طويل عن الساحة حيث اعتكف الشباب أمام شاشات التلفاز ينتظرون هذه القيادات الفذة لتعبر عن مكنون أنفسهم ، ولكن الظهور كان ليس على المستوى المطلوب عند هؤلاء الشباب الذين ترجموا هذا الإستياء على مواقع الشبكة:

فهذا شاب يقول: "ولكني أرى الشيخ في الآونة الأخيرة وكأنه ( يُجر) إلى التراجع عن الكثير من المبادئ التي أسسها لنا نحن الشباب . فالطرح الذي نراه من خلال موقعه ( .......... ) لم يعد طرح (......) الذي نعرفه ، والمنهجية التي آل إليها الشيخ في مقالاته توحي بالطريق الذي (هلك) فيه من سار عليه ، أو قل أصبحوا ممن لايلتفت إليهم لا من العامة ولا من طلبة العلم"
وهذا آخر يقول: "أيها الأحباب ، كما وصل إلى علمكم أن غدا هو موعد مقابلة القناة الفاجرة (...) مع شيخينا الفاضلين (...... و .....) ، فأرجو من كل من يقرأ هذا الموضوع أن يدعو لهما - سواء برد أو في ظهر الغيب - ، يدعو لهما بأن يثبتهما الله ، ويرزقهما القول السديد، وأن لا يخافا في الله لومة لائم،، وأن يقنعا الجماهير المتعطشة بالقول السديد الراجح ، وأن يكون حديثهما بردا وسلاما على المجاهدين، ونارا تلظى على الكفرة والطغاة الحاكمين والمنافقين والعملاء"
وهذا شاب يقول "يوم الأحد على اذاعة ال (....) وعند الساعة الرابعة عصرا لقاء وحوار مع فضيلة الشيخين / (....... و ......) مباشر .. اللهم سلم....سلم هل هذا آوان تداعي الرموز حسبنا الله ونعم الوكيل"

وآخر يدعوا لهما "اللهم يامقلب القلوب والابصار ثبت قلبهما على دينك ... اللهم ثبتهم بالقول الثابت...ولاتجعل في حديثهم زيغ أو باطل... اللهم ارهم الحق حقا وارزقهم اتباعه وارهم الباطل باطلا وارزقهم اجتنابه .... اللهم اجعلنا نشنف اذاننا بقول الحق والنصرة لهذا الدين....اللهم امين"

وهذا يقول: "الله يستر ، ولكن كلنا ثقة أن الشيخين لن يسكتا عن قول الحق خوفاً من السجن .. هكذا ربونا - حفظهما الله - !!!"
وتعليق آخر: "أحسنوا الظن بهما ، الكل يعرف اي الناس هم ، اللهم ثبت أقدامهم ، اللهم قوي من حجتهم ، اللهم وفقهم لما ترضاه"

ومما لمسته من نتائج اللقاءات في القنوات الفضائية لهؤلاء العلماء (الرموز) أنها لم تكن بالمستوى الذي يرضى به شباب الصحوة .. ولعل للعلماء اجتهاد في هذا أو أن الضغوط كانت أكبر من أن يتجاهلها الدعاة ، لاكن النتيجة كانت عكسية في نظر هؤلاء الشباب حتى صرح كثير منهم بـأنه: "لو لم يتكلموا لكان خيراً لهم ولنا"

وفي استطلاع للرأي بعنوان " هل ترى أن العلماء قاموا بواجبهم تجاه قضايا الأمة ؟" لموقع إسلامي معروف ، كانت النتيجة تُنبىء عن مدى الإستياء الشعبي من العلماء ، حيث أظهر الإستفتاء بأن 80% من الناس يظنون أن قليل من العلماء قاموا بواجبهم تجاه قضايا الأُمة ، و12% قالوا بأنه لم يقم بقضايا الأُمة أحد من العلماء ، و 5% فقط قالوا بأن العلماء قاموا بواجبهم تجاه قضايا الأمة !!
إن هذا الإستياء من العلماء سوف يضر برصيدهم الشعبي عند أبناء الصحوة الإسلامية مما يُنبىء بمزيد من الإنشقاق في صفوف الصحوة في وقت نحن بحاجة فيه إلى التوافق وتوحيد الجهود .. إن قضية الرموز حقيقة لا يمكن للدعاة تجاهلها ولا أظن أنها تختفي بهذه السهولة مهما حاولنا الكتابة أو التأصيل في هذه القضية .. لا بد للصحوة من رموز ولا بد للرموز من الوضوح والجُرأة في الحق والتضحية .. وبدون الجرأة ، والوضوح ، والتضحية تتلاشى الرموز .. والخطر يكمن في غياب الرموز العلمية الحقة وبروز رموز جوفاء لها خوار كخوار ثور بني إسرائيل يرتفع صوته ثم يهوي بالصحوة إلى الأسفل سبعين خريفاً .. ولا ننسى كيف التفّت الجموع العربية على عبدالناصر لا لشيء إلا لأنه تكلم !!

لو كانت صراحة الدعاة في قضايا الأُمة لا يتعدى سببها: إغلاق الباب أمام الرموز الشيطانية للتغلغل في أوساط الشباب ، لكفى بهذا سبباً للتضحية .. إن الأُمة بحاجة للشجاعة ، والسيادة في الشهادة تتطلب وقفة قوية في وجه الموجة العاتية التي تعصف بالأُمة .. إن التصريحات المبهمة أصبحت في حكم المعدوم ولا يملأ الفراغ إلا الصدع بالحق "فاصْدَع بما تُؤْمَر" ..

لا بد من التحرر من الضغوط السياسية ..فالإبهام في القول لا يفهمه إلا الخاصة ، وعامة الأُمة تنتظر .. والأمر خطير والخطب عظيم .. أُمة بكاملها تُباد ، وشعب يُساق إلى الموت ، والعالم ينظر ... لا بد من إبراء الذمة ، ونُصح الأُمة .. لا مجال للمجاملات السقيمة ولا للسياسات العقيمة .. لا بد من البيان الشافي الذي لا يحتمل إلا الحق المبين.

لقد بدت بوادر تهميش بعض الدعاة المعروفين تظهر على الساحة من قبل كثير من الشباب ، وإذا بقي الحال على ما هو عليه فقد يأتي اليوم الذي لا يُسمع فيه لهؤلاء الدعاة ، ولا يقام لهم وزناً .. ليس العالم من سطر الكلمات أو صف المؤلفات ، إنما العالم من وقف في وجه الشبهات وبارز المُلمات .. إن البيان لا يصلح بعد فوات الأوان.

على العلماء إشغال الساحة وعدم تركها لجاهلٍ مُجازف أو عالمٍ منافق .. أرجو إعادة النظر في المواقف قريباً فالأمر لا يحتمل التأخير فالمبادىء أسيرة المواقف ..

اللهم احفظ لهذه الأُمة شبابها وعلمائها ودعاتها وجنودها ، ورد عنهم كيد المبطلين ، إنك ولي ذلك والقادر عليه .. والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم