أرثى بيت قالته العرب
13-04-2012, 09:49 AM
ذكر محمد بن يزيد المُبَرِّد ـ [ المتوفى سنة 286هـ = 899م ] ـ في كتابه " الفاضل في اللغة والأدب أنه " :
" قالت امرأة من بني أسد ترثي ابنها :
لنعم الفتى أضحى بأكناف حائلٍ *** قِرىً للصفيح الأبيض والأسلَ السمرِ
لعمري لقد أُرْديتَ غير مُزَنَّدٍ *** ولا مُغلقٍ بابَ السماحة بالعذر
فتى لم يزل مذ شدّ عقد إزاره *** مُشيدَ مَعالٍ أو مقيماً على ثغرِ
فتى لم يكذِّب فعلُه نادباتِه *** بما قلن فيه لا ولا المادح المُطْري
أرادوا ليُخفوا قبره عن عدوه *** فطيب تراب القبر دل على القبر

فيقال إن هذا أرثى بيت قالته العرب ". أهـ

وقال أبو الفرج الأصفهاني ـ [ المتوفى سنة 383هـ = 967م ] ـ في كتابه الأغاني :
" أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال : حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما

وتمام هذه الأبيات: أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن السكري والمبرد والأحول لعبدة يرثي قيساً:
عليك سلام الله قيس بن عاصم *** ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمة *** إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس هلكة هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما ". أهـ

وقال أبو هلال العسكري ـ [ المتوفى سنة 395هـ = 1005م ] في كتابه " ديوان المعاني ":
" وقالوا : أرثى بيت قالته العرب ، قول متمم بن نويرة ، في أخيه مالك ، قتل في الردة، قتله خالد بن الوليد :

أخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا أبو بكر بن دريد ، عن أبي حاتم ، عن الأصمعي ، قال : كان متمم بن نويرة ، قدم العراق فأقبل لا يرى قبراً إلا بكى عنده .

فقيل له: يموت أخوك بالملا , وتبكي على قبره بالعراق ! .

فقال:
لقد لامني عند القبورِ على البكا *** رفيقي لتذارفِ الدموعِ السوافكِ

وهذا البيت غير مختار الرصف عندي وفي ألفاظه زيادة على معناه .

أمنْ أجلِ قبرِ بالملا أنت نائحٌ *** على كلِّ قبر أو على كلِّ هالكِ
فقلت له إنَّ الشجي يبعثُ الشجى *** فدعني فهذا كلهُ قبرُ مالك

يقول: قد ملأ الأرض مصابه عظماً، فكأنه مدفون بكل مكان .

وهذا أبلغ ما قيل في تعظيم المَيْت .

ومنه أخذ القائل قوله :
ـ أخبرنا به أبو أحمد ، عن ابن الأنباري ، عن ثعلب , عن الرياشي , لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز ، وهو عندي من أرثى ما قيل . ـ

لهفي عليك للهفة من خائف *** كنتَ المجيرَ لهُ وليسَ مجيرُ
عمتْ صنائعهُ فعمَّ مُصابهُ *** فالناسُ فيهِ كلهم مأجورُ
فالناسُ مأتمهمْ عليهِ واحِدٌ *** في كلِّ وادٍ رَنَّةٌ وزفيرُ
يثني عليك لسان من لم تولِه *** خيراً لأنك بالثناءِ جدير
ردَّتْ صنائعه إليه حياتَه *** فكأنه من نشرها منشورُ

والصحيح أن يقول منشر لأنه يقال انشرالله الموتى فنشِروا هم.

وقالوا أرثى بيت قالته العرب قول المحدث:
على قَبْرِهِ بينَ القبورِ مُهابّةٌ *** كما قبلها كانَتْ على صاحبِ القبرِ

وقالوا بل قول الآخر:
أرادوا ليخفوا قَبرَهُ عن عَدُوِّه ِ ***فطيبُ تُرابِ القبرِ دَلَّ على القبرِ

وقالوا أرثاه قول ابن مناذر:
أنعى فتَى الجودِ إلى الجود *** ما مثل من أنعى بموجودِ
أنعى فتًى مصَّ الثرى بعده *** بقيّة الماءِ من العودِ

وأخبرنا أبو أحمد ، قال : سمعت محمد بن يحيى ، قال : سمعت محمد بن يزيد يقول :
لو سئلت عن أحسن أبيات تعرف في المراثي لم أختر على أبيات الخريمي:
ألم تراني أبني على الليث بنيةً *** وأحثي عليهِ التربَ لا أتخشعُ
وأعددته ذُخراً لكلِّ مُلِمَّةٍ *** وسهمُ المنايا بالذَّخائرِ مُولعُ
وأني وإن أظهرتُ مني جلادةً *** وصانعتُ أعدائي عليه لموجعُ
ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتهُ *** عليهِ ولكن ساحةُ الصبرِ أوسعُ

وقال أبو عمرو بن العلاء أرثى بيت قول عبدة :
فما كانَ قيسٌ هُلكهُ هُلك واحد *** ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما

وقال خلف الأحمر أرثى بيت :
الآن لما كنت أكمل من مشى *** وافتر نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها *** وأعنت ذلك بالفعال الصالح

وقال الأصمعي أرثى بيت للعرب:
ومن عجبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثّرى *** وزدت بما زودّتني مُتمتعا
ولو أنني أنصفُتك الودَّ لم أبتْ *** خلافك حتى ننطوي في الثرى معا

ومن أحسن ما قيل في بقايا آثار الميت قول الحسين بن مطير:
فتى عيش معروُفهِ بعدَ مَوْتهِ *** كما كانَ بعدَ السيلِ مجراه مرتعا

وفي هذه القصيدة:
أيا قبرَ معنٍ كنت أولَ حفرةٍ *** من الأرض خطتْ للسماحة مضجعا
ويا قبرَ معن كيفَ واريتَ شخصه *** ولو كان حياً ضقتَ حتى تصدعا
فلما مضى معن مضى الجودُ والندى *** وأصبحَ عرنينُ المكارم أجدعا

وأنا أقول: إن هذه الأبيات أرثى ماقيل في الجاهلية والاسلام .

وقالوا:أرثى بيت قيل قول مهلهل في كليب:
نبئتُ أنَّ النارَ بعدك أوقدتْ *** واستبَّ بعدك يا كليبُ المجلسُ
وتكلموا في أمر كل عظيمة *** لو كنتَ شاهدهم إذاً لم ينبسوا

وكان كليب إذا أوقد ناراً ، لم يوقد أحداً ناراً ، ولم ينزل ضيف إلا عليه ، وإذا جلس مجلساً ، لم يتكلم فيه أحد إلا هو .

وقالوا: أحسن ما قيل في المراثي قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
وكنا كندْمانَي جُذيمةَ حقبةً *** من الدهرِ حتى قيلَ لن تتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً *** لطول اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا

وليس في المحدثين أحسن مراثي من أبي تمام ". أهـ

قوله : " لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز ، وهو عندي من أرثى ما قيل
لهفي عليك للهفة من خائف *** كنتَ المجيرَ لهُ وليسَ مجيرُ ".

فالأبيات لشهرتها , وقع نسبتها لغير واحد من الشعراء المجيدين , وهذا حال الشعر الجيد ـ والله أعلم ـ إذا كان قائله مغمورا , فينسب للكثير من الشعراء , وخصوصا لمن عرف منهم بلون خاص من الشعر , واشتهر به , كما نسبت كل قصيدة فيها ذكر ليلى لمجنون ليلى .

مع أن التاريخ العربي دوّن من المجانين الذين تغزلوا بغير واحدة ممن اسمها ليلى أسماء عدة .

إذن , فالأبيات قد ذكرها أبو الحسن علي ابن الحسين البصري في " حماسته " , حيث قال :
" وقال الشَّمَرْدَل اللَّيْثِيّ أمويُّ الشعر
لَهْفَي عليكَ لِلَهْفَةٍ مِن خائِفٍ *** يَبْغِي جِوارَك حينَ لَيْسَ مُجِيرُ
أمَّا القُبُورُ فإنَّهُنَّ أَوانِسٌ *** بجِوارِ قَبْرِكَ، والدِّيارُ قُبُورُ
عَمَّتْ مَواهِبُهُ فعَمَّ مُصابُهُ *** فالنَّاسُ فِيه كُلُّهُم مَأْجُورُ
يُثْنِي عليَك لِسانُ مَن لَمْ تُولِهِ *** خَيْراً، لأَنَّكَ بالثَّناءِ جَديرُ
رَدَّتْ صنائِعُهُ إِليه حَياتَهُ *** فَكَأَنَّهُ مِن نَشْرِها مَنْشُورُ
فالنّاسُ مَأْتُمُهُمْ عليهِ واحِدٌ *** في كُلِّ دارٍ رَنَّةٌ وزَفِيرُ
عَجَباً لأَرْبَعِ أَذْرُعٍ في خَمْسَةٍ *** في جَوْفِها جَبَلٌ أشَمُّ كَبِيرُ ". أهـ

أما في شرح أبي علي أحمد بن محمد المرزوقي لحماسة أبي تمام , فالأبيات منسوبة لِـالتيمي في رثاء منصور بن زياد .

وأما في كتاب " نور القبس " ليوسف بن أحمد المعروف بالحافظ اليغموري , فقد قال :
" ويروى لقطرب في مرثية محمد بن منصور , وقيل لكُثير في عمر بن عبد العزيز , وقيل لبعض الأعراب :
لهفي عليك للهفةٍ من خائفِ *** كنتَ المُجير لها وليس مجير
أمَّا القبور فإنهنّ أوانسٌ *** بجوار قبرك والديارُ قبور
عَمَّتْ صنائعه فعَمَّ مُصابه *** فالناسُ فيه كلُّهم مأجورُ
والناسُ مأتمُهمُ عليه واحدٌ *** في كلّ دارٍ رنَّةٌ وزفيرُ
عمّت مصيبنهُ فصارت أسوةً *** للناس كلهم فليس صبور
يُثني عليك لسانُ من لم توله *** خيرا لأنك بالثناء جدير
ردَّت صنائعه عليه حياته *** فكأنه من نشرها منشور ". أهـ

وقوله :" قول المحدث:
على قَبْرِهِ بينَ القبورِ مُهابّةٌ *** كما قبلها كانَتْ على صاحبِ القبرِ ". أهـ

فلم أجد نسبة هذا البيت لقائله , في المراجع التي بين يدي .

و قوله : " وقالوا بل قول الآخر:
أرادوا ليخفوا قَبرَهُ عن عَدُوِّه ِ ***فطيبُ تُرابِ القبرِ دَلَّ على القبرِ ".

كذلك هذا البيت فيه إشكال في نسبته لقائله ! , فقد مرّ معك قول المبرد بأنه " لامرأة من بني أسد ترثي ابنها " , وذكر هبة الله الشجري في " أماليه " عن :
" هشام بن محمد قال: لما أجري الماء على قبر الحسين بن علي عليهما السلام , نضب بعد الأربعين يوما ً, وامتحى أثر القبر ، فجاء أعرابي من بني أسد , فجعل يأخذ قبضة ويشمه , حتى وقع على قبر الحسين فشمه وبكى ، وقال : بأبي وأمي ما كان أطيبك حياً وأطيب ترتبك ميتا ً، ثم بكى وأنشأ يقول :
أرادوا ليخفوا قبره عن صديقه *** فطيب تراب القبر دل على القبر

وهو بيت مشهور ". أهـ

أما أغلب الرواة لهذا البيت ـ وهذا استنادا على أغلب المراجع المتوفرة بين يدي ـ , فقد نسبوه لصريع الغواني مسلم بن الوليد يرثي به رجلا , والله أعلم بالصواب .

وقوله : " وقال خلف الأحمر أرثى بيت :
الآن لما كنت أكمل من مشى *** وافتر نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها *** وأعنت ذلك بالفعال الصالح ".

فالبيتان من قصيدة لزياد الأعجم يرثي بها المغيرة بن المهلب .

وقوله : " وقال الأصمعي أرثى بيت للعرب:
ومن عجبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثّرى *** وزدت بما زودّتني مُتمتعا
ولو أنني أنصفُتك الودَّ لم أبتْ *** خلافك حتى ننطوي في الثرى معا ".

كذلك لم أجد لها نسبا لقائلها في المراجع التي بين يدي , غير أنها لوالد يرثي بهما ابنه .

ـ المراجع :
ـ الأغاني : الأصفهاني .
ـ الأمالي الشجرية هبة الله ابن الشجري .
ـ الحماسة البصرية : علي ابن الحسين البصري .
ـ الفاضل في اللغة و الأدب : المُبَرِّد .
ـ ديون المعاني : أبو هلال العسكري .
ـ شرح ديوان الحماسة : أبو علي المرزوقي .
ـ موسوعة الشعر العربي الإلكترونية : المجمع الثقافي 2003 .
ـ نور القبس : الحافظ اليغموري .
التعديل الأخير تم بواسطة حمبراوي ; 14-04-2012 الساعة 09:32 PM