الطائر والدوحة
03-12-2014, 11:17 PM
فرغ من كتابتها عصر : الأربعاء 11 جانفي 2012م
بقلم الأستاذ : شعبان شاوش سفيان

الطائر والدوحة (وهي من ظمن مجموعة قصصية قريبا ستطبع)


في زمن من الأزمان ،قيل : إن طائرا صغيرا سيء الصوت كان يأتي كل يوم دوحة عظيمة على ضفة نهر من الأنهار فيشرع في الغناء والتغريد ،فتهب ريح عاصف فتملل الدوحة وتهزها فيظن العصفور أن الدوحة تتمايل وتتراقص طربا لغناءه وصوته..وهكذا حتى إذا تعب وكل ولم تسعفه حنجرته خاطب الدوحة وهو مزهوا منتفشا : لقد أطربتك أيتها الشجرة وشنفت سمعك بشدوي ومعسول ألحاني ،فهل لك أن تأذني لي الآن بالانصراف فقد آن أوان ذهابي ولكن الدوحة لا تجيبه فيخال سكوتها علامة رضى..فيلقي العصفور التحية ثم ينطلق ،إلى شأنه أو إلى جهة عشه..
ومن الغد يعود العصفور مرة أخرى ليحط فوق الدوحة وينشد كما أنشد بالأمس..
ثم تهب الرياح كما هبت بالأمس وتتحرك الدوحة وينتفش العصفور ويزهو لمنظرها وهي تتململ ضانا أنها قد ثملت بخمرة غناءه ومعسول الحانه،فيدركه العياء كالعادة فيتوقف عن الغناء ثم يستأذن بالذهاب ..
فتصمت الدوحة ويخاله الطائر علامة رضا ،فينطلق إلى شأنه أو إلى عشه..ليعود من الغد فيكرر غناءه كما بالأمس ،وينتهي المشهد كما انتهى بالأمس..
ولكن ذات يوم لبث يغني إلى أن أوشك الليل أن يدركه ،وبينما هو يهم بالذهاب إلى مبيته ،رأى شرارة البرق تلمع من خلال السحب متبوعة برعود و أمطار ،فعلم الطائر أنه لا أمل من ذهابه ولا مناص من قضاء الليلة فوق الدوحة ،ولكن الطائر تهيبها وخشي أن ترفض ، فاستأذنها فلم تنطق فظن سوكتها كالعادة علامة رضى..وفي الصباح أفاق الطائر باكرا ونظر إلى السماء فرأها صافية مثل البلورة ،فأراد أن يوقض الدوحة من رقادها ليشكرها قبل أن ينصرف فما استطاع..لأنه لا يقوى على هزها وايقاضها الا العواصف المدمدمة والرياح المزمجرة ، فاهتدى الى حيلة يوقضها بها ،وهي أن يفعل ما اعتاد أن يفعله كل يوم عند مجيئه إلى هذه الدوحة ،ولكن ما كاد أن يفعل حتى تململت الدوحة من تحته وصرخت غاضبة : صه أيها المشؤم لقد أيقضتني بنشازك ،فصاح الطائر قائلا : ألأنك أحسنت إليَّ مرة تقولين ذلك ؟ وأنا الذي بذلت ساعات من حياتي أمتعك بشدوي وجميل معزوفاتي ،ولولا أني أردت أن أشكر لك فضلك في تحملك إياي طوال الليل وصبرك ،ما أيقضتك..
لقد صدق ذلك الانسان الذي قال : وإذا أكرمت اللئيم تمرد..
فردت الدوحة في حنق : كيف يثقل ظهري ببغاث مثلك ،وأنت الذي ترويك القطرة وتشبعك الحبة ..أم كيف أعجز عن حملك وأنا التي لا تدري على أي غصن منها تقع..
إن مثلك أيها البغاث كمثل سائر الكائنات التي تتردد علي ولا أكاد أشعر بها ،والتي وجودها عندي كعدمها..
ثم متى رجوت الشكر من أحد ، حتى أرجوه منك ..وأي فضل لمعزوفاتك التي تحاكي نواح الثكالى في المآتم أمام عزيف أوراقي ورقصات أفناني ،وطيب أثماري ونُظْرَة ألواني و وريف ظلالي وبرد نسماتي،وعبيق أعوادي وشموخ هامتي ، وعمق جذوري..
ارحل من هنا أيها البغاث بلا رجعة. و لا حاجة لي لنواحك. فحسبي ما أسمعه كل يومي من هذا الواد من نقيق الضفادع و فحيح الأفاعي و وعوعة الذئاب وضباح الثعالب وصئي العقارب ،ونباح الكلاب وضوضاء الكائنات المستوطنة لهذا الوادي..
وهنا دف الطائر الصغير بجناحيه وقبل أن يطير قال للدوحة : إذا لم يرقك غنائي وضاق به صدرك ففي أرض الله الواسعة متسع له وقبول..
فردت الدوحة هازئة : أكيد ستلقى من يروقه نشازك ويرضيه نواحك..ففي الأرض من يطرب لنعيق الغربان ،ويؤثر أصوات النواعير على أصوات العيدان..