صُلحُ الحُدَيبِية... الفَتحُ المُبِينُ
09-06-2008, 03:03 PM
صُلحُ الحُدَيبِية... الفَتحُ المُبِينُ
للشيخ أزهر سنيقرة
إنَّ حاجةَالمسلمينِ إلى أخذِ العبرِ والدُّروسِ من سيرة نَبِيِّهمـصلى الله عليه وسلمـتُعتبر من أُولَى الأَوَّلِيَّاتِ، خاصَّةً في مثل هذا الزَّمان، الَّذي عَزَّتْفيه القدوةُ الحسنةُ، وتَتَابَعَتْ على المسلمين فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيل المظلم،كان من أشدِّها تَكَالُبُ الأعداء عليهم على اختلاف مناهجهم وأديانهم، استوجبتْعليهم أن يُراجِعوا سيرةَ نبيِّهمـصلى الله عليه وسلمـويستحضرُوا مآثرَه تحقيقًا لقول اللهجلَّ وعلاحيث قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَاللَّهَ كَثِيراً﴾[الأحزاب: 21]للشيخ أزهر سنيقرة
وإنَّ منأهمِّ أحداث السِّيرةِ التي كان لها الأثرُ البالغُ في حياة نبيِّناـصلى الله عليه وسلمـومنمعه من الصَّحابة الكرام حادثةَ الحُدَيْبِيَة، أو ما اصْطُلِحَ على تسميته بصُلْحِالحديبية، التي كانت بُشْرَى عظيمةً لنبيِّناـصلى اللهعليه وسلمـومن معه، والصُّلْحُ والإِصْلاَحُوالصَّلاَحُ مِن قِيَمِ الإسلام البارزة، بل هي دعوتُه.
والصُّلحهنا المقصودُ به الاتِّفاق على السِّلْمِ بين الطَّائفتين المُتحاربتين، وهذاسِلْمٌ خاصٌّ؛ لأنَّه بَيْنَ النَّبيِّـصلى الله عليهوسلمـوقومِه الَّذين أخرجوه من أحَبِّ البلاد إليهودارت بينه وبينهم حروبٌ، ورغم شِدَّة حبِّ الصحابةـرضيالله عنهمـ لمَهْجَرهم مع رسول اللهـصلى الله عليه وسلمـفإنَّمشاعرَ الشَّوْقِ إلى مكَّةَ لم تَخْمُدْ في قلوبهم، وما بَرحُوا ينتظرون اليومالَّذي تُتاح لهم فيه فرصةُ العودة إليها والطَّوافِ بِبَيْتِهَا العتيقِ، إلى أنجاء ذلك اليوم الَّذي بَرَزَ فيه النَّبيُّـصلى اللهعليه وسلمـإلى أصحابهليخبرَهم برؤياه الَّتيرأى فيها دخولَه إلى مكَّةَ وطوافَه بالبيتِ، فاستبشر المسلمون بهذه الرُّؤيالعِلمهم أنَّ رُؤْيَا الأنبياء حقٌّ، وتَهَيَّؤُوا لهذه الرِّحلةالعظيمة.
وفي يومالاثنين من هِلال ذي القعدة من السَّنَة السَّادسة للهجرة خرج الرَّسولـصلى الله عليه وسلمـ، يريدالعمرةَ ومعه ألفٌ وأربعمائةٍ من الصَّحابة، وليس معهم إلاَّ سلاحَ السَّفر،فأَحْرَمُوا بالعُمْرَة من ذي الحُلَيْفَة، فلمَّا اقتربوا من مكَّةَ بلَغَهم أنَّقريشًا جمعتِ الجموعَ لمقاتلتهم وصدِّهم عن البيت.
هذاالخروجُ المبَارَكُ وما تخلَّلَه من أحداث، قد أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» في كتابالشُّروطمن حديث طويل برقم: (2700، 2701، 4252) نَجْتَزِئُ منه ماله صِلةٌ بالعِبَرِ والفوائدِ المذكورة لاحقًا، ولعلَّ أبرزَ فصولِ صُلْحِالحُدَيْبِيَةِ ما تَضَمَّنَهُ الكتابُ الَّذي كان بين النَّبيِّـصلى الله عليه وسلمـومُفَوَّضِ قريشسُهَيْل بنِ عَمْرٍو، بحضور ذلك الجَمع الحاشِدِ من صحابةِرسول اللهـصلى الله عليه وسلمـ، وهم يشهدون ويسمعون لتلك الشُّروط التي لم يكن منالسَّهل هَضْمُها ولا قَبُولها.
قالالبخاري: «قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لماجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّـصلىالله عليه وسلمـ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْأَمْرِكُمْ»، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَسُهَيْل بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا،فَدَعَا النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـالكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِالرَّحِيمِ»،قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللهِمَا أَدْرِي مَا هُوَ! وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَتَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللهِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلى اللهعليه وسلمـ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَاللَّهُمَّ»، ثُمَّ قَال:َ«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌرَسُولُ الله»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَرَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ البَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلىالله عليه وسلمـ: «وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُاللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللهِ»؛ قَالَالزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِه:ِ«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةًيُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ:«عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَالبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُالعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةًـأيقَهرًاـوَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ،فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْكَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَاللهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَمُسْلِماً...«.
هذا دونأنْ نَنْسَى ذلك الموقفَ الَّذي وقفه عمرُـرضي اللهعنهـوهو يُكَلِّم النَّبيَّـصلى الله عليه وسلمـفيمضمون تلك الشُّروط، وما كان من إجاباتِ الرَّسولِـصلىالله عليه وسلمـله وللمسلمين المتَّسِمَةِ بالحكمةوبُعْدِ النَّظرِ وتركِ الاستعجالِ، والدَّاعيةِ إلى وجوبالثِّقة بالله، وفيوعدِه بِنَصْرِ المؤمنين والتَّحَلِّي بالصَّبروالاحتسابِ.
قَالَالبخاري: «...قال: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهـصلى الله عليه وسلمـ،فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ:«بَلَى»،قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَاإِذًا؟ـوفي روايةٍ: «قال عمر: لَقَد دَخلَني أمرٌعَظيم، وراجَعتُ النَّبيَّـصلى الله عليه وسلمـمراجعةً ما راجعتُهُ مثْلَها قَط»، وفي رواية: «كانالصَّحابة لا يَشُكُّون في الفتح لرُؤيا رآها رسُولُ اللهـصلى الله عليه وسلمـ, فلمَّا رَأَوْا الصُّلحَ دخلَهم من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتَّى كادوا يَهلكُون»ـقَالَ:«إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُأَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَاأَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ:«بَلَى؛ فَأَخْبَرْتُكَأَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ:«فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَابَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَاالرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهـصلى الله عليه وسلمـوَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُفَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهـوالمراد به التَّمسُّك بأمرِهوتركُ المخالفةِ له كالَّذي يُمسِكُ بركب الفارس فلا يُفارقهـفَوَالله إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَكَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى،أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِوَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
وفي جوابأبي بكر لعُمَرَ بنظير ما أجابه النَّبيِّـصلى اللهعليه وسلمـدلالةٌ على أنَّه كان أكملَ الصَّحابةوأعرفَهم بأحوالِ رسولِ اللهـصلى الله عليه وسلمـوأعلمَهم بأمور الدِّين وأشدَّهم موافقةً لأمر اللهتعالىـ؛ قَالَ الزُّهْرِيُّ: «قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُلِذَلِكَ أَعْمَالًا»ـفي رواية: «فقال عمر: اتَّهمواالرَّأيَ على الدِّين, فلقد رَأَيْتُنِي أردُّ أمرَ رسولِ اللهـصلى الله عليه وسلمـبرأيي, وما ألومُ عن الحقِّ»، وفي رواية: «وكان عمر يقول: ما زِلْتُ أتصدَّق وأصوموأصلِّي وأَعْتِقُ من الَّذي صَنَعْتُ يومئذٍ، مخافةَ كلامي الَّذي تكلَّمتُ به»
أهمُّوأبرز وقائع حادثة الحديبية كما رواها بعضُ من حضرها من الصَّحابةـرضي الله عنهمـ، والَّتيوإن كانت في ظاهرها استكانةً وإهانةً للمؤمنين؛ إلاَّ أنَّها في حقيقتها فتحٌ مبينٌبَشَّرَ اللهُ به نبيَّهـصلى الله عليه وسلمـ.
عِبَرُهَاوعِظَاتُهَا كثيرةٌ أبْرَزُهَا: أن يَسْتَيْقِنَ المسلمُ بقول الله وقول الرَّسولـصلى الله عليه وسلمـ، وإنكان في ظاهره على غيرِ مرادِه وعلى غيرِ مبتغاه، وفيه دعوةٌ إلى الصَّبر عند اشتداداستفزاز الكفَّار، فقد حصَل منهم استفزازٌ للمسلمين عند كتابة الصُّلح وبعد كتابته،وممَّا حصل: محاولةُ ثمانين من قريشٍ مهاجمةَ المسلمين على غِرَّة، ثمَّ محاولةٌأخرى في ثلاثين رجلاً، وقد أَسِرَهُم المسلمُون، وانتظروا فيهم حُكمَ النَّبِيِّـصلى الله عليه وسلمـالَّذي أمر بإطلاق سَراحهم(1).
وحصلتأمورٌ غيرُها تَحَمَّلَها النَّبِيُّـصلى الله عليهوسلمـمنها: رفض سُهيل كتابة «الرحمن» وأبدل ذلكبكتابة «باسمك اللَّهم»، ورفضُه كتابةَ محمَّد «رسول الله» وأبدلَ ذلكبكتابة: «محمد بن عبد الله»،واشترطت قريش أن يرجعَ المسلمون فلايَعْتَمِرُوا هذا العام، بل يأتون في العامِ المقبل، كما اشترطت أن لا يأتيَ رجلٌمنهم إلى النَّبِيِّـصلى الله عليه وسلمـإلاَّ ردَّه ولو كان قَدِمَ لأجل الإسلام، وفي هذابيانٌ للسِّياسةِ الشَّرعيَّة الَّتي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها الإمامُ الأعظمُ أومن كان دونَه, وفيه كذلك حُسْنُ تربيةِ الأتباع على حُسن الظنِّ بالله والثِّقةالمطلقةِ بوَعده.
وبينما همكذلك إذ دخل أبو جَنْدَل بنُ سُهَيل بنِ عَمْرٍو يَرسُف في قيودِه، وقد خرج من أسفلمكَّةَ حتَّى رمى بنفسه بين أَظْهُرِ المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمَّد أوَّلُ منأُقاضيك عليه أنْ تردَّه إليَّ؛ فقال النَّبيُّـصلىالله عليه وسلمـ:«إِنَّا لَمْ نَقْضِالكِتَابَةَ بَعْدُ».
فقال سهيل: «والله إذًا لم أُصالحك على شيءٍ أبدًا»، وأمضى النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـماأراد سهيل؛ الله أكبر!.. إنَّه الوفاءُ ولو معالمشْرِك.
سبحانَالله! فالنَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ، وهو «وليُّ أمر المسلمين» يُطلِقُ سراح من يحاول قتلَالمسلمين من الكفَّار، ويسلِّم أبا جَندل لهم، وأبو جَندل ينادي في المسلمين بعدماأُمضيت رغبةُ سُهيل وشُروطه: «يا مَعشَر المسلمين! أَتَرُدُّوني إلى أهلِ الشِّركفيَفتِنُوني في دِيني».
ومن عِظات صُلْحِالحديبية: أنَّ الصُّلحَ لا يأتي إلاَّ بالخيرِ كما قال تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128] وأنَّ الجنوحَ للسِّلموابتغاءَ الهُدْنَةِ من محاسنِ تعامُل المسلمين مع غيرِهم إذا لم يُكسِبْهم ذُلاًّأو يُفَوِّت عليهم عِزًّا، كما قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِفَاجْنَحْ لَهَا﴾[الأنفال: 61].
والدَّليلُعلى ذلك دعوةُ النَّبيِّـصلى الله عليه وسلمـقريشًا إلى الصُّلح الَّذي به تُعَظَّمُ حُرماتُ اللهوتُحفظُ الدِّماءُ والأموالُ والأعراضُ حيثُ قالـصلىالله عليه وسلمـ:«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةًيُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»،قال الخطَّابي: «معنى تعظيمِ حُرُماتِ الله في هذه القصَّةِ تَركُ القتالِ فيالحرم، والجُنوح إلى المُسالمة، والكفِّ عن إراقةِالدِّماء»(3).
وقد ظهرأثرُ هذا الصُّلح المبْرَمِ بين النَّبيِّـصلى اللهعليه وسلمـوقريش، وكان للإسلام والمسلمين فيهالنِّصيبُ الأوفرُ، وبه تَحَقَّقَ النَّصرُ الأكبرُ بعد أن كَرِهَهُ جماعةٌ منهموضاقت أنفسُهم به، وقد جعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا ﴿وَعَسَى أَنتَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَشَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِـفي رواية:«فلمَّا انتهى إلى النَّبيِّـصلى الله عليه وسلمـجرى بينهما القولُ حتَّى وقع بينهما الصُّلحُ على أنتُوضع الحربُ بينهما عشرَ سنين وأن يَأمَنَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، وأن يَرْجِعَعنهم عامَهُم هذا».. ولمَّا كانت الهُدْنَةُ وَوُضِعَتِ الحربُ وأَمِنَ النَّاسُ،كَلَّمَ بعضُهم بعضًا، والْتَقَوْا وتَفَاوَضُوا في الحديث والمنازعةِ ولميُكَلَّمْ أحدٌ بالإسلام يَعقِلُ شيئًا في تلك المدَّة إلاَّ دخلَ فيه, ولقد دخل فيتَيْنِكَ السَّنتين مثلُ منْ كان في الإسلام قبلَ ذلك أو أكثرـيعني من صَنَادِيدِ قُريشـ، وكان في الصُّورة الظَّاهرة ضَيْمًا للمسلمين وفيالصُّورة الباطنة عِزًّا لهم, فإنَّ النَّاس لأجل الأمن الَّذي وقعَ بينهم اختلَطبعضُهم ببعض من غيرِ نَكِيرٍ, وأسمعَ المسلمون المشركينَ القرآنَ, وناظروهم علىالإسلامِ جهرةً آمنين, وكانوا قبل ذلك لا يتكلَّمون عندَهم بذلك إلاَّ خُفْيَةً, وظهر من كان يُخفي إسلامَه؛ فذلَّ المشركون من حيث أرادوا العِزَّةَ وقُهِرُوا منحيث أرادوا الغَلَبَة.
ومن عظاتصُلح الحديبية: أنَّ الله أنزل في شأنِها قرآنًا يُتْلى إلى يوم الدِّين، ليبقىأثرُ ذلك الدَّرسِ في قلوب المسلمين يَفْزَعُونَ إليه ويهتدون بحُكْمِه وحِكَمِهِكلَّما تَعَرَّضُوا في معاملتهم إلى شَبِيهِ ما وقع لأسلافهم، وهذا إثْرَ رجوعالنَّبيِّـصلى الله عليه وسلمـومن معه إلى المدينة، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّافَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ الآيات [الفتح: 1].
فأرسلرسولُ اللهـصلى الله عليه وسلمـإلى عمرـرضي الله عنهـفأقرأه إيَّاها، فقال: يا رسول الله! أو فَتْحٌ هو؟قال:«نَعَمْ»، فطابت نفسُه ورجع.
يقولالشَّاطبيُّـرحمه اللهـ:«فهذا من فوائدِ الملازمَة والانقيادِ للعلماءِ والصَّبرِ عليهم في مَواطِنالإشكالِ حتَّى لاَحَ البرهانُ للعَيَانِ».
فالزم أخيالكريمَ غَرْزَ هؤلاء، وَسِرْ على نهجهم، وإيَّاكَ وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ ومَنعلى رؤوسِها من المتعالمين المغرورين.
«وفيه: قالسهل بن حنيفـرضي الله عنهـيوم صَفِّين: «اتَّهموا رأيَكُم، والله لقد رَأَيْتُنِي يوم أبي جَندل ولو أنِّيأستطيعُ أن أرُدَّ أمرَ رسول الله لرَدَدْتُهُ»؛ وإنَّما قال ذلك لِمَا عَرَض لهمفيه مِن الإشكالِ، وإنَّما نزلت سورةُ الفتحبعدما خالطهم الحزنُ والكآبةُلشدَّة الإشكالِ عليهم والْتِبَاسِ الأمرِ، ولكنَّهم سلَّمُوا وتركوا رأيَهم حتَّىنزل القرآنُ، فزال الإشكالُ والالتباسُ، وصارمثلُ ذلك أصلاً لمنبعدَهم، فالْتَزَمَ التَّابعون في الصَّحابة سيرَتَهم مع النَّبيِّـصلى الله عليه وسلمـحتَّى فَقهُوا ونَالُوا ذَرْوَةَ الكمالِ في العُلومالشَّرعيَّة»(2)
أين هذا من أولئكالَّذين سفكوا الدِّماء واسْتَحَلُّوا الحرمات وَرَوَّعُوا الآمنين بحجَّة نصرةالمسلمين والغَيْرة للإسلام والدِّين، وبدعوى الجهاد في سبيلالله؟!!
إذًا فمن أهمِّالدُّروس المستفادة أنَّك إذا لم يحتمل عقلُك وغَيْرَتُك وحماسُك أمرًا مَا، فلاتذهب إلاَّ إلى العلماء الرَّاسخين الذين جاءت أوصافُهم في الشَّريعة؛ فإنَّ هذاالأمرَ دينٌ فلينظرْ أحدُكم عَمَّنْ يَأْخُذُ دينَه، وإذا بَانَ لك موقفُ العلماءالرَّاسخين فالْزَمْ غَرْزَهُمْ، وإنْ خالَفْتَهُم فاتَّهِم رأيَك وإن بلَغ إيمانُكوعلمُك ما بلغ، وإذا فعلتَ ذلك فأبشرْ بفتحٍ ونصرٍ أوَّلُه التزامُ الصِّراطالمستقيم والهَدْيِ القويم.
وصلَّى اللهوسلَّم وبارك على نبيِّه المصطفى الكريم.
أشهد أن لا إله إلا الله ... محمد رسول الله
من مواضيعي
0 epay.dz نظام دفع إلكتروني جزائري
0 بشرى إلى كل طلاب البيولوجيا
0 موقع جديد ؟؟؟؟؟؟؟؟
0 الذاهبون للقتال بالعراق دعاة سوء
0 نصيحة في خلاف الزوجين
0 حكم الإخبار بموت الميت عبر مكبرات الصوت:
0 بشرى إلى كل طلاب البيولوجيا
0 موقع جديد ؟؟؟؟؟؟؟؟
0 الذاهبون للقتال بالعراق دعاة سوء
0 نصيحة في خلاف الزوجين
0 حكم الإخبار بموت الميت عبر مكبرات الصوت:







