الدمية وشبه الرئيس
27-05-2008, 06:47 PM
الدمية وشبه الرئيس

بينما كنا جالسين في أحد المقاهي الشعبية، نتجاذب أطراف الحديث عن هموم حياتنا اليومية، ونستأنس بما ورثناه من بقايا الرجولية والفحولية، ونستذكر بطولات من سبقونا إبان عهود الصمود والتحدّي، حتّى تلفّظت أحد الألسنة من بين القاعدين، بجملة كان وقعها على الآذان شديد، وتأثيرها في النفوس عظيم، فتحسّست وجوه القوم فإذا هي سوداء من غير سواد، وأبدانهم صارت ينابيع للعرق البارد، فقلت هوّنوا عليكم أيها القوم ، ودعوا الرّجل يتم ما أراد قوله، فإن في بعض أقوال الرجال فوائد جمة، فيها إيقاظ للهمة، وتوفير لأسباب العزيمة، وتثليج للصدور الناقمة، ثم أدرت رأسي للمتكّلم وبادرته بهذا السؤال: ( ... يا هذا أعد علينا ما تلفّظت به ولتكن دقيقا في وصفك، جريئًا في طرحك، نبيلا في نقدك، عنيدا في دفاعك عن نفسك، موضوعيّا في سردك للحقائق والوقائع... ) فردّ صاحبنا قائلا : ( ... دعوني أحدّثكم عن الجنرالات...) فبادرناه كلّنا بالصيّاح والنبّاح : ... اخفض صوتك يا ملعون، فللآذان عيون، وللعيون آذان، وأوجز ولا تسترسل ... فقال: ... ما لي أراكم وقد نكّست رؤوسكم، - أفلستم قبل قليل - كنتم تتحدّثون عن الأبطال والثوار السابقين؟ ، فلماذا ولّيتم الدبر، وأصبحتم في مقامكم هذا الآن ترتجفون ...، فقلنا له : ...( لا تبتئس يا صديق فها نحن الآن مصغون، فابدأ ولا تطل فإن في كلامك جذب للعقاب، فضرب للرقاب، ونحن كما تعلم مسالمون، لسنا أهل حرب أو شدّة، ولا دعاة شقاق أو ردّة، وإنما أحباب خضوعٍ وركوع، وندماء مجون وخنوع...) فردّ علينا صاحبنا هذا قائلا : تعلمون أيها القوم أني لست من هذه البلاد، وإنما عربي مثلكم بالميلاد، وقد حّثتني نفسي أن آتيكم ضيفا بلا ميعاد، ولا تحضير ولا استعداد، وقد حظيت عندكم كسابق عهدي بكم، بحسن التكريم والترحاب، فأرجوا لكم من الله حسن الثواب، ولكن يا أصدقائي لا يغرنّكم ما ترونه منّي من فرح وسرور، فقلبي مهموم مغموم، وعلى حال بلادي حزين كئيب، ...) فقلنا له : .. يا صاحبنا قد أطلت الأمر، وإنا والله لنحسبك تريد الاستهزاء بنا، فهيّا هات ما عندك أو أتركنا لحال سبيلنا، ولا تفسد علينا سهرتنا...) فقال الرجل: ... دقيقة و سأقول الحقيقة، فصبرا عليّ يا أصحابي ، .. يحكى أنّه في بلادنا، في وقت مضى وانقضى، كان يحكمنا أناس يقال لهم الجنرالات، كانوا فيما سبق عبيدا لأحد الأثرياء من عليّة القوم، ولمّا أراد هذا الغني الاستيلاء على السلطة، جعل عبيده هم من يقودون الانقلاب، وبعد وقت قصير دانت له كل البلاد، وأصبح الأمر بيده، ومصائر الناس تحت إمرته، ولمّا همّ بتكريم عبيده، جعلهم على رأس القيادة، ظنّا منه أنها تحفظ له السّيّادة، فجعل أوّلهم رئيس حكومة، وآخرهم وزير التعليم والخصخصة، ثم بقي الحال كما هو حتّى دانت ساعة هذا الثري، فجمع عبيده وخطب فيهم قائلا:... أي أبنائي العبيد، إني أظنني ملاقٍ ربّيَ، فقد هلك عنّي سلطانيَ، ولم يبق لي من الأمرغير ثوانيَ، فجمعتكم لأقول لكم إني أطلقت عليكم اسم الجنرالات، لتحكموا أنتم وأبناءكم من بعدكم هذه البلاد، فهذا الاسم -يا أحبائي- كان فيما مضى حكرًا على عوالم الغيب، وكانت الإنس لا تعرف عنه شيئا، وقد أتاني هذا الاسم من أحد الكهنة العرّافين، الموثوق بقدرتهم المعرفيّة، وقد أٌخبِر من أسياده، أنه من يُطلق عليه هذا الاسم سيبقى خالدا في منصبه إلى أن يموت، ولحبّي لكم وأمانتكم، فها قد أطلقت عليكم هذا الاسم، فأحكموا هذه البلاد من يد من حديد، ولا تأخذكم في الحق أي شفقة أو ورحمة... ) ثم قُبض الرجل المسكين، وصار إلى عالم الحق، عند ربّ عادل سبحانه تعالى عما يشركون، وبعد لحظة التف حوله أبناءه العبيد الجنرالات، وقرّروا أن يتشاورا فيما بينهم كيف سيحكمون هذه البلاد من بعده، أينصّبون واحدا منهم، أم يختارون واحدا من الشعب ؟، وهب أنهم اختاروا واحدا من عامة الشعب، فحتما سيعرف كل شيء عنهم وعن خططهم، وحتما سيكشف أسرارهم أما العامة، فيفسد الأمر عليهم، وتحين ساعتهم، وبينما هم في جدال وصياح، خطرت لأحدهم فكرة جهنّمية، فلم لا يأتون بواحد من عامة الشعب، ينتخبه العامة كرئيس شرعي للبلاد، وبعد أن يقسم القسم الشرعي، وينصّب في منصبه، يصنعون هم دمية تشبه هذا الرئّيس، ثم يقومون باغتيال هذا الأحمق المسكين، وبعدها يُظهرون هذه الدمية متى شاءوا، وأينما شاءوا، ويحرّكونها متى رغبوا في ذلك، وبهذا يحفظون ماء الوجه، ويستمرّون في ملكهم، ولن يعرف عنهم أحد شيئا، ولم يكمل هذا الأخير كلامه حتّى صاح الجميع : نعم الرأي رأيك، ثم تهلّلت الوجوه، وسعدت كثيرا بهذا الغدر، ولمّا اجتمع للقوم ما أرادوا، واستوثقوا أن خطّتهم قد نجحت، أمسكوا بتلك الدمية ووضعوها على العرش، ثم كتبوا على الكرسي هذه الجملة: ( ما للرئيس يبقى للرئيس وما لي للجنرالات يبقى لأولادهم من بعدهم) انتهى تحياتي نبيل ش