الأزهر الشريف : دور العقل في قضايا التوحيد
25-01-2009, 04:51 PM
نقلاً عن : دار الإفتاء المصرية
س : يتهم بعض الناس أهل السنة والجماعة- الأشاعرة والـماتريدية- أنـهم أسرفوا في مكانة العقل في علم التوحيد، فما حقيقة هذا الاتـهام؟ أفتونا مأجورين.
الجواب :
بسم لله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد..، فالعقل في اللغة يطلق على معان متعددة، منها: الحِجْر والنهي وهو ضد الحمق، ومنها: الفهم والتميز وغيرها. وهذه الـمعاني كلها مجتمعة تدل على أن العقل في مفهوم العرب هو العاصم الذي يعصم الإنسان- بعد توفيق الله وهدايته- من الطيش والحمق والتسرع في الأمور دون رويَّة وأناة، وذلك بـما يضيفه عليه ذلك العقل من الوعي والإدراك؛ الأمر الذي يقيه مخاطر الزلل والخطل.
قال الراغب: «العَقْلُ: يقال للقُوَّةِ الـمُتَهَيِّئَةِ لقَبولِ العِلم، ويقال للذي يَسْتَنبِطُه الإنسانُ بتلكَ القوَّةِ عَقْلٌ» (1). وقد ذكر الـماوردي عدة تعريفات للعقل، ورجَّح من بينها ما يلي، فقال: «إنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وذلك نوعان: أحدهما: ما وقع عن دَرَكِ الْحَوَاس. والثاني: ما كان مُبْتَدأ في النُّفُوسِ. فأما ما كان واقعًا عن درك الحواس فمثل الـمرئيات الـمُدْركةِ بالنظر، والأصوات الـمُدْركةِ بالسمع ... فإذا كان الإنسان مـمن لو أدرك بحواسه هذه الأشياء ثبت له هذا النوع من العلم؛ لأن خروجه في حال تغميض عينيه من أن يدرك بـهما ويعلم، لا يخرجه من أن يكون كامل العقل، من حيث عُلِمَ من حاله أنه لو أدرك لعلم. وأما ما كان مبتدأ في النفوس فكالعلم بأن الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الـموجود لا يخلو من حدوث أو قِدَم، وأن من الـمحال اجتماع الضدين، وأن الواحد أقل من الاثنين وهذا النوع من العلم لا يجوز أن ينتفي عن العاقل مع سلامة حاله وكمال عقله. فإذا صار عالـمًا بالـمدركات الضرورية من هذين النوعين فهو كامل العقل، وسُـمِّي بذلك تشبيهًا بعقل الناقة؛ لأن العقل يـمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا قبحت، كما يـمنع العقل الناقة من الشرود إذا نفرت» (2).
وقد اختلف العلماء في تحديد محل العقل: فقيل: محله القلب وإلى هذا ذهب الجمهور من الـمالكية والشافعية والحنابلة(3)، وقيل: محله الرأس وهذا القول منسوب إلى الحنفية، ونسبه الباجي إلى الإمام أبي حنيفة، وهو الـمشهور عن الإمام أحمد (4). وقيل: محله القلب وله اتصال بالدماغ، وهذا القول منسوب إلى أبي الحسن التميمي، وغيره من أصحاب الإمام أحمد (5).
وقد كرم الله العقل وجعله مناط التكليف فعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يعقل»(6).
و القرآن حافل بالآيات التي تحض على النظر، وتدعو إلى التفكر بأساليب شتَّى وصور متنوعة، والـمراد بالنظر: النظر العقلي، وهو الذي يستخدم الإنسان فيه فكره بالتأمل والاعتبار. قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس 24: 32].
وقد حرَّم الإسلام الاعتداء على العقل؛ فحرَّم الـمُسْكِر والـمُفتِّر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 90]، وعن أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: « نـهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن كُلِّ مُسْكر ومُفتِّر» (7).
علم التوحيد :
«التوحيد لغة: العلم بأن الشيء واحد. والـمراد الشرعي هو: إفراد الـمعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته والتصديق بـها ذاتًا وصفاتًا وأفعالا، فليس هناك ذات تشبه ذاته تعالى، ولا تقبل ذاته الانقسام لا فعلا ولا وهمًا ولا فرضًا للواقع، ولا تشبه صفاته الصفات، ولا تعدد فيها من جنس واحد بأن يكون له تعالى قدرتان مثلا، ولا يدخل أفعاله الاشتراك؛ إذ لا فعل لغيره سبحانه خلقًا، وإن نُسِبَ إلى غيره كسبًا.
والتوحيد بالنظر إليه كعلم من العلوم هو: علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية مكتسب من أدلتها اليقينية»(8).
ولـمَّا كان موضوع علم التَّوحيد هو الـمعلوم من حيث يتعلَّق به إثبات العقائد الدِّينيِّة، إذ موضوع كل علم هو ما يُبْحَثُ في ذلك العلم عن عوارضه الذَّاتية، ولا شكَّ أنَّه يُبحثُ في هذا العلم عن أحوال الصَّانع، من القِدَمِ والوَحْدَةِ والقدرة والإرادة وغيرها مـمَّا هو عقيدةٌ إسلاميةٌ ليعتقد ثبوتـها لـه، وعن أحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب والأجزاء، وقبول الفناء ونحو ذلك مـمَّا هو وسيلة إلى عقيدة إسلامية؛ فإنَّ تركيب الجسم وقبولـه للفناء دليل افتقاره إلى الـمُوجِدِ لـه، وكل هذا بحثٌ عن أحوال الـمعلوم لإثبات العقائد الدينية.
وكون موضوع علم التوحيد هو الـمعلوم من الحيثية الـمذكورة هو التحقيق بلا ريب، فالـمسلم عندما يشرع بنشر دعوته والاستدلال عليها فإنَّه سوف يكون مضطرًا لاستعمال كل ما عنده من العلوم لإثبات عقيدته، وعندما نقول: العلوم، نقصد كل ما يشمل العقليات والتجريبيات والـمتواترات وغيرها مـمَّا يفيد العلم والقطع، بل الأصل في كلِّ مبدأ كليٍّ أن يكون معتمدًا على العلوم، بـمعنى أن تكون كل العلوم مؤيِّدة لـه، لا بـمعنى أنَّه لا يقوم إلا بالعلوم أي بكلِّ علم منها، بل يكفي للمبدأ أن يكون قائمًا على الـمعقولات وبعض الحسيات مثلا، ثم يشترط فيه بعد ذلك ألا يتعارض في كلِّ ما يأتي به مع أي مصدر من مصادر العلوم.
ومن ثـَمَّ لا يُمْنَعُ أن يَستَخْدِمَ الإنسانُ أيَّ صنف من العلوم لإثبات عقائد الدِّين أو ما يخبر به القرآن، وهذا يحتاج إلى احتياط شديد لخطورته، كما يحتاج إلى علمٍ دقيقٍ بالدِّين أولًا، ثم بذلك الصِّنف من العلوم ثانيًا.
حقيقة دور العقل في التوحيد :
وظيفة العقل هي معرفة ماهية وصفة الواقع، ومعرفة الأمر في نفسه على حسب قدرة البشر، من دون ترتيب حكم تكليفي عليها، فنحن نستخدم العقل عن طريق النظر في العالم الخارجي للتعرُّف على وجود اللـه، أي على أنَّ الله موجود، ولكنَّ وجوب الإيـمان باللـه تعالى بحيث يعاقب مَن لا يؤمن ويثاب مَن يؤمن إنـما يُعْرَف من الشَّرع لا من العقل. «ومذهب الأشاعرة وجمع من غيرهم، أن معرفة الله وجبت عندهم بالشرع، وكذلك سائر الأحكام؛ إذ لا حكم قبل الشرع لا أصليًّا ولا فرعيًّا»(9).
وفي القرآن آيات كثيرة تحثُّ على التعقل والتفكر وتـمجدهما، كقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وأهل السنة لم يختلفوا في الإقرار بأن العقل يـمكنه معرفة بعض الأحكام العقائدية، ولكنهم اتفقوا على أن التكليف بالاعتقاد لا يـمكن أن يَثْبُتَ إلا بالنقل والدليل الشرعي؛ ولـهذا فأهل السنة يستدلون على العقائد بالدليل العقلي، ومرادهم بذلك إثبات حقيقتها ومطابقتها للواقع، لا إثبات التكليف بـها بالعقل، فإثبات التكليف بـها يكون بالشرع.
وقد أخطأ بعض العلماء عندما ظن أن أهل السنة والجماعة - الأشاعرة والـماتريدية- يُقدِّمون العقل على النقل، وقد تلقَّف كثيرون هذه الـمقالة وأشاعوها، وفي الحقيقة فإن هذا الظن نتج عن الابتعاد عن الدقة في عبارات القوم، فهم تكلموا عن الظواهر النقلية وليست الظواهر النقلية هي النقل دائمًا. وسبب هذا الظن ما ذكره الإمام الرازي في كتابه (أساس التقديس).
قال الإمام الرازي: « اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك. فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: إما أن يصدق مقتضى العقل والـمنطق فيلزم تصديق النقيضين- وهو محال- وإما أن نبطلها فيلزم تكذيب النقيضين- وهو محال- وإما أن نكذب الظواهر النقلية، ونصدق الظواهر العقلية، وإما أن نصدق الظواهر النقلية ونكذب الظواهر العقلية وذلك باطل؛ لأنه لا يـمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية؛ إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور الـمعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية، صار العقل مُتهمًا غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول. وإذا لم تثبت هذه الأصول، خرجت الدلائل النقلية عن كونـها مفيدة. فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا. وإنه باطل. ولـمَّا بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يُقطع بـمقتضى الدلائل العقلية القاطعة: بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال أنـها غير صحيحة، أو يقال: إنـها صحيحة إلا أن الـمراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوزنا التأويل: اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل. وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بـها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي الـمرجوع إليه في جميع المتشابـهات»(10).
فما فعله أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو تطبيق للشرع الشريف في إعمال العقل-وهو مناط التكليف- وإدراك حقائق الكون والشرع لتحقيق الإيـمان، وهو الـمسلك القويم الذي يقودنا للتعرف على الله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلى وأعلم.
الهوامش :
(1) مفرادت القرآن، الراغب- مادة ( ع ق ل).
(2) أدب الدنيا والدين ص 19.
(3) انظر إحكام الفصول ص 71، البحر المحيط 1/89، العدة 1/89، التمهيد 1/48، شرح الكوكب المنير 1/83.
(4) انظر إحكام الفصول ص 71، البحر المحيط 1/89، العدة 1/89، التمهيد 1/48، شرح الكوكب المنير 1/84.
(5) انظر العدة 1/89، شرح الكوكب المنير 1/84.
(6) سنن الترمذي، باب مَا جَاءَ فِيمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، حديث رقم (1488).
(7) سنن أبي داود، باب النهي عن الـمسكر، حديث رقم (3688)، مسند أحمد بن حنبل (6/309).
(8) حاشية البيجوري على الجوهرة ص 28.
(9) حاشية البيجوري على الجوهرة ص 70. وذكر أيضًا: وقد ذهب الـمعتزلة إلى خلاف ذلك، فقالوا: إن الأحكام كلها تثبت بالعقل، ولذلك قال في (جمع الجوامع): وحكمت الـمعتزلة بالعقل، أي: جعلته حاكمًا، أي: مُدرِكًا للأحكام وإن لم يَردْ بـها الشرع، ويقولون: إن الشرع جاء مُقويًا ومؤكدًا للعقل، فلا ينفون الشرع أصلا وإلا كفروا قطعًا، ويبنون كلامهم على التحسين والتقبيح.
(10) أساس التقديس للإمام الرازي، ص 220، 221.
الـمصادر والمراجع :
- إحكام الفصول في أحكام الفصول، سليمان بن خلف الباجي، ت 474هـ، تحقيق: عبد الـمجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1407هـ.
- أدب الدنيا والدين، علي بن محمد بن حبيب الـماوردي، دار مكتبة الحياة.
- أساس التقديس، للإمام فخر الدين الرازي، تحقيق: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1406هـ / 1986م.
البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن بـهادر الزركشي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، الطبعة الأولى 1409هـ / 1988م.
- التمهيد في أصول الفقه، محفوظ بن أحمد الكلوذاني ت 510هـ، ت: د. مفيد أبو عمشة، د. محمد بن علي بن إبراهيم، مطبوعات جامعة أم القرى بـمكة، الطبعة الأولى 1406هـ / 1985م.
- العدة في أصول الفقه، محمد بن الحسين الفراء ت 458هـ، تحقيق: د. أحمد بن علي الـمباركي، الطبعة الثانية 1410هـ /1990م.
- العقل عند الأصوليين، عرض ودراسة، د. علي بن سعد الضويحي، بحث منشور على شبكة المعلومات الدولية.
- حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد الـمسمَّى: تحفة الـمريد على جوهرة التوحيد، تحقيق: د. علي جمعة محمد، القاهرة: دار السلام، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2002م.
- شرح الكوكب الـمنير، محمد بن أحمد الفتوحي ت 972هـ، تحقيق: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مطبوعات الملك عبد العزيز بـمكة المكرمة 1400هـ/ 1980م.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، القاهرة: مؤسسة قرطبة.
دور العقل في قضايا التوحيد
س : يتهم بعض الناس أهل السنة والجماعة- الأشاعرة والـماتريدية- أنـهم أسرفوا في مكانة العقل في علم التوحيد، فما حقيقة هذا الاتـهام؟ أفتونا مأجورين.
الجواب :
بسم لله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد..، فالعقل في اللغة يطلق على معان متعددة، منها: الحِجْر والنهي وهو ضد الحمق، ومنها: الفهم والتميز وغيرها. وهذه الـمعاني كلها مجتمعة تدل على أن العقل في مفهوم العرب هو العاصم الذي يعصم الإنسان- بعد توفيق الله وهدايته- من الطيش والحمق والتسرع في الأمور دون رويَّة وأناة، وذلك بـما يضيفه عليه ذلك العقل من الوعي والإدراك؛ الأمر الذي يقيه مخاطر الزلل والخطل.
قال الراغب: «العَقْلُ: يقال للقُوَّةِ الـمُتَهَيِّئَةِ لقَبولِ العِلم، ويقال للذي يَسْتَنبِطُه الإنسانُ بتلكَ القوَّةِ عَقْلٌ» (1). وقد ذكر الـماوردي عدة تعريفات للعقل، ورجَّح من بينها ما يلي، فقال: «إنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وذلك نوعان: أحدهما: ما وقع عن دَرَكِ الْحَوَاس. والثاني: ما كان مُبْتَدأ في النُّفُوسِ. فأما ما كان واقعًا عن درك الحواس فمثل الـمرئيات الـمُدْركةِ بالنظر، والأصوات الـمُدْركةِ بالسمع ... فإذا كان الإنسان مـمن لو أدرك بحواسه هذه الأشياء ثبت له هذا النوع من العلم؛ لأن خروجه في حال تغميض عينيه من أن يدرك بـهما ويعلم، لا يخرجه من أن يكون كامل العقل، من حيث عُلِمَ من حاله أنه لو أدرك لعلم. وأما ما كان مبتدأ في النفوس فكالعلم بأن الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الـموجود لا يخلو من حدوث أو قِدَم، وأن من الـمحال اجتماع الضدين، وأن الواحد أقل من الاثنين وهذا النوع من العلم لا يجوز أن ينتفي عن العاقل مع سلامة حاله وكمال عقله. فإذا صار عالـمًا بالـمدركات الضرورية من هذين النوعين فهو كامل العقل، وسُـمِّي بذلك تشبيهًا بعقل الناقة؛ لأن العقل يـمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا قبحت، كما يـمنع العقل الناقة من الشرود إذا نفرت» (2).
وقد اختلف العلماء في تحديد محل العقل: فقيل: محله القلب وإلى هذا ذهب الجمهور من الـمالكية والشافعية والحنابلة(3)، وقيل: محله الرأس وهذا القول منسوب إلى الحنفية، ونسبه الباجي إلى الإمام أبي حنيفة، وهو الـمشهور عن الإمام أحمد (4). وقيل: محله القلب وله اتصال بالدماغ، وهذا القول منسوب إلى أبي الحسن التميمي، وغيره من أصحاب الإمام أحمد (5).
وقد كرم الله العقل وجعله مناط التكليف فعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يعقل»(6).
و القرآن حافل بالآيات التي تحض على النظر، وتدعو إلى التفكر بأساليب شتَّى وصور متنوعة، والـمراد بالنظر: النظر العقلي، وهو الذي يستخدم الإنسان فيه فكره بالتأمل والاعتبار. قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس 24: 32].
وقد حرَّم الإسلام الاعتداء على العقل؛ فحرَّم الـمُسْكِر والـمُفتِّر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 90]، وعن أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: « نـهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن كُلِّ مُسْكر ومُفتِّر» (7).
علم التوحيد :
«التوحيد لغة: العلم بأن الشيء واحد. والـمراد الشرعي هو: إفراد الـمعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته والتصديق بـها ذاتًا وصفاتًا وأفعالا، فليس هناك ذات تشبه ذاته تعالى، ولا تقبل ذاته الانقسام لا فعلا ولا وهمًا ولا فرضًا للواقع، ولا تشبه صفاته الصفات، ولا تعدد فيها من جنس واحد بأن يكون له تعالى قدرتان مثلا، ولا يدخل أفعاله الاشتراك؛ إذ لا فعل لغيره سبحانه خلقًا، وإن نُسِبَ إلى غيره كسبًا.
والتوحيد بالنظر إليه كعلم من العلوم هو: علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية مكتسب من أدلتها اليقينية»(8).
ولـمَّا كان موضوع علم التَّوحيد هو الـمعلوم من حيث يتعلَّق به إثبات العقائد الدِّينيِّة، إذ موضوع كل علم هو ما يُبْحَثُ في ذلك العلم عن عوارضه الذَّاتية، ولا شكَّ أنَّه يُبحثُ في هذا العلم عن أحوال الصَّانع، من القِدَمِ والوَحْدَةِ والقدرة والإرادة وغيرها مـمَّا هو عقيدةٌ إسلاميةٌ ليعتقد ثبوتـها لـه، وعن أحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب والأجزاء، وقبول الفناء ونحو ذلك مـمَّا هو وسيلة إلى عقيدة إسلامية؛ فإنَّ تركيب الجسم وقبولـه للفناء دليل افتقاره إلى الـمُوجِدِ لـه، وكل هذا بحثٌ عن أحوال الـمعلوم لإثبات العقائد الدينية.
وكون موضوع علم التوحيد هو الـمعلوم من الحيثية الـمذكورة هو التحقيق بلا ريب، فالـمسلم عندما يشرع بنشر دعوته والاستدلال عليها فإنَّه سوف يكون مضطرًا لاستعمال كل ما عنده من العلوم لإثبات عقيدته، وعندما نقول: العلوم، نقصد كل ما يشمل العقليات والتجريبيات والـمتواترات وغيرها مـمَّا يفيد العلم والقطع، بل الأصل في كلِّ مبدأ كليٍّ أن يكون معتمدًا على العلوم، بـمعنى أن تكون كل العلوم مؤيِّدة لـه، لا بـمعنى أنَّه لا يقوم إلا بالعلوم أي بكلِّ علم منها، بل يكفي للمبدأ أن يكون قائمًا على الـمعقولات وبعض الحسيات مثلا، ثم يشترط فيه بعد ذلك ألا يتعارض في كلِّ ما يأتي به مع أي مصدر من مصادر العلوم.
ومن ثـَمَّ لا يُمْنَعُ أن يَستَخْدِمَ الإنسانُ أيَّ صنف من العلوم لإثبات عقائد الدِّين أو ما يخبر به القرآن، وهذا يحتاج إلى احتياط شديد لخطورته، كما يحتاج إلى علمٍ دقيقٍ بالدِّين أولًا، ثم بذلك الصِّنف من العلوم ثانيًا.
حقيقة دور العقل في التوحيد :
وظيفة العقل هي معرفة ماهية وصفة الواقع، ومعرفة الأمر في نفسه على حسب قدرة البشر، من دون ترتيب حكم تكليفي عليها، فنحن نستخدم العقل عن طريق النظر في العالم الخارجي للتعرُّف على وجود اللـه، أي على أنَّ الله موجود، ولكنَّ وجوب الإيـمان باللـه تعالى بحيث يعاقب مَن لا يؤمن ويثاب مَن يؤمن إنـما يُعْرَف من الشَّرع لا من العقل. «ومذهب الأشاعرة وجمع من غيرهم، أن معرفة الله وجبت عندهم بالشرع، وكذلك سائر الأحكام؛ إذ لا حكم قبل الشرع لا أصليًّا ولا فرعيًّا»(9).
وفي القرآن آيات كثيرة تحثُّ على التعقل والتفكر وتـمجدهما، كقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وأهل السنة لم يختلفوا في الإقرار بأن العقل يـمكنه معرفة بعض الأحكام العقائدية، ولكنهم اتفقوا على أن التكليف بالاعتقاد لا يـمكن أن يَثْبُتَ إلا بالنقل والدليل الشرعي؛ ولـهذا فأهل السنة يستدلون على العقائد بالدليل العقلي، ومرادهم بذلك إثبات حقيقتها ومطابقتها للواقع، لا إثبات التكليف بـها بالعقل، فإثبات التكليف بـها يكون بالشرع.
وقد أخطأ بعض العلماء عندما ظن أن أهل السنة والجماعة - الأشاعرة والـماتريدية- يُقدِّمون العقل على النقل، وقد تلقَّف كثيرون هذه الـمقالة وأشاعوها، وفي الحقيقة فإن هذا الظن نتج عن الابتعاد عن الدقة في عبارات القوم، فهم تكلموا عن الظواهر النقلية وليست الظواهر النقلية هي النقل دائمًا. وسبب هذا الظن ما ذكره الإمام الرازي في كتابه (أساس التقديس).
قال الإمام الرازي: « اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك. فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: إما أن يصدق مقتضى العقل والـمنطق فيلزم تصديق النقيضين- وهو محال- وإما أن نبطلها فيلزم تكذيب النقيضين- وهو محال- وإما أن نكذب الظواهر النقلية، ونصدق الظواهر العقلية، وإما أن نصدق الظواهر النقلية ونكذب الظواهر العقلية وذلك باطل؛ لأنه لا يـمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية؛ إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور الـمعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية، صار العقل مُتهمًا غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول. وإذا لم تثبت هذه الأصول، خرجت الدلائل النقلية عن كونـها مفيدة. فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا. وإنه باطل. ولـمَّا بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يُقطع بـمقتضى الدلائل العقلية القاطعة: بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال أنـها غير صحيحة، أو يقال: إنـها صحيحة إلا أن الـمراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوزنا التأويل: اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل. وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بـها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي الـمرجوع إليه في جميع المتشابـهات»(10).
فما فعله أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو تطبيق للشرع الشريف في إعمال العقل-وهو مناط التكليف- وإدراك حقائق الكون والشرع لتحقيق الإيـمان، وهو الـمسلك القويم الذي يقودنا للتعرف على الله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلى وأعلم.
الهوامش :
(1) مفرادت القرآن، الراغب- مادة ( ع ق ل).
(2) أدب الدنيا والدين ص 19.
(3) انظر إحكام الفصول ص 71، البحر المحيط 1/89، العدة 1/89، التمهيد 1/48، شرح الكوكب المنير 1/83.
(4) انظر إحكام الفصول ص 71، البحر المحيط 1/89، العدة 1/89، التمهيد 1/48، شرح الكوكب المنير 1/84.
(5) انظر العدة 1/89، شرح الكوكب المنير 1/84.
(6) سنن الترمذي، باب مَا جَاءَ فِيمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، حديث رقم (1488).
(7) سنن أبي داود، باب النهي عن الـمسكر، حديث رقم (3688)، مسند أحمد بن حنبل (6/309).
(8) حاشية البيجوري على الجوهرة ص 28.
(9) حاشية البيجوري على الجوهرة ص 70. وذكر أيضًا: وقد ذهب الـمعتزلة إلى خلاف ذلك، فقالوا: إن الأحكام كلها تثبت بالعقل، ولذلك قال في (جمع الجوامع): وحكمت الـمعتزلة بالعقل، أي: جعلته حاكمًا، أي: مُدرِكًا للأحكام وإن لم يَردْ بـها الشرع، ويقولون: إن الشرع جاء مُقويًا ومؤكدًا للعقل، فلا ينفون الشرع أصلا وإلا كفروا قطعًا، ويبنون كلامهم على التحسين والتقبيح.
(10) أساس التقديس للإمام الرازي، ص 220، 221.
الـمصادر والمراجع :
- إحكام الفصول في أحكام الفصول، سليمان بن خلف الباجي، ت 474هـ، تحقيق: عبد الـمجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1407هـ.
- أدب الدنيا والدين، علي بن محمد بن حبيب الـماوردي، دار مكتبة الحياة.
- أساس التقديس، للإمام فخر الدين الرازي، تحقيق: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1406هـ / 1986م.
البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن بـهادر الزركشي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، الطبعة الأولى 1409هـ / 1988م.
- التمهيد في أصول الفقه، محفوظ بن أحمد الكلوذاني ت 510هـ، ت: د. مفيد أبو عمشة، د. محمد بن علي بن إبراهيم، مطبوعات جامعة أم القرى بـمكة، الطبعة الأولى 1406هـ / 1985م.
- العدة في أصول الفقه، محمد بن الحسين الفراء ت 458هـ، تحقيق: د. أحمد بن علي الـمباركي، الطبعة الثانية 1410هـ /1990م.
- العقل عند الأصوليين، عرض ودراسة، د. علي بن سعد الضويحي، بحث منشور على شبكة المعلومات الدولية.
- حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد الـمسمَّى: تحفة الـمريد على جوهرة التوحيد، تحقيق: د. علي جمعة محمد، القاهرة: دار السلام، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2002م.
- شرح الكوكب الـمنير، محمد بن أحمد الفتوحي ت 972هـ، تحقيق: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مطبوعات الملك عبد العزيز بـمكة المكرمة 1400هـ/ 1980م.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، القاهرة: مؤسسة قرطبة.
من مواضيعي
0 كشف تدليس صاحب " من أقوال المالكية " في موقف ابن باديس من القراءة الجماعية !!!
0 التنبيه على تدليس الدكتور فركوس في الموقف الصحيح للبشير الإبراهيمي من المولد !!!
0 وصف الله بالاستقرار بين الألباني وابن العثيمين
0 تنزيه الله عما لا يليق كالمادة بين ابن باديس وابن العثيمين
0 منهج الشيخ عبد الحميد بن باديس في متشابه الصفات
0 حوار مع الأخ "محمد ايوب" حول الحركة الوهابية
0 التنبيه على تدليس الدكتور فركوس في الموقف الصحيح للبشير الإبراهيمي من المولد !!!
0 وصف الله بالاستقرار بين الألباني وابن العثيمين
0 تنزيه الله عما لا يليق كالمادة بين ابن باديس وابن العثيمين
0 منهج الشيخ عبد الحميد بن باديس في متشابه الصفات
0 حوار مع الأخ "محمد ايوب" حول الحركة الوهابية










