تعامل السلطة مع المثقف بعد الاستقلال: "لا ترفع صوتك.. وإلاّ الزنزانة أو المنفى"
06-02-2015, 09:52 PM
"المثقف والسجن أو المنفى" هذه المعادلة الغامضة التي لطالما أثمرت إبداعات روائية وشعرية على مرّ العصور ..فجدران السجون الجزائرية شاهدة على شخصيات رأي بارزة وشخصيات مفكرة وروائية، تم حبسها، وأخرى نفيت لأسباب مختلفة بعد الاستقلال وفي عهدات رئاسية مختلفة بدءا من نظام الرئيس الراحل أحمد بن بلة، وصولا إلى مرحلة التسعينيات أو العشرية السوداء، هذا إضافة إلى المثقفين الذين دخلوا غياهب السجون في فترة الاستعمار الفرنسي، وهم كثر لأنّهم دافعوا عن الهوية الجزائرية واستقلال الشعب ووقفوا في وجه فرنسا التي لم تتوان في سجن المتعلمين ورجال الدين والسياسة.
أرادت "الشروق" أن تعيد فتح ملف مثقفي الجزائر الذين تم سجنهم ونفيهم بعد الاستقلال، وتسلّط الضوء بالتفاصيل على أسباب تواجدهم لسنوات وراء القضبان أو النفي إلى ما وراء البحار.
الشاعر أزراج عمر: المنفى جدد صلتي بهويتي الثقافية وتأكدت بأنّ الوطن ليس مجرد تراب..

كيف كان المنفى والغربة بالنسبة لك كمثقف؟
لقد توقفت طويلا عند سؤالك المطروح عليَ "بصيغة الماضي" عن دلالة وأثر المنفى أو الغربة بالنسبة لي، إن المنفى، أو الغربة اللذين سألتني عنهما بلطف، هما بالنسبة للشاعر الذي له إحساس بالتاريخ الثقافي، والحضاري، وبحركة الكون غير محددين بعنصر زمني مفرد، أو بالمساحة الجغرافية البعيدة عن جغرافيا الوطن الأصلي، نحن منفيون ومغتربون أحيانا في عقر دارنا، وبين من ندعوهم بأهلنا، كما أن المنفى ليس بالنسبة لي حالة سيكولوجية يزول بزوال العلة المفترض أو المتوهم فيها أنها طارئة. صحيح أنني وجدت نفسي ابتداء من 1986 إلى2007 مرميا في بلاد أجنبية وهي إنجلترا، وصحيح أيضا أنّ للجغرافيا سلطة على الروح والوجدان، ولكني الذي أدركته طوال كل هذه الفترة (21 سنة) أن المنفى متعدد ومتنوع وبعضه ضروري للمبدع. هناك منفى اللغة، ومنفى الفكرة، ومنفى الإحساس الوجودي، ومنفى التاريخ والحضارة ومنفانا الأبدي هو مستقبلنا الذي هو الموت كما قال الفيلسوف مارتن هيدغر في كتابه "الكينونة والزمان".
ربما يكون المنفى الجغرافي موقعا مهما منه تبدأ الذات في تأمل تاريخها وفي استعادة ما ضاع منها في الماضي وصار فريسة للنسيان. في إنجلترا تعلمت من جديد وعلى نحو طازج أنه مهما ابتعدنا عن الوطن الأمَ (وليس الوطن الأب) فإنّ البعد لا يطفئ الهوية الثقافية وبالعكس فإنّ المنفى يجدد الصلة بها وكثيرا ما يحوّلها إلى وطن ورفيق متجددين ومجددين له أيضا. ففي إنجلترا قرأت تاريخ الجزائر باستفاضة والتقيت في تلك الليالي المصفحة بصقيع القطب الشمالي برموزه وأبطاله وثروته الشعبية والروحية. وفي تلك الحالات الحميمية تأكدت أن الوطن ليس مجرد تراب، وأسرة، وجبال، وأنهار تخون ضفافها حينا وتلاطفها حينا آخر، وإنما هو أيضا تضاريس ذلك التاريخ الذي هو بعض منَا في الزمان المعاصر. أتذكر أن فرانز فانون الذي صار لي جزء من وطني في الغربة، قد أشار أن النساء المغربيات قد نفينا زينتهنَ بعدما أصبحنا يلبسن الحجاب حزنا على نفي فرنسا للملك محمد الخامس إلى مدغشقر، ولكن تلك الزينة لم تنعدم وإنما غيرت الموقع فقط. إذن فإن موقع الشاعر هو الموقف، وأن الإحساس بالمنفى يحدث حين يصيب موقفه خلل ما. يقول الفيلسوف ألان باديو بأن القصيدة موجهة ضد كل شيء لأن الشاعر يريد دائما إعادة صنع اللغة، الأشياء، الهوية، العالم وعندما يعرقل أو يفشل فإنه يكتب شعرا يرثي فيه هذا الفشل الذي يتحوّل إلى فنَ فيشعر بالمنفى والغربة وبكثير من العزاء معا.
الشعر حالة ذهانية بامتياز أما أولئك الشعراء الذين لا يتجاوزون عتبة العصاب فهم لا يشعرون بأن المنفى ضروري دائما وأنه من دونه لا يتحقق الإبداع الخارق لما يسمى بالمشترك الذي هو العدو التقليدي لبناء الحساسية الجديدة، والقيم البديلة. مرة قال الفيلسوف جاك دريدا بما معناه أن الديمقراطية توجد دائما في المستقبل. لهذا السبب قد نكون متنا عندما تصبح في الحاضر وهذا في حد ذاته يولد فينا الإحساس بالغربة عنها، وبالمنفى خارج مرابعها، نحن عرباء عن أنفسنا دائما وهذا النقص هو الذي يولد لدينا ما يسميه فيلسوف فرنسي بالدافع الحيوي.
هل تعتقد بأن سجن أو نفي المثقف يبعث فيه روحا إبداعية أخرى؟
لا يمكن سجن الموهبة الحقيقية، أو الردع، أو وضع قيود فولاذية للمحيطات، أو للنضال المؤسس على العقيدة والإيمان بالقضية العادلة، إن الذين يعذب ضمائرهم السجن هم أولئك الذي يبنون أسواره العالية، ويعيّنون حراسه ويدفعون لهم الأجور ويتشاجرون مع البنائين الذين ينسون سدَ الثقب التي تدخل منها أشعة الشمس إلى الزنازين، ويختلفون دائما على نوعية التعذيب الذي يمارسونه ضد ضحاياهم. إن التاريخ هو، دائما، تاريخ الظلم، وتاريخ الذين يقاومونه، إن روح الإبداع توجد في هذه المقاومة تماما، أما من يبحث عنها في مكان آخر فإن مصيره هو مثل مصير ذلك الذي ينتظر "غودو" الذي لن يأتي.
"مجرد بصمة": معاناة مدير مثقف في السجن

مراد براهيمي من مواليد 15 جانفي 1955 بتلمسان خريج المدرسة الوطنية للإدارة وكان رئيس مصلحة الشؤون القانونية والمنازعات بالولاية ومدير ديوان الترقية والتسيير العقاري بالجلفة ورئيس دائرة بالمدية، قدّم أولّ كتاب له بعنوان "مجرد بصمة" يروي في صفحاته معاناته ويصوّر آلامه في السجن، وكذا التعذيب والظلم الذي تعرض له، وفي أحد حواراته قال براهيمي مراد بأنّ الكتاب نابع من إحساسه ومن منطلق الظلم الذي تعرض له حيث اتهم وسجن من دون سبب -حسبه- حينما كان مديرا على رأس ديوان الترقية والتسيير العقاري بالجلفة، حيث تم سجنه مدة 05 أشهر و20 يوما وأثناء فترته في السجن كتب رسالة إلى الرئيس الراحل محمد بوضياف يشكو فيها آلامه والظلم الذي تعرض له لكن رسالته لقيت نفس مصيره -كما قال-.
وتابع حديثه أنذاك بأنّه لم يرد أن يرسلها للرئيس خوفا مما سيحدث وفق ما روى له زميل له بأنه تعرض للظلم إبان حكم الرئيس الراحل هواري بومدين من طرف رئيس دائرة من ولاية ما وأرسل رسالة إلى الرئيس هواري بومدين لكنها رجعت الرسالة إلى رئيس الدائرة وواجهه بها، هذا الشيء منع كاتبنا من إرسال رسالته كي لا تعرف مصير رسالة زميله...حيث بقيت مسجونة معه في زنزانته، يذكر أن الكاتب مراد ابراهيمي قد أهدى كتابه الأول إلى عضو مجلس الثورة العقيد أحمد بن الشريف.
أنور مالك: السجن في الجزائر والفرار إلى فرنسا

أنور مالك واسمه الحقيقي "نوار عبد المالك "مواليد 18 جويلية 1972، ابن مدينة تبسة، ضابط جزائري سابق، كاتب وصحفي، فرّ للخارج عام 2006 وتحصل على اللجوء السياسي بفرنسا. وكانت قصة سجنه وتعذيبه من أشهر القضايا الحقوقية في الجزائر، بعد أن اتهم -حسب تصريحاته-رئيس "حمس" السابق أبوجرّة سلطاني بتعذيبه..
عرف بلهجته الحادة تجاه السلطة الجزائرية وكل الأنظمة العربية من خلال مقالاته المختلفة عبر الصحف الدولية وأشهر مواقع الأنترنيت، شارك في برامج عبر القنوات الفضائية وأشهرها مشاركاته الكثيرة، منها مناظرته على أحد البرامج الإخبارية العربية مع جهيد يونسي الرئيس الحالي لحركة الإصلاح الوطني وتناظر أيضا مع فؤاد علام رئيس جهاز أمن الدولة سابقًا وأحد أبرز الوجوه التي حاربت الإخوان المسلمين في مصر وكان الموضوع حول التعذيب في السجون العربية. تابع أنور مالك وزير الدولة وزعيم "الإخوان المسلمين" في الجزائر أبو جرة سلطاني بسويسرا، وتعتبر قضيته أول قضية تعذيب ضد مسؤول جزائري تقبل في الخارج، وكانت القضية سبب جدل كبير خاصة بعد هروب الوزير عبر الحدود البرية نحو فرنسا ومنها الجزائر في 18 أكتوبر 2009. ظل يثير الجدل سواء في مشاركاته عبر الفضائيات أو من خلال مقالاته، وقد أحدث ضجة كبيرة عندما قام بزيارة الصحراء الغربية نهاية جويلية 2010 ونشر تحقيقا صحفيا تحت عنوان "ثلاثة أيام في الداخلة مع شعب لا يؤمن إلا بتقرير المصير" وعبر 5 حلقات نشرتها جريدة الشروق مطلع أوت 2010.
ويقول أنور مالك عن السجن: "...مؤسسات السجن هي المناخ الذي صار يصنع التطرف ويزرع الأحقاد، كما أنه المكان الذي يستشري فيه زرع السلفية الجهادية والأفكار الظلامية، هذا إن لم يتم تنظيمه بصورة تحمي عقول الوافدين والنزلاء وتحصنهم من تلك السموم التي تستغل النقمة والأوضاع المزرية وتستثمرها نحو ما يخدم أجندات مستوردة. فقد تخرج من السجن الانتحاريون ونزح منه دمويون مارسوا القتل والنهب والترويع والاغتصاب، كما أنه صار يعطى للسجن بعدا روحيا من خلال استثمار الكثير من القصص التي تحفل بها الذاكرة الجماعية، فضلا عن بعض الروايات المتناثرة في كتب التاريخ والسنن. ومن جهة أخرى فقد لمست أنّ المتدينين يمارسون الدعوة إلى عقائد استوحت من الكتب التي تصل إليهم ومن غير الأخذ بعين الاعتبار آراء العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى والعدل والثقة...".
الإبراهيمي: خلافه مع بن بلّة ينتهي بالإقامة الجبرية
[IMG]
[/IMG]يروي مقربون من الشيخ الإبراهيمي بأنّ الرجل الذي عاد إلى الجزائر بعد انتصار الثورة وإعلان الاستقلال، ألقى خطبة أول جمعة في جامع "كتشاوة" في العاصمة، فكانت خطبته بمثابة إنهاء للمشروع الفرنسي بتنصير الجزائر، ولكن بقي الصراع على هوية الجزائر ومكان الإسلام فيها بين الجمعية وقادة جبهة التحرير، وبالتالي عقب الاستقلال وقعت في صفوف قادة البلاد خلافات واسعة، لم يحسمها إلا انحياز هواري بومدين رئيس قيادة الأركان لأحمد بن بلة وتنصيبه رئيساً للجزائر، ومن هنا حصلت القطيعة بين الإبراهيمي والجمعية بسبب هوس بن بلة بالفكر الاشتراكي اليساري، فكان الطلاق عندما اتهم الإبراهيمي أحمد بن بلّة بتغييب الإسلام عن معادلات القرار الجزائري ووضع بسببه الإبراهيمي تحت الإقامة الجبرية، حيث قطع عنه الراتب الشهري وبقي كذلك إلى غاية وفاته في 20 ماي 1965.
هذا وقال الإبراهيمي في بيان الذي يعتقد أنّه سبب الصدام: كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر، ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق، والنهوض باللغة العربية -ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله- إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قررت أن التزم الصمت.
غير أني أشعر أمام خطورة الساعة، وفي هذه اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- أنه يجب علي أن أقطع ذلك الصمت، إن وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ، ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها ، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل ، ولكن المسؤولين -فيما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية ...".
طالب الإبراهيمي: 7 أشهر في معتقلات بن بلّة
[IMG]
[/IMG]وزير الخارجية الأسبق، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي تحدث بمرارة في تصريحات صحفية سابقة عن مرحلة الرئيس أحمد بن بلة، خاصة ظروف اعتقاله واقتياده لمعتقل التعذيب وصرّح وقتها: "تعذيبي كان بأمر من بن بلة وآلمني كثيرا أن يصدر ذلك منه"، وأضاف: "5 سنوات في السجون الفرنسية كانت جنة نعيم قياسا بـ7 أشهر في معتقلات بن بلة". مؤكدا بأنّ الرئيس بن بلة، هو الذي أمر باعتقاله في صبيحة يوم الأحد 12 جويلية 1964، وهي السنة التي وصفها المتحدث بـ"سنة الاعتقالات والإعدامات"، نظرا إلى الاعتقالات الكثيرة التي طالت جملة من القيادات الثورية المعروفة، منها منها فرحات عباس، والعقيد محمد شعباني، وحسين آيت أحمد.
وكان طالب الإبراهيمي قد قال بأنّ المعتقل الذي اقتيد إليه للتعذيب، كان به مئات من الجزائريين "الذين كنت أسمع صراخهم بشكل يومي تأثرا بقسوة التعذيب الذي يلاقونه". معتبرا "على حدّ قوله"- بأنّ أنّ التهمة الوحيدة التي اتهم بها كانت التآمر على نظام الرئيس بن بلة وتأسيس حكومة معارضة في المنفى برفقة محمد بوضياف وحسين آيت أحمد ومجموعة من القيادات المعروفة، غير أنّ الإبراهيمي أكّد أنّه لم يكن عضوا في هذه الحكومة المفترض







