الرد على:السلفيون يغتابون الدعاة
30-12-2007, 08:01 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
رميهم أهل السنة بغيبة و سب العلماء
أقول : هذه فرية ما فيها مرية ، و مناقشة هذه الفرية من وجهين :
الوجه الأول : ما المقصود بالغيبة و السب؟
الوجه الثاني : ماذا تعنون بلفظة "العلماء"؟
أما بالنسبة للوجه الأول : فإن كان مقصودكم بالسب و الغيبة أنهم يبينون أخطاء من أخطأ في الشرع و أحدث بدعا ما أنزل الله بها من سلطان فنقول : نعم هم كذلك ، و لكن هذا العمل منهم لا يسمى سبًّا و لا غيبة محرمة ، بل هو نصيحة و بيان و من الغيبة الجائزة التي استثناها أهل العلم من الغيبة المحرمة، بل يعد ذلك علما من علوم الشريعة المطهرة، ألا و هو علم الجرح و التعديل ، الذي به حفظ الله لهذه الأمة دينها قال تعالى : ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ) (الحجر : 9).
قال الشيخ العثيمين -حفظه الله- : "لله الحمد ما ابتدع أحد بدعة ، إلا قيض الله له بمنه و كرمه من يبين هذه البدعة و يدحضها بالحق ، و هذا من تمام مدلول قول الله –تبارك و تعالى – : (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ)" (1).
و لكن ماذا يقال عن أناس يقلبون حقائق الأمور و كأنَّهم لم يسمعوا إلى قوله تعالى : (وَ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأيَتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ) (الأنعام : 55).
و ما ثبت عند مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم قال :" الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رَسُول الله ؟ قال : لله و لكتابه و لرسوله و لأئمة المسلمين و عامتهم".(2).
و ما ثبت عند البخاري و مسلم و اللفظ للبخاري من حديث جرير بن عبد الله قال : بايعت النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم على السمع و الطاعة ، فلقنني : "فيما استطعت، و النصح لكل مسلم"(3).
و قد أخذ أهل العلم بجواز التكلم في الشخص بغير حضرته للمصلحة واستدلوا بأدلة منها :
ما جاء في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلا استأذن على النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم فلما رآه قال : "بئس أخو العشيرة و بئس ابن العشيرة " فلما جلس تَطَلَّقَ النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم في وجهه و انبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة : يا رسول الله ، حين رأيت الرجل قلت له : كذا و كذا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ في وجهه و انبسطت إليه فقال صلى الله عليه و على آله و سلم :"يا عائشة مَتَى عهدتني فاحشاً، إن شر الناس عند الله منْزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره "(4).
و في رواية "اتقاء فحشه ". (5)
قال الخطيب البغدادي : "ففي قول النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم للرجل " بئس رجل العشيرة" دليل على أن اخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم و الدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة؛ إذ لو كان غيبة لما أطلقه النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم"(6)
قال ابن حجر : " قال العلماء : تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعاً حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها : كالتظلم و الاستعانة على تغيير المنكر و الاستفتاء و المحاكمة و التحذير من الشر ، و يدخل فيه تجريح الرواة و الشهود و إعلام من له و لاية عامة بسير من هو تحت يده، و جواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، و كذا من رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق و يخاف عليه الاقتداء به، و ممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق ، أو الظلم أو البدعة ". (7)
قلت : و يلتحق بما ذكره رحمه الله ذكر الإنسان بصفة كالطول و القصر إن قصد به البيان و التمييز، أما إن قصد به التنقص لم يجز، و الأصل في ذلك حديث ذي اليدين ، فقد ثبت في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " صلىالنَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم الظهر ركعتين ثُمَّ سلم ثُمَّ قام الى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده عليها و في القوم يومئذ أبو بكر و عمر فهابا أن يكلماه، و خرج سرعان الناس فقالوا : قصرت الصلاة ، و في القوم رجل كان النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم يدعوه ذا اليدين".(8)
قال النووي : " و لقبه ذو اليدين لطول كان في يديه".(9)
و قال الحافظ ابن حجر : "و حاصله أن اللقب إن كان ممَّا يعجب الملقب و لا إطراء فيه ممَّا يدخل في نَهي الشرع فهو جائز أو مستحب، و إن كان ممََّا لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقًا إلى التعريف به حيث يشتهر به و لا يتميز عن غيره إلا بذكره "(10)
و ثبت في مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة فقال النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم : "فإذا أحللت فآذنيني". قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان و أبا جهم خطباني، فقال رَسولُ الله صلى الله عليه و على آله و سلم :" أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، و أما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد".(11)
قال النووي : " و علم أن في حديث فاطمة بنت قيس فوائد كثيرة .
التاسعة : جواز ذكر الغائب بما فيه من العيوب الَّتي يكرهها إذا كان للنصيحة و لا يكون حينئذ غيبة محرمة ".(12)
قلت : لذا فقد فقه السلف -رضوان الله تعالى عليهم- هذا الأمر جيداً و سطروا في ذلك المؤلفات؛ حفاظاً على السنة المطهرة من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين و تأويل الجاهلين، فمن تلكم المؤلفات في باب الجرح و العديل، كتاب "الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600 ه، ثُمَّ جاء الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمان المزي المتوفى سنة 746 ه و قام بتهذيبه في كتاب سماه "تهذيب الكمال في اسماء الرجال" و يقال أنه لم يكمله، و أكمله الحافظ علاء الدين مغلطاي المتوفى سنة 762 ه و لأبي حفص عمر بن علي ابن الملقن كتاب سماه " إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال" و قد اهتم العلماء بالتهذيب، فقد ألف الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 ه كتاباً سماه "تهذيب تهذيب الكمال" ثٌمَّ قام باختصاره في كتاب له سماه "الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" و جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 825 ه فألف كتابه " تهذيب التهذيب" و يقع في اثني عشر مجلداً، ثُمَّ اختصره في كتاب "تقريب التهذيب" الذي خرج قريباً محققاً بتحقيق أبي الأشبال صغير أحمد الباكستاني، و جاء بعد الحافظ بن حجر الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي،فألف كتاباً سماه " خلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسْماء الرجال" و يقع في ثلاثة مجلدات " .(13)
فانظر اخي القارئ إلى كل هذا الاهتمام العظيم بمؤلف واحد، و كل هذا إن دل على شيء إنما يدل على عظم قدر هذا الفن- أعني : الجرح و التعديل- و المؤلفات الأخرى أكثر من أن تحصر فمنها أيضاً كتاب : "الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي، و كتاب" لسان الميزان" للحافظ بن حجر العسقلاني، و كتاب "ميزان الاعتدال" للإمام الذهبي، و له أيضاً كتاب : " المغني في الضعفاء" و كتاب " الضعفاء و المتروكين" للإمام الدارقطني، و للإمام البخاري و النسائي كتابان في الضعفاء، و غيرها كثير و كثير ممَّا ورثه السلف لنا كل هذا ؛ حفاظاً و اعتناء بهذه السنة المطهرة.
و السوأل الذي يوجه لهؤلاء المفترين على أهل السنة أن يقال : هل كل هذه المؤلفات من السب و الشتم و الغيبة؟!إذا أننا لا نجد فيها إلا فلاناً كذاباً أو متروكاً أو ضعيفاً أو سيء الحفظ ، أو به غفلة أو متهماً بالكذب و ما شابه ذلك، نبئونا بعلم إن كنتم صادقين؟
و قد يقول قائلهم : إن هناك فرقاً بين علم الجرح و التعديل لأجل حفظ الشريعة و بين نقدكم اللاذع لمن خالف الشريعة فهو يعد من قبيل الغيبة ، فنقول ما قاله الحافظ بن رجب رحمه الله : "و لا فرق بين الطعن في رواة حفاظ الحديث و لا التمييز بين من تقبل روايته منهم و من لا تقبل و بين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب و السنة و تأول شيئاً منها على غير تأويله ، و تمسك بما لا يتمسك به ، ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه و قد أجمع على جواز ذلك أيضاً". (14)
قلت : و إليك أخي القارئ ذكر شيء من اقوال العلماء في بيان أن الكلام في الجرح و في أهل البدع ليس من الغيبة المحرمة في شيء ، بل ذلك من قبيل النصيحة و الغيبة الجائزة.
قال الحسن البصري رحمه الله : "ليس لأهل البدع غيبة"(15).
و قال كثير أبو سهل : "يقال أهل الأهواء لا حرمة لَهم"(16).
و قال قتادة لعاصم الأحول : "يا أحول إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لَهاَ أن تذكر حتى تحذر ".
(17)
و قال شعبة : "تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة" يعني نذكر الجرح و التعديل (18).
و ذكر ابن المبارك رجلاً فقال : "يكذب ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ قال : اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟ ".(19)
و قال إسماعيل بن عُلَيَّةَ في الجرح : "إن هذا أمانة، ليس بغيبة".(20)
قال أبوزرعة الدمشقي : " سَمِعتُ أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم و يُصَحِّف، فقال : بَيِّن أمره، فقلت : لأبي زرعة ، " أ ترى ذلك غيبة؟" قال : لا. (21)
وروى أحمد بن مروان المالكي : ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : " جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي يقول : فلان ضعيف، و فلان ثقة، فقال أبو تراب : يا شيخ، لا تغتب العلماء ، قال : فالتفت أبي إليه ، قال : ويحك ، هذا نصيحة ليس هذا غيبة"(22).
و قال محمد بن بندار السباك الجرجاني : "قلت لأحمد بن حنبل : إنه ليشتد عليَّ أن أقول : فلان ضعيف، فلان كذاب، قال أحمد : إذا سَكَتَّ انت و سَكَتُّ أنا فمن يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ".(
23)
و قال ابن المبارك : " المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، فقال له بعض الصوفية : يا أبا عبد الرحمن تغتاب ؟ قال : اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟"(24).
و قال يحي بن سعيد : "سألت سفيان الثوري و شعبة و مالكا و ابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت"(25).
و قال حنبل : وحدثنا محمد بن داود الحدائي قال : قلت لسفيان بن عيينة :"إن هذا يتكلم في القدر-يعني : إبراهيم بن أبي يحي- فقال سفيان : "عَرَّفُوا الناس أمره و سلوا الله لي العافية"(26).
و قال محمد بن سهل البخاري : "كنا عند الفريابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل : لو حدثتنا كان أعجب إلينا، فغضب و قال : كلامي في أهل البدع احب إلي من عبادة ستين سنة "(27).
وقال عفان : "كنت عند إسماعيل بن علية فحدث رجل عن رجل بحديث،، فقلت : لا تحدث عن هذا فإنه ليس بثبت، فقال : اغتبته، فقال إسماعيل : ما اغتابه و لكنه حكم عليه أنه ليس بثبت"(28).
و قال أيضاً يحي القطان: "سألت سفيان و شعبة و مالك بن أنس عن الرجل الكذاب يتبين لي أمره، قالوا : لا يسعك إلا أن تبين للناس أمره" (29).
و قال النووي رحمه الله : "لكن تباح الغيبة لغرض شرعي و ذلك لستة أسباب. الرابع : تحذير المسلمين من الشر و ذلك من وجوه : منها جرح المجروحين من الرواة و الشهود، و المصنفين، و ذلك جائز بالإجماع بل واجب صوناً للشريعة، و منها إذا رأيت متفقهاً يتردد إلى فاسق أو مبتدع". (30)
و قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله عند قول الترمذي: "وجوب الكلام في الجرح و التعديل" : "مقصود الترمذي رحمه الله أن يبين أن الكلام في الجرح و التعديل جائز . فقد أجمع عليه سلف الأمة و أئمتها، لِما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مِمَّا لا يجوز قبوله، و قد ظن من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة و ليس كذلك،فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة، و لو كان خاصة كالقدح في شهادة الزور جائز بغير نزاع، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى".(31)
قلت و قد نظم ابن أبي شريف الستة الأمور المستثناة من الغيبة المحرمة فقال:
القدح ليس بغيبة في ستةٍ ...... متظلم و معرف و محذر
و لمظهر فسقاً و مستفت و من..... طلب الإعانة في إزالة منكر (32)
و انظر كتاب : " درء الريبة فيما يجوز و ما لا يجوز من الغيبة" للإمام الشوكاني رحمه الله .
ثٌّم إن النصوص في تقرير هذا الأمر حقيقة كثيرة جداً و سأذكر بعضاً من النصوص الواردة عن السلف في التحذير من أشخاص باعيانهِم حَتَّى تكون تقريراً لِما ذكر آنفًا.
قال عبد الله بن المبارك و هو على رءوس الناس : "دعوا حديث عمرو بن ثابت ؛فإنه كان يسب السلف." (33)
و سئل ابن عون عن حديث لِشَهْرِ و هو قائم على أسكفة الباب ، فقال : "إن شهراً نَزَكوهُ، إن شهراً نَزَكوهُ ".
قال مسلم بن الحجاج : يقول أخذته ألسنة الناس، تكلموا فيه".(34)
و قال شعبة : "هذا عباد بن كثير فاحذروه ".(35)
و قال ابن المبارك : "بَقِيَّةُ صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل و أدبر".(36)
و قال الشعبي : حدثني الحارث الأعور الهمداني و كان كذاباً". (37)
و النصوص في هذا الباب كثيرة، راجع مقدمة صحيح مسلم (16-20).
بل قد قال الخطيب البغدادي : "و قد أنكر قوم لَم يتبحروا في العلم قول الحفاظ من أئمتنا و أولي المعرفة من أسلافنا أن فلاناً الراوي ضعيف و فلان غير ثقة و ما أشبه هذا من الكلام، و رأوا ذلك غيبة لمن قيل فيه، و ليس الأمر على ما ذهبوا إليه، لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، و في ذلك دليل على جواز الجرح لمن لَم يكن صدوقأً في روايته مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قدوردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا و بضد قول من خالفنا".(38)
أما ثانيأً:إن كان مقصودكم بالسب و الشتم المحرم و الغيبة المحرمة الَّتي وردت النصوص بالنهي عنها و ذمها فَهذا يتنزه عنه أهل السنة السلفيون، لأن ذلك ليس من أخلاق الإسلام أصلأً. فهم بحمد الله متبعون لَما في الكتاب العزيز و السنة المطهرة اللذين حرما ذلك، كما في قوله تعالى : (وَ لاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات: 12).
و ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال : " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله و رسوله أعلم، قال : ذكرك أخاك بِما يكره، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، و إن لَم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ".(39)
و ثبت في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال في حجة الوداع و فيه :"فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".(
40)
و ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم و فيه : "كل المسلم على المسلم حرام : دمه،و ماله، و عرضه".(41)
و ثبت عند أبي داود من حديث سعيد بن زيد أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق".(42)
و ثبت ايضاً عند أبي داود من حديث أنس أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "لَمَّا عرج بي مررت بقوم لَهم أظفار من نحاس يخمشون و جوههم و صدروهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ ! قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم(43 )".
قلت : فهذه النصوص و غيرها مِمَّا تدل على تحريم الغيبة و لكن الذي قال هذه الأحاديث هو الذي قال الأحاديث المتقدمة الَّتي تبين جواز غيبة الشخص للحاجة، فلا منافاة، و الجمع على ما ذكر أولى و مقدم على إبطال أحد الدليلين مع العلم بأن ذلك موافق لِما أجمع عليه السلف.
و أيضاً فإن أهل السنة يترفعون عن السب، للنصوص الواردة في النهي عنه منها ما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك قال : "لم يكن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم سباباً و لا فاحشاً و لا لعاناً ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة : ما له ترب جبينه"(44)
قال الداودي : قوله "ترب جبينه" كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم و هي من التراب، أي سقط جبينه للأرض و هي كقولهم : رغم أنفه، و لكن لا يراد معنَى قوله : " ترب جبينه " بل هو نظير ما تقدم في قوله "تربت يمينك" أى أنَّها كلمة تجري على اللسان و لا يراد حقيقتها".(45)
و ثبت عند البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "سباب المسلم فسوق و قتاله كفر.(46)
قال النووي : "السب في اللغة : الشتم و التكلم في عرض الإنسان بِما يعيبه، و الفسق في اللغة : الخروج، و المراد به في الشرع : الخروج عن الطاعة، وأما معنَى الحديث : فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة و فاعله فاسق كما أخبر به النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم ".(47)
و قال ابن حجر : "ففي الحديث تعظيم حق المسلم و الحكم على من سبه بغير حق بالفسق و مقتضاه "الرد على المرجئة".(48)
و ثبت في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أبي موسى قال : قالوا : يا رَسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال : "من سلم المسلمون من لسانه و يده".(49)
و في رواية لمسلم من حديث جابر : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده".(50)
قلت : هذه النصوص تنسف فرية أهل البدع فيما رموا به أهل السنة، و بذلك يبطل الوجه الأول من الشبهة الثالثة، فإلى الوجه الثاني من هذه الشبهة.
رميهم أهل السنة بغيبة و سب العلماء
أقول : هذه فرية ما فيها مرية ، و مناقشة هذه الفرية من وجهين :
الوجه الأول : ما المقصود بالغيبة و السب؟
الوجه الثاني : ماذا تعنون بلفظة "العلماء"؟
أما بالنسبة للوجه الأول : فإن كان مقصودكم بالسب و الغيبة أنهم يبينون أخطاء من أخطأ في الشرع و أحدث بدعا ما أنزل الله بها من سلطان فنقول : نعم هم كذلك ، و لكن هذا العمل منهم لا يسمى سبًّا و لا غيبة محرمة ، بل هو نصيحة و بيان و من الغيبة الجائزة التي استثناها أهل العلم من الغيبة المحرمة، بل يعد ذلك علما من علوم الشريعة المطهرة، ألا و هو علم الجرح و التعديل ، الذي به حفظ الله لهذه الأمة دينها قال تعالى : ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ) (الحجر : 9).
قال الشيخ العثيمين -حفظه الله- : "لله الحمد ما ابتدع أحد بدعة ، إلا قيض الله له بمنه و كرمه من يبين هذه البدعة و يدحضها بالحق ، و هذا من تمام مدلول قول الله –تبارك و تعالى – : (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ)" (1).
و لكن ماذا يقال عن أناس يقلبون حقائق الأمور و كأنَّهم لم يسمعوا إلى قوله تعالى : (وَ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأيَتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ) (الأنعام : 55).
و ما ثبت عند مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم قال :" الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رَسُول الله ؟ قال : لله و لكتابه و لرسوله و لأئمة المسلمين و عامتهم".(2).
و ما ثبت عند البخاري و مسلم و اللفظ للبخاري من حديث جرير بن عبد الله قال : بايعت النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم على السمع و الطاعة ، فلقنني : "فيما استطعت، و النصح لكل مسلم"(3).
و قد أخذ أهل العلم بجواز التكلم في الشخص بغير حضرته للمصلحة واستدلوا بأدلة منها :
ما جاء في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلا استأذن على النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم فلما رآه قال : "بئس أخو العشيرة و بئس ابن العشيرة " فلما جلس تَطَلَّقَ النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم في وجهه و انبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة : يا رسول الله ، حين رأيت الرجل قلت له : كذا و كذا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ في وجهه و انبسطت إليه فقال صلى الله عليه و على آله و سلم :"يا عائشة مَتَى عهدتني فاحشاً، إن شر الناس عند الله منْزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره "(4).
و في رواية "اتقاء فحشه ". (5)
قال الخطيب البغدادي : "ففي قول النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم للرجل " بئس رجل العشيرة" دليل على أن اخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم و الدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة؛ إذ لو كان غيبة لما أطلقه النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم"(6)
قال ابن حجر : " قال العلماء : تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعاً حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها : كالتظلم و الاستعانة على تغيير المنكر و الاستفتاء و المحاكمة و التحذير من الشر ، و يدخل فيه تجريح الرواة و الشهود و إعلام من له و لاية عامة بسير من هو تحت يده، و جواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، و كذا من رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق و يخاف عليه الاقتداء به، و ممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق ، أو الظلم أو البدعة ". (7)
قلت : و يلتحق بما ذكره رحمه الله ذكر الإنسان بصفة كالطول و القصر إن قصد به البيان و التمييز، أما إن قصد به التنقص لم يجز، و الأصل في ذلك حديث ذي اليدين ، فقد ثبت في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " صلىالنَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم الظهر ركعتين ثُمَّ سلم ثُمَّ قام الى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده عليها و في القوم يومئذ أبو بكر و عمر فهابا أن يكلماه، و خرج سرعان الناس فقالوا : قصرت الصلاة ، و في القوم رجل كان النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم يدعوه ذا اليدين".(8)
قال النووي : " و لقبه ذو اليدين لطول كان في يديه".(9)
و قال الحافظ ابن حجر : "و حاصله أن اللقب إن كان ممَّا يعجب الملقب و لا إطراء فيه ممَّا يدخل في نَهي الشرع فهو جائز أو مستحب، و إن كان ممََّا لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقًا إلى التعريف به حيث يشتهر به و لا يتميز عن غيره إلا بذكره "(10)
و ثبت في مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة فقال النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم : "فإذا أحللت فآذنيني". قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان و أبا جهم خطباني، فقال رَسولُ الله صلى الله عليه و على آله و سلم :" أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، و أما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد".(11)
قال النووي : " و علم أن في حديث فاطمة بنت قيس فوائد كثيرة .
التاسعة : جواز ذكر الغائب بما فيه من العيوب الَّتي يكرهها إذا كان للنصيحة و لا يكون حينئذ غيبة محرمة ".(12)
قلت : لذا فقد فقه السلف -رضوان الله تعالى عليهم- هذا الأمر جيداً و سطروا في ذلك المؤلفات؛ حفاظاً على السنة المطهرة من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين و تأويل الجاهلين، فمن تلكم المؤلفات في باب الجرح و العديل، كتاب "الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600 ه، ثُمَّ جاء الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمان المزي المتوفى سنة 746 ه و قام بتهذيبه في كتاب سماه "تهذيب الكمال في اسماء الرجال" و يقال أنه لم يكمله، و أكمله الحافظ علاء الدين مغلطاي المتوفى سنة 762 ه و لأبي حفص عمر بن علي ابن الملقن كتاب سماه " إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال" و قد اهتم العلماء بالتهذيب، فقد ألف الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 ه كتاباً سماه "تهذيب تهذيب الكمال" ثٌمَّ قام باختصاره في كتاب له سماه "الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" و جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 825 ه فألف كتابه " تهذيب التهذيب" و يقع في اثني عشر مجلداً، ثُمَّ اختصره في كتاب "تقريب التهذيب" الذي خرج قريباً محققاً بتحقيق أبي الأشبال صغير أحمد الباكستاني، و جاء بعد الحافظ بن حجر الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي،فألف كتاباً سماه " خلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسْماء الرجال" و يقع في ثلاثة مجلدات " .(13)
فانظر اخي القارئ إلى كل هذا الاهتمام العظيم بمؤلف واحد، و كل هذا إن دل على شيء إنما يدل على عظم قدر هذا الفن- أعني : الجرح و التعديل- و المؤلفات الأخرى أكثر من أن تحصر فمنها أيضاً كتاب : "الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي، و كتاب" لسان الميزان" للحافظ بن حجر العسقلاني، و كتاب "ميزان الاعتدال" للإمام الذهبي، و له أيضاً كتاب : " المغني في الضعفاء" و كتاب " الضعفاء و المتروكين" للإمام الدارقطني، و للإمام البخاري و النسائي كتابان في الضعفاء، و غيرها كثير و كثير ممَّا ورثه السلف لنا كل هذا ؛ حفاظاً و اعتناء بهذه السنة المطهرة.
و السوأل الذي يوجه لهؤلاء المفترين على أهل السنة أن يقال : هل كل هذه المؤلفات من السب و الشتم و الغيبة؟!إذا أننا لا نجد فيها إلا فلاناً كذاباً أو متروكاً أو ضعيفاً أو سيء الحفظ ، أو به غفلة أو متهماً بالكذب و ما شابه ذلك، نبئونا بعلم إن كنتم صادقين؟
و قد يقول قائلهم : إن هناك فرقاً بين علم الجرح و التعديل لأجل حفظ الشريعة و بين نقدكم اللاذع لمن خالف الشريعة فهو يعد من قبيل الغيبة ، فنقول ما قاله الحافظ بن رجب رحمه الله : "و لا فرق بين الطعن في رواة حفاظ الحديث و لا التمييز بين من تقبل روايته منهم و من لا تقبل و بين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب و السنة و تأول شيئاً منها على غير تأويله ، و تمسك بما لا يتمسك به ، ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه و قد أجمع على جواز ذلك أيضاً". (14)
قلت : و إليك أخي القارئ ذكر شيء من اقوال العلماء في بيان أن الكلام في الجرح و في أهل البدع ليس من الغيبة المحرمة في شيء ، بل ذلك من قبيل النصيحة و الغيبة الجائزة.
قال الحسن البصري رحمه الله : "ليس لأهل البدع غيبة"(15).
و قال كثير أبو سهل : "يقال أهل الأهواء لا حرمة لَهم"(16).
و قال قتادة لعاصم الأحول : "يا أحول إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لَهاَ أن تذكر حتى تحذر ".
(17)
و قال شعبة : "تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة" يعني نذكر الجرح و التعديل (18).
و ذكر ابن المبارك رجلاً فقال : "يكذب ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ قال : اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟ ".(19)
و قال إسماعيل بن عُلَيَّةَ في الجرح : "إن هذا أمانة، ليس بغيبة".(20)
قال أبوزرعة الدمشقي : " سَمِعتُ أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم و يُصَحِّف، فقال : بَيِّن أمره، فقلت : لأبي زرعة ، " أ ترى ذلك غيبة؟" قال : لا. (21)
وروى أحمد بن مروان المالكي : ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : " جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي يقول : فلان ضعيف، و فلان ثقة، فقال أبو تراب : يا شيخ، لا تغتب العلماء ، قال : فالتفت أبي إليه ، قال : ويحك ، هذا نصيحة ليس هذا غيبة"(22).
و قال محمد بن بندار السباك الجرجاني : "قلت لأحمد بن حنبل : إنه ليشتد عليَّ أن أقول : فلان ضعيف، فلان كذاب، قال أحمد : إذا سَكَتَّ انت و سَكَتُّ أنا فمن يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ".(
23)
و قال ابن المبارك : " المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، فقال له بعض الصوفية : يا أبا عبد الرحمن تغتاب ؟ قال : اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟"(24).
و قال يحي بن سعيد : "سألت سفيان الثوري و شعبة و مالكا و ابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت"(25).
و قال حنبل : وحدثنا محمد بن داود الحدائي قال : قلت لسفيان بن عيينة :"إن هذا يتكلم في القدر-يعني : إبراهيم بن أبي يحي- فقال سفيان : "عَرَّفُوا الناس أمره و سلوا الله لي العافية"(26).
و قال محمد بن سهل البخاري : "كنا عند الفريابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل : لو حدثتنا كان أعجب إلينا، فغضب و قال : كلامي في أهل البدع احب إلي من عبادة ستين سنة "(27).
وقال عفان : "كنت عند إسماعيل بن علية فحدث رجل عن رجل بحديث،، فقلت : لا تحدث عن هذا فإنه ليس بثبت، فقال : اغتبته، فقال إسماعيل : ما اغتابه و لكنه حكم عليه أنه ليس بثبت"(28).
و قال أيضاً يحي القطان: "سألت سفيان و شعبة و مالك بن أنس عن الرجل الكذاب يتبين لي أمره، قالوا : لا يسعك إلا أن تبين للناس أمره" (29).
و قال النووي رحمه الله : "لكن تباح الغيبة لغرض شرعي و ذلك لستة أسباب. الرابع : تحذير المسلمين من الشر و ذلك من وجوه : منها جرح المجروحين من الرواة و الشهود، و المصنفين، و ذلك جائز بالإجماع بل واجب صوناً للشريعة، و منها إذا رأيت متفقهاً يتردد إلى فاسق أو مبتدع". (30)
و قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله عند قول الترمذي: "وجوب الكلام في الجرح و التعديل" : "مقصود الترمذي رحمه الله أن يبين أن الكلام في الجرح و التعديل جائز . فقد أجمع عليه سلف الأمة و أئمتها، لِما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مِمَّا لا يجوز قبوله، و قد ظن من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة و ليس كذلك،فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة، و لو كان خاصة كالقدح في شهادة الزور جائز بغير نزاع، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى".(31)
قلت و قد نظم ابن أبي شريف الستة الأمور المستثناة من الغيبة المحرمة فقال:
القدح ليس بغيبة في ستةٍ ...... متظلم و معرف و محذر
و لمظهر فسقاً و مستفت و من..... طلب الإعانة في إزالة منكر (32)
و انظر كتاب : " درء الريبة فيما يجوز و ما لا يجوز من الغيبة" للإمام الشوكاني رحمه الله .
ثٌّم إن النصوص في تقرير هذا الأمر حقيقة كثيرة جداً و سأذكر بعضاً من النصوص الواردة عن السلف في التحذير من أشخاص باعيانهِم حَتَّى تكون تقريراً لِما ذكر آنفًا.
قال عبد الله بن المبارك و هو على رءوس الناس : "دعوا حديث عمرو بن ثابت ؛فإنه كان يسب السلف." (33)
و سئل ابن عون عن حديث لِشَهْرِ و هو قائم على أسكفة الباب ، فقال : "إن شهراً نَزَكوهُ، إن شهراً نَزَكوهُ ".
قال مسلم بن الحجاج : يقول أخذته ألسنة الناس، تكلموا فيه".(34)
و قال شعبة : "هذا عباد بن كثير فاحذروه ".(35)
و قال ابن المبارك : "بَقِيَّةُ صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل و أدبر".(36)
و قال الشعبي : حدثني الحارث الأعور الهمداني و كان كذاباً". (37)
و النصوص في هذا الباب كثيرة، راجع مقدمة صحيح مسلم (16-20).
بل قد قال الخطيب البغدادي : "و قد أنكر قوم لَم يتبحروا في العلم قول الحفاظ من أئمتنا و أولي المعرفة من أسلافنا أن فلاناً الراوي ضعيف و فلان غير ثقة و ما أشبه هذا من الكلام، و رأوا ذلك غيبة لمن قيل فيه، و ليس الأمر على ما ذهبوا إليه، لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، و في ذلك دليل على جواز الجرح لمن لَم يكن صدوقأً في روايته مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قدوردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا و بضد قول من خالفنا".(38)
أما ثانيأً:إن كان مقصودكم بالسب و الشتم المحرم و الغيبة المحرمة الَّتي وردت النصوص بالنهي عنها و ذمها فَهذا يتنزه عنه أهل السنة السلفيون، لأن ذلك ليس من أخلاق الإسلام أصلأً. فهم بحمد الله متبعون لَما في الكتاب العزيز و السنة المطهرة اللذين حرما ذلك، كما في قوله تعالى : (وَ لاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات: 12).
و ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال : " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله و رسوله أعلم، قال : ذكرك أخاك بِما يكره، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، و إن لَم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ".(39)
و ثبت في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال في حجة الوداع و فيه :"فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".(
40)
و ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم و فيه : "كل المسلم على المسلم حرام : دمه،و ماله، و عرضه".(41)
و ثبت عند أبي داود من حديث سعيد بن زيد أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق".(42)
و ثبت ايضاً عند أبي داود من حديث أنس أن رَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "لَمَّا عرج بي مررت بقوم لَهم أظفار من نحاس يخمشون و جوههم و صدروهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ ! قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم(43 )".
قلت : فهذه النصوص و غيرها مِمَّا تدل على تحريم الغيبة و لكن الذي قال هذه الأحاديث هو الذي قال الأحاديث المتقدمة الَّتي تبين جواز غيبة الشخص للحاجة، فلا منافاة، و الجمع على ما ذكر أولى و مقدم على إبطال أحد الدليلين مع العلم بأن ذلك موافق لِما أجمع عليه السلف.
و أيضاً فإن أهل السنة يترفعون عن السب، للنصوص الواردة في النهي عنه منها ما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك قال : "لم يكن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم سباباً و لا فاحشاً و لا لعاناً ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة : ما له ترب جبينه"(44)
قال الداودي : قوله "ترب جبينه" كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم و هي من التراب، أي سقط جبينه للأرض و هي كقولهم : رغم أنفه، و لكن لا يراد معنَى قوله : " ترب جبينه " بل هو نظير ما تقدم في قوله "تربت يمينك" أى أنَّها كلمة تجري على اللسان و لا يراد حقيقتها".(45)
و ثبت عند البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "سباب المسلم فسوق و قتاله كفر.(46)
قال النووي : "السب في اللغة : الشتم و التكلم في عرض الإنسان بِما يعيبه، و الفسق في اللغة : الخروج، و المراد به في الشرع : الخروج عن الطاعة، وأما معنَى الحديث : فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة و فاعله فاسق كما أخبر به النَّبي صلى الله عليه و على آله و سلم ".(47)
و قال ابن حجر : "ففي الحديث تعظيم حق المسلم و الحكم على من سبه بغير حق بالفسق و مقتضاه "الرد على المرجئة".(48)
و ثبت في الصحيحين و اللفظ للبخاري من حديث أبي موسى قال : قالوا : يا رَسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال : "من سلم المسلمون من لسانه و يده".(49)
و في رواية لمسلم من حديث جابر : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده".(50)
قلت : هذه النصوص تنسف فرية أهل البدع فيما رموا به أهل السنة، و بذلك يبطل الوجه الأول من الشبهة الثالثة، فإلى الوجه الثاني من هذه الشبهة.
من مواضيعي
0 التغذية: نصائح وحيل حول الأكل الصحي اهمالها قد يسبب لنا مشاكل صحية لا نعرف اين سببها؟
0 فوضى سينوفاك الصينية.. لقاح واحد و3 نتائج متضاربة
0 "نوع آخر مثير للقلق".. سلالات كورونا المتحورة تنتشر في 50 بلدا
0 إجراء تغييرات إيجابية: نصائح وحيل للتغذية السليمة ولتقوية الاعصاب
0 هل لديك وزن زائد؟ نستطيع مساعدتك
0 يؤثر نظامك الغذائي على صحتك: كيفية الحفاظ على التغذية الجيدة
0 فوضى سينوفاك الصينية.. لقاح واحد و3 نتائج متضاربة
0 "نوع آخر مثير للقلق".. سلالات كورونا المتحورة تنتشر في 50 بلدا
0 إجراء تغييرات إيجابية: نصائح وحيل للتغذية السليمة ولتقوية الاعصاب
0 هل لديك وزن زائد؟ نستطيع مساعدتك
0 يؤثر نظامك الغذائي على صحتك: كيفية الحفاظ على التغذية الجيدة











