كيف غيرت الهواتف الذكية عاداتنا داخل وسائل المواصلات؟
22-07-2015, 07:58 PM
كريس بارانيوك
صحفي علمي




تجذب الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية اهتمام ركاب الحافلات والقطارات هذه الأيام. لكن هل يعني ذلك أنهم "غائبون" عن واقعهم؟ وماذا يفعل الركاب الذين لا يستخدمون مثل هذه الأجهزة خلال تنقلاتهم؟
إذا كنت تستقل حافلة أو قطارا في زمننا هذا، فستجد أنك محاط بركاب يتنقلون يومياً إلى أعمالهم وهم يتطلعون إلى ألواح من الزجاج والمعدن في أياديهم. لعل وسائط النقل العمومية هي أكثر الأماكن التي تجد فيها جمهوراً واسعاً يقع حقاً تحت أسر التكنولوجيا.
ومع ذلك يشكو الكثير منا من شعور مزعج ينتابه نتيجة الاعتماد على الهواتف باعتبارها ضارة نوعا ما. هذا هو السبب وراء الانتشار السريع لمشاهد فيديو مثل "لووك آب"، التي تشير إلى أننا سنكون بحال أفضل إذا ما توقفنا عن الاتصال بمواقع الإنترنت لبعض الوقت.
وهو نفس السبب أيضاً الذي جعل الكثير من الناس يجدون صورة "شخص بدون هاتف" وهي تبدو صورة مشرقة وسعيدة إلى حد كبير عندما نُشرت على موقع "تويتر". في نهاية المطاف، يندر أن نجد أي راكب في أيامنا هذه بدون هاتف نقال بيده.
في عام 2009، كان "ستيفن داولينغ" كاتبا مساهما في "نيوز ماجزين" في بي بي سي، (وهو حالياً المحرر المشارك في "بي بي سي فيوتشر"). وقتها، تحدث داولينغ إلى عدد من ركاب قطارات لندن ممن لم يكونوا منشغلين بجهاز "آي باد" أو بقراءة صحيفة ما.
سألهم داولينغ عما يفعلونه عوضاً عن ذلك. وقد تفاوتت الإجابات ما بين ممارستهم للتنفس بطريقة اليوغا إلى انشغالهم بالتفكير في أخت ترقد في مستشفى. ولكن ما هي الحال الآن، بعد أكثر من خمس سنوات لاحقاً؟ هل يوجد من أمثال هؤلاء أساساً؟ وإذا كان الأمر كذلك، ففي أي شيء يفكرون؟
في صباح يوم خميس غائم، كان ركاب قطار الأنفاق على خط "ميتروبوليتان" بلندن لا يزالون يتوجهون إلى مكاتب أعمالهم في المدينة، رغم أن التنقل في ساعات الذروة الصباحية قد هدأ نوعا ما. بدأت الرحلة فوق سطح الأرض خارج محطة "متنزه ويمبلي"؛ إذ يمتد منظر المدينة ومبانيها حولنا على مد البصر. إلا أن الغالبية العظمى من الركاب، بالطبع، لم يكونوا يأبهون لذلك. إنهم يتطلعون نحو الأسفل، إلى هواتفهم النقالة.



كان "راهول جيري"، ذو الـ 38 عاماً مختلفا عنهم. كان يجلس بمفرده صامتاً، ينظر من خلال زجاج النافذة إلى العالم الخارجي. يقول جيري: "أنا متخصص في تقنية المعلومات. أجلس تسع ساعات أمام شاشة الكومبيوتر. ذلك يكفيني!". أحياناً، يتحقق جيري من بريده الإلكتروني على هاتفه النقال من نوع "بلاك بيري"؛ وإلا، فإنه يفضل أن يتحرر من أي توتر عندما يتنقل بالقطار.
"مايك ديمان"، وعمره 66 عاماً يقدم لنا مثالا مشابها، ويقول. "أنتظر استقبال المكالمات الهاتفية"، كان يوضح لنا ذلك وهو يشير إلى جيب سترته. المسافة الأخيرة من خط قطار "ميتروبوليتان" للأنفاق تقع تحت سطح الأرض، ولكن أقساماً متعددة منها بدون سقف، مما يعني إمكانية الحصول على إشارة الشبكة الهاتفية لفترة وجيزة.
يقول "ديمان": "ينقطع الاتصال باستمرار. هذه مشكلة"، علماً بأنه يعمل في أعمال تشييد البنية التحتية لشبكات الاتصالات. وبقدر ما يود أن يظل قادراً على استقبال مكالمات، إلا أن فكرة إغراق نفسه داخل هاتف نقال أو جهاز لوحي لا تغريه.
ينطبق نفس الشيء على المستمعين للموسيقى. يقول ديمان: "ينتابني الهلع عندما أرى هؤلاء الناس وهم ينشغلون بالاستماع إلى شيء ما. إنهم لا يقرأون أي كتاب، ولا يواكبون الأحداث الجارية، إنهم يستمعون فقط الى موسيقاهم أو ما شاكل."
عند محطة "بيكر ستريت"، ينضمّ خط "ميتروبوليتان" لقطار الأنفاق إلى أقدم قسم من شبكة الأنفاق برمّتها. مرت القطارات عبر هذا القسم القديم منذ عام 1863. يتنقل "جوناثان هام"، البالغ 54 عاماً، عبر هذا القسم كل يوم تقريباً.
يقول هام، وهو عالم في مجال الأحياء: "أستمع أحياناً إلى الموسيقى. غير أني أفضل أن أتأمل الأماكن عندما أتنقل بقطار الأنفاق، أو أن أتطلع فقط إلى الناس." ويقرأ هام بين الفينة والأخرى دراسة أو مقالاً علمياً عند تنقله بالقطارات، لكنه يعترف: "لكنني، هذا الصباح، أشعر نوعاً ما بملل."
الناس الذين يراهم ليسوا مثله دائماً. أي أنه بالنسبة لأولئك، يمثل القطار أفضل مكان للانشغال بأجهزتهم. ويضيف: "يبدو الناس ملتفين حقاً حول هواتفهم النقالة وأجهزتهم اللوحية. في الواقع، أجد ذلك مبعثاً للقلق. أنا من التقليديين جداً. أنا صارم تماماً فيما يخص هذا الأمر. حتى أني لا أتحقق من بريدي الإلكتروني في البيت".



ويتابع: "لدي كمبيوتر في البيت ولكنه غير مرتبط بشبكة الانترنت ـ أقوم بذلك في مكان العمل. إذا احتجت إلى البريد الإلكتروني، عندها بالطبع سأستعمل هاتفي النقال، ولكني قمت بإعداده بطريقة تجعل من الصعب قليلاً القيام بذلك."
تقاليد مفرطة لإلهاء النفس
هناك من يحزن لتلك الصفات الخاصة بصرف الانتباه التي تميز الهواتف النقالة، ويروجون لفكرة "التحرر من الشبكة". وجد هؤلاء مؤخراً جمهوراً يتقبل الاستماع إليهم. أحد أمثال هؤلاء هو "توم مونتغومري فَيت"، الكاتب وأستاذ اللغة الانجليزية بكلية "دوبيج" في شيكاغو الأمريكية.
يقول فَيت: "لاحظت انحساراً متزايداً في قدرات الطلبة على القراءة وإعارة الانتباه، وأعتقد أنه يسير جنبا إلى جنب مع نمو التكنولوجيا. أنا محبط لأن تواصلنا لا يمكن أن يكون بشكل مباشر. لن تستطيع رؤية العالم من حولك إذا كنت تنظر نحو الأسفل طول الوقت؛ إذا كنت منشغل البال".
يتحسر "فَيت" على ما يسميه "تقاليدنا المتجددة دوماً للإفراط في إلهاء النفس". مع ذلك، فقد استسلم مؤخراً واشترى أول هاتف نقال ذكي لكي يتواصل عن طريق مكالمات الفيديو مع ابنته، التي تدرس في مدريد.
هناك اعتقاد سائد، وفي الواقع قلة من الأدلة التي تدعم ذلك، مفاده أننا إذا ألهينا أنفسنا، أو "عشنا اللحظة" فسوف يتولد لدينا إحساس أفضل. لكن، وكما يبين العديد من ركاب قطارات الأنفاق، تستطيع استعمال هاتفك لهذا الغرض أيضاً.
"أحتاج للقيام بأمرٍ ما، ومن الواضح أن مشاهدة شيء على برنامج ’الآي بلَيَر‘ أو الاستماع إلى مقطع موسيقي سيدعو إلى الاسترخاء بشكل أكثر،" ذلك ما قالته "كاتي ووكر"، البالغة 29 عاماً، بينما يتوقف القطار في محطة "باربيكان".
كانت ووكر قد أطفأت جهازها للتو، إذ كانت تشاهد برنامجاً انتهى في الوقت المناسب كي تنزل من القطار. وتوضح مسافرة أخرى أنها كانت ستستعمل هاتفها لولا أنه لم يتبق لديها لاعبون في لعبة "كاندي كراش" واختارت أن ترتاح قليلاً.



من الطبيعي، أحياناً، أن تجبرنا التكنولوجيا على الانتباه لما حولنا. "شنيد دينيغ"، البالغة 24 عاماً، لم تتمالك نفسها وضحكت بينما كانت تشرح سبب جلوسها بدون إنشغال بأي أمر. "بطارية هاتفي نفذت!"، قالت ذلك بينما كان القطار يقترب من "ليفربوول ستريت"، المحطة قبل الأخيرة.
وأضافت: "أفكر في طريقة لشحن البطارية. علي الذهاب إلى البيت، لأحصل على جهاز شحن بطارية الهاتف، ثم العودة ثانية. كنت على موعد مع صديقة لي، وكنت سألتقيها الآن لولا أنه يجب علي الذهاب إلى البيت وشحن هاتفي".
فجأة، أصبحتْ بدون أي جهاز. إضطرت "دينيغ" أن تتطلع حولها، ثم علّقت قائلة: "مجرد الجلوس هو أمر جميل. كنت سأخرج كتابي لأقرأه، ولكن لا، أنا متعبة جداً. أريد فقط أن أجلس هنا. أن أجلس ولا أفعل أي شيء!"
كانت عربة القطار تكتظّ بالركاب من حولها وهم يلوحون بهواتفهم النقالة بدون أن يعيروا أي انتباه. إلى حد ما، إنه المكان الأمثل للتمتع بالوحدة.
تعتقد جيني ديفز، وهي أستاذة مساعدة في علم الاجتماع بجامعة "جيمس ماديسن" في فرجينيا، أن فكرة وجود إنقسام بين الذين يستعملون التقنية وهم يستقلون القطارات وأولئك الذين لا يستعملونها تبدو وكأنها إزدواجية كاذبة.
وتضيف: "في الأماكن المتمدنة، توجد الكثير من المحفزات، حتى أننا عندما نكون في أماكن عامة ننعزل دوماً ونضع أنفسنا في جوّ من الوحدة. نعير الانتباه على الدوام لأجهزتنا التي يُضرب بها المثل، وتركنا كل شيء آخر، سواء كانت تأملاتنا، أو قراءة صحيفة ما، أو أي شيء كان. كنا دوماً وحيدين عندما كنا سوية في الأماكن المتمدنة."
ينسجم هذا التعليق بدقة مع صورة لركاب في عربة قطار تبدو وكأنها التقطت في أربعينيات أو خمسينيات القرن الماضي. ترى كل واحد منهم في الصورة ورأسه مدفونة في صحيفة. كتب ضمن الشرح الساخر تحت الصورة، "إن كل هذه التكنولوجيا تجعلنا غير اجتماعيين".
يقول ديفز: "في الحقيقة، لا نكون مجرد ’منشغلي البال‘ على الإطلاق. عندما ننشغل في لحظة ما بالتعامل مع شخص ما، فإننا نسترجع دوماً ما مر بنا شخصياً في الماضي، وتجاربنا القديمة وتفكيرنا نحو المستقبل".
وبالتالي، لعله لا يوجد درس عظيم نتعلمه هنا بعد كل ما مر. يبدو على جميع ركاب قطار الأنفاق على خط "ميتروبوليتان" وكأن لديهم ذريعة بسيطة ليفعلوا ما يحلو لهم.
إحدى النساء، وتدعى نينو أرغرد، وتبلغ 23 عاماً، تحمل هاتفها بيدها، لكن الشاشة سوداء ولا تستعمله في تلك اللحظة. وتقول بلا مبالاة: "أردت مجرد النظر حولي. لا تستطيع استعمال الهاتف طيلة ساعات اليوم وفي جميع أيام الأسبوع، يصبح الأمر مملاً في بعض الأحيان".