صلح الحديبية...الفتح المبين
01-05-2008, 01:12 PM
صُلحُ الحُدَيبِية... الفَتحُ المُبِينُ
للشيخ أزهر سنيقرة
إنَّ حاجةَ المسلمينِ إلى أخذِ العبرِ والدُّروسِ من سيرة نَبِيِّهم ـصلى الله عليه وسلم ـتُعتبر من أُولَى الأَوَّلِيَّاتِ، خاصَّةً في مثل هذا الزَّمان، الَّذي عَزَّتْ فيه القدوةُ الحسنةُ، وتَتَابَعَتْ على المسلمين فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيل المظلم،كان من أشدِّها تَكَالُبُ الأعداء عليهم على اختلاف مناهجهم وأديانهم، استوجبتْ عليهم أن يُراجِعوا سيرةَ نبيِّهمـصلى الله عليه وسلمـويستحضرُوا مآثرَه تحقيقًا لقول الله جلَّ وعلا حيث قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَاللَّهَ كَثِيراً﴾[الأحزاب: 21]
وإنَّ منأهمِّ أحداث السِّيرةِ التي كان لها الأثرُ البالغُ في حياة نبيِّنا صلى الله عليه وسلمـ ومنمعه من الصَّحابة الكرام حادثةَ الحُدَيْبِيَة، أو ما اصْطُلِحَ على تسميته بصُلْحِ الحديبية، التي كانت بُشْرَى عظيمةً لنبيِّنا ـصلى الله عليه وسلمـ ومن معه، والصُّلْحُ والإِصْلاَحُ والصَّلاَحُ مِن قِيَمِ الإسلام البارزة، بل هي دعوتُه.
والصُّلح هنا المقصودُ به الاتِّفاق على السِّلْمِ بين الطَّائفتين المُتحاربتين، وهذاسِلْمٌ خاصٌّ؛ لأنَّه بَيْنَ النَّبيِّ ـصلى الله عليه وسلم ـوقومِه الَّذين أخرجوه من أحَبِّ البلاد إليه ودارت بينه وبينهم حروبٌ، ورغم شِدَّة حبِّ الصحابةـ رضيالله عنهم لمَهْجَرهم مع رسول اللهـصلى الله عليه وسلم فإنَّ مشاعرَ الشَّوْقِ إلى مكَّةَ لم تَخْمُدْ في قلوبهم، وما بَرحُوا ينتظرون اليوم الَّذي تُتاح لهم فيه فرصةُ العودة إليها والطَّوافِ بِبَيْتِهَا العتيقِ، إلى أنجاء ذلك اليوم الَّذي بَرَزَ فيه النَّبيُّ ـصلى الله عليه وسلم ـإلى أصحابه ليخبرَهم برؤياه الَّتي رأى فيها دخولَه إلى مكَّةَ وطوافَه بالبيتِ، فاستبشر المسلمون بهذه الرُّؤيا لعِلمهم أنَّ رُؤْيَا الأنبياء حقٌّ، وتَهَيَّؤُوا لهذه الرِّحلة العظيمة.
وفي يوم الاثنين من هِلال ذي القعدة من السَّنَة السَّادسة للهجرة خرج الرَّسول ـصلى الله عليه وسلمـ، يريد العمرةَ ومعه ألفٌ وأربعمائةٍ من الصَّحابة، وليس معهم إلاَّ سلاحَ السَّفر،فأَحْرَمُوا بالعُمْرَة من ذي الحُلَيْفَة، فلمَّا اقتربوا من مكَّةَ بلَغَهم أنَّ قريشًا جمعتِ الجموعَ لمقاتلتهم وصدِّهم عن البيت.
هذاالخروجُ المبَارَكُ وما تخلَّلَه من أحداث، قد أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» في كتاب الشُّروط من حديث طويل برقم: (2700، 2701، 4252) نَجْتَزِئُ منه ماله صِلةٌ بالعِبَرِ والفوائدِ المذكورة لاحقًا، ولعلَّ أبرزَ فصولِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ما تَضَمَّنَهُ الكتابُ الَّذي كان بين النَّبيِّـ صلى الله عليه وسلم ـومُفَوَّضِ قريش سُهَيْل بنِ عَمْرٍو، بحضور ذلك الجَمع الحاشِدِ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون ويسمعون لتلك الشُّروط التي لم يكن منالسَّهل هَضْمُها ولا قَبُولها.
قال البخاري: «قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لماجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ ـصلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْأَمْرِكُمْ»، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْل بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا،فَدَعَا النَّبِيُّـ صلى الله عليه وسلم الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»،قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللهِمَا أَدْرِي مَا هُوَ! وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـصلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»، ثُمَّ قَال:َ«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَرَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ البَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلىالله عليه وسلم: «وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللهِ»؛ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِه:ِ«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ:«عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً أي قَهرًاوَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ،فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْكَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَاللهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَمُسْلِماً...«.
هذا دونأنْ نَنْسَى ذلك الموقفَ الَّذي وقفه عمرُـرضي الله عنه ـوهو يُكَلِّم النَّبيَّ ـصلى الله عليه وسلم ـفيمضمون تلك الشُّروط، وما كان من إجاباتِ الرَّسولِـ صلى الله عليه وسلم ـله وللمسلمين المتَّسِمَةِ بالحكمة وبُعْدِ النَّظرِ وتركِ الاستعجالِ، والدَّاعيةِ إلى وجوب الثِّقة بالله، وفيوعدِه بِنَصْرِ المؤمنين والتَّحَلِّي بالصَّبروالاحتسابِ.
قَالَ البخاري: «...قال: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهـصلى الله عليه وسلمـ،فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ:«بَلَى»،قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟وفي روايةٍ: «قال عمر: لَقَد دَخلَني أمرٌعَظيم، وراجَعتُ النَّبيَّـ صلى الله عليه وسلم ـمراجعةً ما راجعتُهُ مثْلَها قَط»، وفي رواية: «كان الصَّحابة لا يَشُكُّون في الفتح لرُؤيا رآها رسُولُ الله ـصلى الله عليه وسلم, فلمَّا رَأَوْا الصُّلحَ دخلَهم من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتَّى كادوا يَهلكُون»ـقَالَ:«إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُأَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ:«بَلَى؛ فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ:«فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَابَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَاالرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهـصلى الله عليه وسلم ـوَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه ـوالمراد به التَّمسُّك بأمرِه وتركُ المخالفةِ له كالَّذي يُمسِكُ بركب الفارس فلا يُفارقه فَوَالله إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى،أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
وفي جواب أبي بكر لعُمَرَ بنظير ما أجابه النَّبيِّـ صلى الله عليه وسلم ـدلالةٌ على أنَّه كان أكملَ الصَّحابة وأعرفَهم بأحوالِ رسولِ اللهـ صلى الله عليه وسلمـ وأعلمَهم بأمور الدِّين وأشدَّهم موافقةً لأمر الله تعالى
قَالَ الزُّهْرِيُّ: «قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا»ـفي رواية: «فقال عمر: اتَّهموا الرَّأيَ على الدِّين, فلقد رَأَيْتُنِي أردُّ أمرَ رسولِ اللهـ صلى الله عليه وسلم ـبرأيي, وما ألومُ عن الحقِّ»، وفي رواية: «وكان عمر يقول: ما زِلْتُ أتصدَّق وأصوم وأصلِّي وأَعْتِقُ من الَّذي صَنَعْتُ يومئذٍ، مخافةَ كلامي الَّذي تكلَّمتُ به»
أهمُّ وأبرز وقائع حادثة الحديبية كما رواها بعضُ من حضرها من الصَّحابةـرضي الله عنهمـ، والَّتيوإن كانت في ظاهرها استكانةً وإهانةً للمؤمنين؛ إلاَّ أنَّها في حقيقتها فتحٌ مبينٌبَشَّرَ اللهُ به نبيَّهـصلى الله عليه وسلمـ.
عِبَرُهَا وعِظَاتُهَا كثيرةٌ أبْرَزُهَا: أن يَسْتَيْقِنَ المسلمُ بقول الله وقول الرَّسول ـصلى الله عليه وسلم، وإن كان في ظاهره على غيرِ مرادِه وعلى غيرِ مبتغاه، وفيه دعوةٌ إلى الصَّبر عند اشتداد استفزاز الكفَّار، فقد حصَل منهم استفزازٌ للمسلمين عند كتابة الصُّلح وبعد كتابته،وممَّا حصل: محاولةُ ثمانين من قريشٍ مهاجمةَ المسلمين على غِرَّة، ثمَّ محاولةٌ أخرى في ثلاثين رجلاً، وقد أَسِرَهُم المسلمُون، وانتظروا فيهم حُكمَ النَّبِيِّ ـصلى الله عليه وسلمـ الَّذي أمر بإطلاق سَراحهم(1).
وحصلت أمورٌ غيرُها تَحَمَّلَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـمنها: رفض سُهيل كتابة «الرحمن» وأبدل ذلك بكتابة «باسمك اللَّهم»، ورفضُه كتابةَ محمَّد «رسول الله» وأبدلَ ذلك بكتابة: «محمد بن عبد الله»،واشترطت قريش أن يرجعَ المسلمون فلا يَعْتَمِرُوا هذا العام، بل يأتون في العامِ المقبل، كما اشترطت أن لا يأتيَ رجلٌ منهم إلى النَّبِيِّ ـصلى الله عليه وسلم ـإلاَّ ردَّه ولو كان قَدِمَ لأجل الإسلام، وفي هذابيانٌ للسِّياسةِ الشَّرعيَّة الَّتي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها الإمامُ الأعظمُ أومن كان دونَه, وفيه كذلك حُسْنُ تربيةِ الأتباع على حُسن الظنِّ بالله والثِّقةالمطلقةِ بوَعده.
وبينما هم كذلك إذ دخل أبو جَنْدَل بنُ سُهَيل بنِ عَمْرٍو يَرسُف في قيودِه، وقد خرج من أسفل مكَّةَ حتَّى رمى بنفسه بين أَظْهُرِ المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمَّد أوَّلُ منأُقاضيك عليه أنْ تردَّه إليَّ؛ فقال النَّبيُّـصلىالله عليه وسلم:«إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَةَ بَعْدُ».
فقال سهيل: «والله إذًا لم أُصالحك على شيءٍ أبدًا»، وأمضى النَّبِيُّ ـصلى الله عليه وسلم ـماأراد سهيل؛ الله أكبر!.. إنَّه الوفاءُ ولو معالمشْرِك.
سبحانَ الله! فالنَّبِيُّ ـصلى الله عليه وسلم، وهو «وليُّ أمر المسلمين» يُطلِقُ سراح من يحاول قتلَ المسلمين من الكفَّار، ويسلِّم أبا جَندل لهم، وأبو جَندل ينادي في المسلمين بعدما أُمضيت رغبةُ سُهيل وشُروطه: «يا مَعشَر المسلمين! أَتَرُدُّوني إلى أهلِ الشِّركفيَفتِنُوني في دِيني».
ومن عِظات صُلْحِ الحديبية: أنَّ الصُّلحَ لا يأتي إلاَّ بالخيرِ كما قال تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128] وأنَّ الجنوحَ للسِّلم وابتغاءَ الهُدْنَةِ من محاسنِ تعامُل المسلمين مع غيرِهم إذا لم يُكسِبْهم ذُلاًّأو يُفَوِّت عليهم عِزًّا، كما قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِفَاجْنَحْ لَهَا﴾[الأنفال: 61].
والدَّليلُ على ذلك دعوةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قريشًا إلى الصُّلح الَّذي به تُعَظَّمُ حُرماتُ الله وتُحفظُ الدِّماءُ والأموالُ والأعراضُ حيثُ قالـ صلىالله عليه وسلمـ:«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»،قال الخطَّابي: «معنى تعظيمِ حُرُماتِ الله في هذه القصَّةِ تَركُ القتالِ فيالحرم، والجُنوح إلى المُسالمة، والكفِّ عن إراقةِالدِّماء»(3).
وقد ظهرأثرُ هذا الصُّلح المبْرَمِ بين النَّبيِّ ـصلى الله عليه وسلم ـوقريش، وكان للإسلام والمسلمين فيه النِّصيبُ الأوفرُ، وبه تَحَقَّقَ النَّصرُ الأكبرُ بعد أن كَرِهَهُ جماعةٌ منهم وضاقت أنفسُهم به، وقد جعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا ﴿وَعَسَى أَنتَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَشَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِـفي رواية:«فلمَّا انتهى إلى النَّبيِّـ صلى الله عليه وسلمـجرى بينهما القولُ حتَّى وقع بينهما الصُّلحُ على أن تُوضع الحربُ بينهما عشرَ سنين وأن يَأمَنَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، وأن يَرْجِعَ عنهم عامَهُم هذا».. ولمَّا كانت الهُدْنَةُ وَوُضِعَتِ الحربُ وأَمِنَ النَّاسُ،كَلَّمَ بعضُهم بعضًا، والْتَقَوْا وتَفَاوَضُوا في الحديث والمنازعةِ ولم يُكَلَّمْ أحدٌ بالإسلام يَعقِلُ شيئًا في تلك المدَّة إلاَّ دخلَ فيه, ولقد دخل في تلك السَّنتين مثلُ منْ كان في الإسلام قبلَ ذلك أو أكثريعني من صَنَادِيدِ قُريش، وكان في الصُّورة الظَّاهرة ضَيْمًا للمسلمين وفي الصُّورة الباطنة عِزًّا لهم, فإنَّ النَّاس لأجل الأمن الَّذي وقعَ بينهم اختلَط بعضُهم ببعض من غيرِ نَكِيرٍ, وأسمعَ المسلمون المشركينَ القرآنَ, وناظروهم على الإسلامِ جهرةً آمنين, وكانوا قبل ذلك لا يتكلَّمون عندَهم بذلك إلاَّ خُفْيَةً, وظهر من كان يُخفي إسلامَه؛ فذلَّ المشركون من حيث أرادوا العِزَّةَ وقُهِرُوا من حيث أرادوا الغَلَبَة.
ومن عظات صُلح الحديبية: أنَّ الله أنزل في شأنِها قرآنًا يُتْلى إلى يوم الدِّين، ليبقى أثرُ ذلك الدَّرسِ في قلوب المسلمين يَفْزَعُونَ إليه ويهتدون بحُكْمِه وحِكَمِهِ كلَّما تَعَرَّضُوا في معاملتهم إلى شَبِيهِ ما وقع لأسلافهم، وهذا إثْرَ رجوع النَّبيِّ ـصلى الله عليه وسلم ـومن معه إلى المدينة، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّافَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ الآيات [الفتح: 1].
فأرسل رسولُ الله ـصلى الله عليه وسلم ـإلى عمرـرضي الله عنهـ فأقرأه إيَّاها، فقال: يا رسول الله! أو فَتْحٌ هو؟قال:«نَعَمْ»، فطابت نفسُه ورجع.
يقول الشَّاطبيُّ ـرحمه الله:«فهذا من فوائدِ الملازمَة والانقيادِ للعلماءِ والصَّبرِ عليهم في مَواطِنالإشكالِ حتَّى لاَحَ البرهانُ للعَيَانِ».
فالزم أخي الكريمَ غَرْزَ هؤلاء، وَسِرْ على نهجهم، وإيَّاكَ وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ ومَن على رؤوسِها من المتعالمين المغرورين.
«وفيه: قال سهل بن حنيف ـرضي الله عنهـ يوم صَفِّين: «اتَّهموا رأيَكُم، والله لقد رَأَيْتُنِي يوم أبي جَندل ولو أنِّ يأستطيعُ أن أرُدَّ أمرَ رسول الله لرَدَدْتُهُ»؛ وإنَّما قال ذلك لِمَا عَرَض لهم فيه مِن الإشكالِ، وإنَّما نزلت سورةُ الفتح بعدما خالطهم الحزنُ والكآبةُ لشدَّة الإشكالِ عليهم والْتِبَاسِ الأمرِ، ولكنَّهم سلَّمُوا وتركوا رأيَهم حتَّى نزل القرآنُ، فزال الإشكالُ والالتباسُ، وصارمثلُ ذلك أصلاً لمن بعدَهم، فالْتَزَمَ التَّابعون في الصَّحابة سيرَتَهم مع النَّبيِّـ صلى الله عليه وسلم حتَّى فَقهُوا ونَالُوا ذَرْوَةَ الكمالِ في العُلوم الشَّرعيَّة»(2)
أين هذا من أولئك الَّذين سفكوا الدِّماء واسْتَحَلُّوا الحرمات وَرَوَّعُوا الآمنين بحجَّة نصرة المسلمين والغَيْرة للإسلام والدِّين، وبدعوى الجهاد في سبيلالله؟!!
إذًا فمن أهمِّ الدُّروس المستفادة أنَّك إذا لم يحتمل عقلُك وغَيْرَتُك وحماسُك أمرًا مَا، فلاتذهب إلاَّ إلى العلماء الرَّاسخين الذين جاءت أوصافُهم في الشَّريعة؛ فإنَّ هذاالأمرَ دينٌ فلينظرْ أحدُكم عَمَّنْ يَأْخُذُ دينَه، وإذا بَانَ لك موقفُ العلماءالرَّاسخين فالْزَمْ غَرْزَهُمْ، وإنْ خالَفْتَهُم فاتَّهِم رأيَك وإن بلَغ إيمانُك وعلمُك ما بلغ، وإذا فعلتَ ذلك فأبشرْ بفتحٍ ونصرٍ أوَّلُه التزامُ الصِّراط المستقيم والهَدْيِ القويم.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّه المصطفى الكريم.

(1) مسلم (1442/3) ، أحمد (4/86). (2) الموافقات (1/143-144).
(3) انظر: «فتحالباري» (5/366).
التعديل الأخير تم بواسطة بذرة خير ; 01-05-2008 الساعة 01:34 PM