دموع المهرج
20-06-2025, 06:25 AM
دموع المهرج

توطئىة: إن الذين يدخلون الفرح في قلوب الأخرين، قلوبهم مليئة حزنا..

وظيفته مهرج في الشوارع يدخل البهجة والسرور في نفوس الصغار والكبار, مهنة إحترفها منذ أكثر من ثلاثين سنة ولطالما حاول أن يتخلى عنها وكلما حاول وجد نفسه يغرق فيها الى ان أصبحت كل حياته رغم أنها لا تدر عليه الا القليل من المال، لكنها تكفي لتسكت جوع أربعة أفواه، زوجة وثلاثة أطفال.
يحب ان يرى كل الوجوه ضاحكة، مبتسمة، مبتهجة ، حتى ولو كان له أعداء لتمنى لهم أن يكونوا فرحين سعداء، فالحياة بالنسبة له يجب ان تكون سعيدة حتى وان كنا في قمة اليأس والحزن، فلا مكان للأحزان في قاموسه .
اليوم دعاه أحد رجال الأعمال الى بيته ليدخل بعض السعادة إلى قلب طفله الذي أصيب بحالة من الاكتئاب, الطفل لم يعد يضحك أو يبتسم وفقد شهيته للأكل, ولم يترك رجل الاعمال طريقا الا اتخذه من أجل أن يدخل في نفس ولده بعض البهجة المفقودة, أخذه معه حتى في سفرياته الرسمية الى الخارج , اخذه الى أطباء وأخصائيين في العلاج النفسي, لكن حالة الطفل لم تتغي، و نفسيته تنهار يوما بعد يوم حتى هزل وكادت ان تغور عيناه في مقلتيه، وكان لرجل الأعمال صديق نصخه بأن يستعين بمهرج ربما يمكنه أن يجعل إبنه يضحك .
حين دعاه رجل الاعمال إلى بيته من أجل مساعدة ابنه المصاب بحالة اكتئاب و الذي عجز امهر الاطباء النفسانيين في أوروبا عن علاجه، استغرب المهرج أن يتم الاستعانة به، صحيح أنه يمكنه أن يضحك الاطفال وحتى الكبار لكنه ليس طبيبا يعالج حالات الإكتئاب، على كل حال لم يكن له خيار ففي انتظاره زوجة وثلاثة أطفال، ومن يدري قد يتمكن من اضحاك الطفل ويحصل على مكافأة كبيرة.

في طريقه إلى مهمته، مر على حالات كثيرة تعبر عن بؤس الناس، فحين مر من جنب الميناء شاهد حمالا عجوزا يحمل كيسا، من ثقل الكيس الذي على ظهره جعل المسن يمشي مترنحا، يكاد يسقط، كان مشهدا مؤلما ولكنها الحياة تجد فيها ما يرضيك وما لا يرضيك، و هو يمشي في طريقه نحو مهمته التقى بصديقه المعلم، وقف أمامه فرأى وجها شاحبا نظر إلى حذاءه فوجده مفتوحا وك أنه يضحك على الحياة الكئيبة، لم يتحدث معه كثيرا فقط مجرد مجاملات وابتسامات تخفي الكثير من الألم ثم مضى كل منهما إلى حاله.
ها هو الآن أمام منزل رجل الأعمال دق جرس الباب، انتظر لحظة ثم فتحت له الخادمة، قدم نفسه رحبت وطلبت منه الدخول.
قادته إلى قاعة كبيرة وواسعة يمكن أن تلعب فيها كرة السلة من فرط كبرها وشساعتها، وطلبت منه الإنتظار، وقبل أن تنصرف سألها:
ـ أود تغيير ملابسي وارتداء ملابس العمل، أين يمكن أن أغير ملابسي؟
نظرت إليه وابتسمت، ثم قالت:
ـ تقصد تريد أن ترتدي ملابس المهرج ؟
رد قائلا:
ـ نعم ملابس المهرج، ولكن بما أني أحترف هذا العمل أسمي الملابس بملابس العمل، تماما مثل الملابس التي ترتدينها أنت، هي أيضا ملابس عمل تخص الخاادمات في المنازل.
لم ترد على كلامه، لكن أشارت إليه أن الحمام في الجهة الاخرى من القاعة يمكنه أن يغير ملابسه فيه.
حين ارتدى زي العمل، أو بالأحرى زي المهرج، راح يتجول ببصره في كل ارجاء القاعة، ما شد انتباهه أنها كانت مثل متحف مفتوح فيها الكثير من التماثيل واللوحات الفنية الثمينة، قطعة واحدة لو بيعت في مزاد علني يمكنها اطعام الجوعى في المدينة لمدة شهر أو أكثر.
لم يستغرق الامر طويلا حتى عادت الخادمة :
ـ حين رأته انفجرت ضاحكة بلا توقف.
أما هو فكل ما بدر منه أنه بدأ يفرك شعر رأسه ويتحسس أنفه الاحمر حتى يضحكها أكثر. و بالكاد توقفت عن ثورة الضحك، وقالت له:
ـ لقد تغير شكلك كأنه ليس أنت
قال لها:
ـ هذا يدخل في متطلبات العمل.
طلبت منه مرافقتها إلى قاعة أخرى فتبعها إلى أن وصلا معا إلى قاعة أخرى لا تقل جمالا عن القاعة الأولى، وطلبت منه الانتظار.
وما هي الا لحظات حتى دخل عليه رجل الاعمال السيد إيريك وهو يضع بين شفتيه سيجار كوبي ضخم، وبلا مقدمات أخذ نفسا عميقا من سيجارته وأطلق سحابة كثيفة من الدخان و راح يتحدث بحزن عن أزمة ابنه التي لم يجد لها حل:
ـ لا أعرف ماذا حدث لإبني تومي فمنذ أن مات مارو وهو في حالة إكتئاب غريبة عجز أمهر الأخصائيين عن فهمها وعجزت معهم في ايجاد حل، أنت لا تعرف ماذا كان يمثل له مارو، لقد كان صديقه الوفي ينام معه في غرفته يتنزه معه على الشاطئ ويتنقل معه حتى في رحلاته ولا يفترقان أبد.
إنحنى المهرج قليلا مبديا أسفه على هذا الوضع وراح يتحدث مع السيد إيريك:
ـ طبعا، طبعا سيدي يكون الامر صعبا عندما نفقد أخا عزيزا علينا أو صديقا يكون بمثابة الأخ لنا، وحسب ما فهمت من كلامك سيدي فإن مارو كان لولدك أكثر من أخ، والصراحة لا أعرف إن كان مارو صديقا لتومي له أو أخا له و ومهما يكن من أمر فإني أدرك أن الأمر صعب .
كان السيد إيريك يود أن يأخذ نفسا من سيجاره الفاخر لكنه توقف فجأة ونظر الى المهرج نظرة لو وقعت على الصخر لتفتت، شعر المهرج بالحرج وأنه ارتكب حماقة ما سرعان ما تدارك الأمر قائلا:
ـ أتمنى ان لا أكون تدخلت في تفاصيل تخصكم سيدي .
لكن السيد إيريك لم يأبه لما قاله المهرج ورد عليه ببرودة :
ـ مارو ليس أخا ولا صديقا لابني، هو مجرد كلب كان يحبه ويلعب معه ويرافقه.
ازدادت دهشة المهرج وقال مستغربا:
ـ كلب ! ؟
رد السيد إيريك:
ـ نعم كلب.
صمت السيد إيريك برهة من الزمن، ثم قال:
ـ أحيانا تجد الصديق في كائنات أخرى غير البشر.
رد المهرج متلعثما :
ـ فعلا، فعلا .
قال المهرج ذلك وفي قرارة نفسه شيئ من الندم على تلبية هذه الدعوة، فأمثال هؤلاء المتعجرفين من رجال الأعمال لا يمكن التعامل معهم بالمرة.
بعد صمت خيم عليهما نطق السيد إيريك أخيرا وقال بصوت فيه بعض الحزن:
ـ على كل حال ما زال ابني يتابع علاجه النفسي، ونصحني طبيبه بأن نحاول تحريك مشاعره من خلال تقريبه من الأشياء التي كانت تسعده، وابني كان يحب كثيرا مشاهدة عروض المهرجين، لهذا دعوتك، ربما يمكنك المساعدة في إعادة تأهيله وفي الوقت نفسه سنواصل علاجه مع المختص.
ثم أمسك بيدي المهرج وقال له بصوت يشبه صوت اليائس:
ـ أرجوك ابذل كل جهدك من يدري، كما قال الطبيب قد يجد ابنيؤ في الاشياء التي يحبها سعادته وتعود له ابتسامته.
رد المهرج:
ـ صدقني سيدي سأبذل كل جهدي
ابتسم السيد إيريك، واردف قائلا:
ـ دعنا نحاول ثم أخرج هاتفه من جيبه وطلب من زوجته أن تأتي، ما هي إلا لحظات حتى دخل الإبن تومي ترافقه امه روز وشقيقته كاتي، وما إن وقع نظر حرم الوزير على المهرج حتى راحت تضحك بلا توقف:
ـ إنه مهرج، إنه ظريف، أنظر الى أنفه يا تومي، انظري الى حذائه الكبير يا كاتي، لم ينتظر المهرج الوقت وحتى يخرج من جو الأسئلة والحرج دخل مباشرة في عمله ويقوم بحركات بهلوانية أمام أسرة السيد إيريك، يمشي مترنحا ثم يسقط، يرقص، يقفز، يقلد القرود في صخبها وفي ضجيجها وقفزها، يصدر بعض أصوات الحيوانات، ثم يخرج بعض الكرات الصغيرة من جيبه ويبدأ في رميه بشكل بهلواني رائع ثم يلتقطها بيده، ثم يتركها تقع على رأسه فيسقط أرضا، كان يفعل كل ذلك وهو يراقب ابن الوزير ولا يبالي بالضحك الهستيري للسيد غيريك وزوجته وابنته، فما كان يهمه أن يضحك تومي، كان يقوم بعمله بشغف وباحترافية كبيرة حتى دخل في عالم آخر عالم لم يكن يشعر به بوجود أي شخص سوى تومي وهو، ولكن تومي لم يكن يضحك أو يبتسم، وفي كل مرة ينتقل المهرج إلى مشهد جديد محاولا أن يجعل تومي يضحك، لم يكن يبالي بضحك السيد إيريك و زوجته وابنتهما، كان يركز كل اهتمامه على الابن تومي، وفجأة ابتسم تومي حين انتقل المهرج الى بعض مشاهد الحياة التي إعتادها وراح يقلد أمام تومي وعائلته ذلك العجوز الحمال الذي رآه وهو في في الميناء يحمل على ظهره أكياس القمح على كاهله الضعيف، شاهده في الصباح حين مر من جنب الميناء وهو في طريقه إلى منزل السيد إيريك الفخم، كان يؤدي دور ذلك العجوز الكئيب، يسير ببطئ يترنح، يسقط، يقف مرة أخرى ثم يسقط وراح إبن إيريك يضحك و يضحك ويضحك والأسرة كلها تضحك ،وحده المهرج كان قلبه ينفطر حزنا وألما، ثم راح يقلد لهم ذلك الشاب السكير الذي رآه بالأمس يمشي مترنحا ذات الشمال وذات اليمين، ثم قلد لهم في شكل كوميدي المعلم الذي يدرس الأطفال ووضع على عينيه نظارات طبية ضخمة زجاجها الإيمن مكسور، و ينتعل حذاءا ممزقا مفتوحا وكأن الحذاء يضحك على حال المعلم وبين الفينة والأخرى يتعمد المهرج الاصطدام بكرسي أو جدار القاعة ويترك جسده يسقط فتتبعثر الأقلام والاوراق، ثم يقف ويقلد المعلم ويقول بصوت يخرج من أنفه وهو يضرب بالعصا على الطاولة:
ـ من فضلكم الهدوء الهدوء، وفي هذه اللحظة راح تومي يضحك حتى استلقى على ظهره من الضحك، كل الأسرة تضحك، السيد إيريك يضحك، زوجته روز تضحك بصوت مجنون، ابنتهما كيتي تضحك وتضرب بيديها على الأرض، حتى الخادم الذي أتى بالعصير وبقي يتفرج على المشاهد الكوميدية للمهرج كان يضحك .
كلهم كانوا يضحكون وحده المهرج قلبه كان يعتصر وعيونه تفيض دمعا لأنه كان يعلم أنهم لم يضحكوا على حركاته ، ولكنهم كانوا يضحكون على البؤساء من الناس الذي كان يقلد حركاتهم أمام عائلة السيد إيريك، وراح يواصل عمله و يقلد لهم الناس في الأسواق والمعوقين والمجانين و تومي يضحك حتى كاد أن يختنق من الضحك والمهرج المسكين يتألم ويتألم حتى كاد قلبه يحترق من الألم، ثم توقف فجأة وقد مسحت دموعه مساحيق المهرج الذي على وجهه, بينما كانت عائلة رجل الاعمال مستغرقة في الضحك وزادت هيستيريا الضحك حين رأوا دموع المهرج تختلط بألوان المساحيق على وجهه، لقد كان المهرج يبكي بحرقة .
بعدما أنهى عرضه شكره إيريك بحرارة ودس في جيبه بعض من الدولارت، أما السيدة روز فنادت الخادم وطلبت منه أن يجمع بعض الطعام ويمنحه للمهرج ليأخذه معه إلى اسرته..
خرج المهرج من ذلك المنزل الفخم الذي يشبه قصر من قصور ألف ليلة وليلة وعينيه تذرف الدموع بلا توقف، كان يبكي على الضمير الذي مات، وعلى سعادة هؤلاء البشر وهم يضحكون على آلام الآخرين، بكى بحرقة على ضحكته وبهجته التي ضاعت منه منذ ثلاثين سنة.
مـــدونتـــي