ومن قال لك ان الاشعري مر بثلاث مراحل
بل مر من الاعتزال الى عقيدة اهل السنة والجماعة التي هي الاشعرية
وللرد على القضية الأولى وهي مرور الإمام بثلاث مراحل أوثلاث حالات في حياته نقول :
إن الإمام الأشعري رحمه اللهتعالى عَلَمٌ من أعلام المسلمين يشار إليه بالبنان , وتعقد على كلماته الخناصر , فهو ليس بنكرة من الناس , ولا برجل مجهول يخفى على الناس أمره لا سيما في قضية مثلهذه التي نحن بصددها , فإن كان الأمر كما جاء في الدعوى , وأنه مر بثلاث مراحل فيحياته فلا بد أن يكون المؤرخون قد ذكروا هذا وبينوه , ولكان ـ حتماً ـ قد اشتهر عنهوانتشر كما ذاع وانتشر أمر رجوعه عن الاعتزال إذ لم يَبْقَ أحد ممن ترجم له إلاوذكر قصة صعوده المنبر وتبرِّيه من الاعتزال .
فهل ذكر أحد من المؤرخينشيئاً عن رجوع الإمام عن منهج عبدالله بن سعيد بن كلاّب ؟.
عند الرجوع إلىكتب التاريخ لا نجد أي إشارة إلى هذا لا من قريب ولا من بعيد , بل نجد المؤرخينكلهم مطبقين على أن الإمام أبا الحسن بعد هجره للاعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهبالسلف الصالح , وصنف على طريقتهم كتبه اللاحقة الإبانة وغيرها من الكتب التي صنفهافي نصرة مذهب أهل الحق .
قال الإمام أبوبكر بن فورك رحمه الله تعالى (تبيين كذبالمفتري ص/127 )
( انتقل الشيخ أبو الحسن علي بنإسماعيل الأشعري رضي الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعةبالحجج العقلية , وصنَّف في ذلك الكتب . . ) اهـ .
وقال عنه ابن خلكان ( وفيات الأعيان 3/284)
( هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة . . . وكان أبو الحسن أولاً معتزلياً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجدالجامع بالبصرة يوم الجمعة ) اهـ .
وفي سير أعلام النبلاء ( 15/89) قال عنه الذهبي :
( وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة , وقال : إني كنت أقول بخلق القرآن . . . وإني تائب معتقد الردّ على المعتزلة ) اهـ .
وعند العلامة ابنخلدون رحمه الله ( المقدمة ص/853) :
( إلى أن ظهر الشيخ أبوالحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم ـ أي المعتزلة ـ في مسائل الصلاح والأصلح , فرفضطريقتهم وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّب وأبي العباس القلانسي والحارثالمحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ) اهـ .
فأثبت أن الإمام بعدرجوعه عن الاعتزال كان على رأي عبدالله بن كلاّب والقلانسي والمحاسبي وهؤلاء كلهمعلى طريقة السلف والسنة .
وهكذا كل كتب التاريخ التي ترجمت للإمام أبي الحسن , مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي , وطبقات الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لابنالعماد والكامل لابن الأثير وتبيين كذب المفتري لابن عساكروترتيب المدارك للقاضيعياض وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة وطبقات الشافعية للأسنوي والديباج المذهب لابنفرحون ومرآة الجنان لليافعي وغيرها , كلها مطبقة على أن الإمام أبا الحسن بعد توبتهمن الاعتزال رجع إلى مذهب السلف والسنة .
أضف إلى ذلك , أن رجوع الإمامالمزعوم هذا لو ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه وتلامذته , لأنأولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته وأصحابه وأتباعه الملازمون له , فهؤلاء هم أقربالناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه , لا سيما في قضية مهمة مثل هذه القضيةالتي تتوفر الدواعي على نقلها , وتتحفز الأسماع على تلقفها، خاصة من إمام كبير مثلالإمام أبي الحسن , وعند الرجوع إلى أقوال أصحابه وأصحاب أصحابه أيضاً لا نجد أيإشارة تفيد ذلك, بل نجدهم متفقين على أن الإمام كان بعد هجره للاعتزال على منهجالسلف والسنة الذي كان عليه المحاسبي وابن كلاب والقلانسي والكرابيسي وغيرهم , فهذهمؤلفات ناصر مذهب الأشعري القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى كالإنصافوالتمهيد وغيرها ، ومؤلفات ابن فورك ومؤلفات أبي بكر القفال الشاشي وأبي إسحقالشيرازي وأبي بكر البيهقي وغيرهم من أصحاب الإمام وأصحاب أصحابه ليس فيها أي ذكرأو إشارة لهذا الأمر الذي هو من الأهمية بمكان , فهل يعقل أن يرجع الإمام عن مذهبهويهجره ثم لا يكون لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد من أصحابه وتلاميذه وهو منهو جلالة وقدراً ؟! أم تُراه قد رجع عن ذلك سرّاً وهو الذي حين قرر هجر مذهبالمعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نفسه ليعلن ذلك على الملأ ؟!
كلا, ليس الأمركما جاء في هذه الدعوى , بل الحق الذي لا مرية فيه هو أن الإمام لم يمرّ في حياتهإلا بمرحلتين , الاعتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف , وليس لمن يقول بخلاف هذا الأمرمن متمسك .
ومن يقول بهذه الدعوى يعتمد في قوله هذا على أسلوب الإمام فيتأليف كتاب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى , فقد اتبع الإمام فيها طريق التفويض الذيهو طريق جمهور السلف , فبنوا على هذا الأسلوب مخالفة الإمام الأشعري لآراء ابنكُلاّب الذي يتهمونه بأنه لم يكن على طريق السلف .
تُرى هل ما في الإبانة التي هي على طريق جمهور السلف , وهي من أواخـر كتب الإمام أو هـي آخرها (2) , ما يناقض ما كان عليه عبدالله بن سعيدبن كلاّب ؟ أو بتعبير آخر , هل كان ابن كلاّب على خلاف طريق السلف الذي ألَّفالإمام الأشعري الإبانة عليه ؟ وهذا يجرُّنا إلى القضية الثانية .
الردعلى القضية الثانية :
هل كان عبدالله بن سعيد بن كلاّب منحرفاً عن طريق السنةوالسلف ؟
نسلمأولاً أن الإمام الأشعري بعد تركه للاعتزال كان على طريق عبدالله بن سعيد بن كلاب , وهذا أمر يوافقنا عليه أصحاب الدعوى , ولكنهم يخالفوننا في أن طريق ابن كلاب وطريقالسلف هما في حقيقة الأمر طريق واحد , لأن ابن كلاب كان من أئمة أهل السنة والجماعةالسائرين على طريق السلف الصالح .
قال التاج السبكي في الطبقات ( الطبقات 2 /300 ) :
( وابن كلاّب على كل حال من أهل السنة . . . . ورأيت الإمام ضياء الدين الخطيب والدالإمام فخر الدين الرازي قد ذكر عبدالله بن سعيد في آخر كتابه "غاية المرام في علمالكلام " فقال : ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد التميميالذي دمّر المعتزلة في مجلس المأمون وفضحهم ببيانه ) اهـ.
ونقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى عنالإمام ابنالقابسي رحمه الله تعالى وهو من كبار أئمة المالكية في المغرب قوله ( تبيين كذبالمفتري ص/123 , 405 )
( قرأت بخطِّ على بن بقاء الورّاق المحدث المصري رسالةكتب بها أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني الفقيه المالكي , وكان مقدَّم أصحابمالك رحمه الله بالمغرب في زمانه , إلى علي بن أحمد بن إسماعيل البغدادي المعتزليجواباً عن رسالة كتب بها إلى المالكيين من أهل القيروان يظهر نصيحتهم بما يدخلهم بهفي أقاويل أهل الاعتزال , فذكر الرسالة بطولها في جزءٍ وهي معروفة , فمن جملة جوابابن أبي زيد له أن قال : ونسبتَ ابن كلاّب إلى البدعة , ثم لم تحكِ عنه قولاً يعرفأنه بدعة فيوسم بهذا الاسم , وما علمنا من نسب إلى ابن كلاّب البدعة , والذي بلغناأنه يتقلّد السنة ويتولّى الردَّ على الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعني عبدالله بنسعيد بن كلاّب ) اهـ .
وهذه شهادة عظيمة من الإمام ابن أبي زيد رحمه الله لابنكلاب أنه يتقلَّد السنة ويردُّ على المبتدعة , وأنه لم يعلم من نسب إليه البدعة .
وعلّقالعلامة الكوثري رحمه الله تعالى في هامش الصفحة معرِّفاً بابن كلاب قال ( المصدرالسابق ) : ( . . كان إمام متكلمة السنة في عهد أحمد , وممن يرافق الحارث بن أسد , ويشنع عليه بعض الضعفاء في أصول الدين .. ) ثم بيّن المسائل التي يشنع عليه بسببهاوأن كلامه فيها ليس ببعيد عن الشرع والعقل .
وقال ابن قاضي شهبة ( طبقات الشافعيةلابن قاضي شهبة 1 / 78)
( كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة ، وبطريقته وطريقةالحارث المحاسبي اقتدى أبو الحسن الأشعري ) اهـ.
وقال عنه جمال الدين الأسنوي ( طبقاتالشافعية للأسنوي 2 /178 )
(كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة . . . ذكره العباديفي طبقة أبي بكر الصيرفي ، قال : إنه من أصحابنا المتكلمين ) اهـ.
وقال الإمام الحافظ الذهبي (سير أعلام النبلاء 11 /175)
( والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة ، بل هو في مناظريهم ) اهـ.
علّقالشيخ شعيب الأرنؤوط على هذا الكلام قائلاً : ( كان إمام أهل السنة في عصره ، وإليهمرجعها ، وقد وصفه إمام الحرمين في كتابه " الإرشاد " بأنه من أصحابنا ) اهـ.
ولقد مر معنا قول العلامة ابن خلدون ( المقدمة ص / 853 )
( إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري . . . . وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّبوأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ) اهـ.
فوصفهبأنه من أتباع السلف , وأن الإمام الأشعري كان على رأيه ورأي القلانسي والمحاسبيوهؤلاء من أتباع السلف وعلى طريق السنة .
وقال العلامة كمال الدين البياضي رحمهالله تعالى ( إشارات المرام من عبارات الإمام ص/23 )
( لأن الماتريدي مفصّل لمذهب الإمام ـ يعني أبا حنيفة ـ وأصحابِه المظهرين قبلالأشعري لمذهب أهل السنة , فلم يخلُ زمان من القائمين بنصرة الدين وإظهاره . . وقدسبقه ـ يعني الأشعري ـ أيضاً في ذلك ـ يعني في نصرة مذهب أهل السنة ـ الإمام أبومحمد عبدالله بن سعيد القطان . . ) اهـ .
أي أن الإمام ابن كلاب كان قبل الإمامأبي الحسن في نصرة الدين وإظهار السنة .
وقال الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان 3 /291) في ترجمته , بعد أن نقل قول ابن النديم : إنـه ـ يعني ابن كلاب ـ منالحشوية .
قال الحافظيريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويلللآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات ، ويقال لهم المفوضة ) اهـ.
وقال الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى ( الملل والنحلص81 )
( حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلابي وأبيالعباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف , إلا أنهمباشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية , وصنَّف بعضهمودرَّس بعضٌ , حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائلالصلاح والأصلح , فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة , فأيَّد مقالتهم بمناهجكلامية , وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة , وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية ) اهـ .
بل نزيد على ما مرَّ ونقول : ليس الإمام الأشعري وحدهالذي كان على طريق الإمام ابن كلاب , كلا , بل كان على نفس المعتقد أئمة كبار مثلالإمام البخاري رحمه الله تعالى .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ( الفتح 1/293 )
( البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدةوالنضر بن شميل والفراء وغيرهم , وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له منالشافعي وأبي عبيـد وأمثالهـما , وأما المسائـل الكلامية فأكثرها من الكرابيـسيوابن كُـلاَّب ونحـوهما ) اهـ .
هذه نصوص واضحة بينة في أن الإمام عبدالله بن سعيد بنكلاب كان على طريق السلف والسنة
فإذا كان الأمر كذلك كما بيّن هؤلاء الأئمة , فما السببفي اتهامه بمخالفة طريق السلف ؟.
يقول ابن عبدالبر في بيان سبب ذلك أثناء ترجمة الإمامالكرابيسي ( الانتقاء ص/ 165 )
( وكانت بينه ـ يعني الكرابيسي ـ وبين أحمد بن حنبل صداقةوكيدة , فلمّا خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة , فكان كلُّ واحد منهما يطعنعلى صاحبه , وذلك أن أحمد كان يقول : من قال القرآن مخلوق فهو جهمي , ومن قالالقرآن كلام الله ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي , ومن قال لفظي بالقرآنمخلوق فهو مبتدع . وكان الكرابيسي وعبدالله بن كلاّب وأبو ثور وداود بن عليوطبقاتهم يقولون : إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته لا يجوز عليه الخلق , وإن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق وإنه حكاية عن كلامالله . . . وهجرت الحنبلية أصحاب أحمد بن حنبل حسيناً الكرابيسي وبدّعوه وطعنواعليه وعلى كل من قال بقوله في ذلك ) اهـ .
هذا هو سبب الطعن والتشنيع على عبداللهبن كلاّب ووصْـفِه بأنه لم يكن على طريق السنة والسلف , إلا أن هذا القول الذيبُـدّع بسببه لا يقتضي وصفه بالبدعة أو أنه على غير طريق السلف , لا سيما أن مسألةاللفظ بالقرآن كان يقول بها ثلة من أكابر أمة الإسلام مثل الذين ذكرهم ابن عبدالبر , وممن كان يقول بذلك أيضاً الإمام البخاري والإمام مسلم والحارث المحاسبي ومحمد بننصر المـروزي وغيرهم , وما الفتنة التي حدثت بين البخاري وشيخه الذهلي إلا بسبب هذهالمسألة , نعني مسألة اللفظ , ولقد صنّف الإمام البخاري في هذه المسألـة كتابـه " خلق أفعال العباد " لإثبات رأيه فيها والردّ على مخالفيه .
أماالإمام مسلم فقد كان يظهر القول باللفظ ولا يكتمه . ( انظر سير أعلام النبلاء 12 /453 وما بعدها , 12/572 ) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في ترجمة الكرابيسي ( طبقات الفقهاء الشافعيين 1/133)
( وأن أحمد بن حنبل كان تكلم فيه بسببمسألة اللفظ , وكان هو أيضاً يتكلم في أحمد , فتجنَّب الناس الأخذ عنه لهذا السبب . قلت : الذي رأيت عنه أنه قال كلام الله غير مخلوق من كل الجهات إلا أن لفظي بالقرآنمخلوق , ومن لم يقلْ : إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر . وهذا هو المنقول عنالبخاري وداود بن على الظاهري , وكان الإمام أحمد يسدُّ في هذا البابَ لأجل حسممادة القول بخلق القرآن ) اهـ .
وممن كان يقول باللفظ أيضاً الإمام محمد بن جرير الطبريرحمه الله تعالى , وهي من المسائل التي نقم عليه بسببها بعض متعصبة الحنابلة
, قالالحافظ ابن كثير رحمـه الله تعالى ( المصدر السابق 1/226 )
( كانقد وقع بينه ـ الطبري ـ وبين الحنابلة أظنه بسبب مسألة اللفظ , واتهم بالتشيع , وطلبوا عقد مناظرة بينهم وبينه , فجاء ابن جرير لذلك ولم يجئ منهم أحد , وقد بالغالحنابلة في هذه المسألة وتعصبوا لها كثيراً , واعتقدوا أن القول بها يفضي إلىالقول بخلق القرآن , وليس كما زعموا , فإن الحق لا يحتاط له بالباطل , والله أعلم ) اهـ .
( وانظر في محنة ابن جرير مع الحنابلة البداية والنهاية 11/145 , الكامل لابن الأثير 7/8 , السير 14/272 ـ 277 , الوافي بالوفيات 2/284 ) .
نعم , فإن القرآن كلام الله تعالى غيرمخلوق وهو صفة من صفات ذاته العلية , إلا أنه لا يصحَّ أن يحتاط لهذا الحق بالباطلالذي هو إنكار حدوث وخلق ما قام بالمخلوق , ثم التشنيع على من يقول بذلك !
على أية حالفإن الحق في هذه القضية مع الكرابيسي وابن كلاّب والبخاري ومسلم وأبي ثور وداودوالمحاسبي والطبري وغيرهم ممن كان على طريقهم ، أما الإمام أحمد رضي الله عنه ـ ومنقال بقوله ـ فكلامه محمول على سدّ باب الذريعة لكي لا يتوسل بالقول باللفظ إلىالقول بخلق القـرآن .
قال الإمام الذهبي ( السير 12/82 ، وانظر أيضاً السير 11/510 ) :
( ولا ريب أنما ابتدعه الكرابيسي وحرره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ، لكن أباه الإمام أحمدلئلا يُتذرع به إلى القول بخلق القرآن فسدّ الباب ) اهـ.
وقال أيضاً ( ميزان الاعتدال 1/544 )
( وكان يقول ـ يعني الكرابيسي ـ القرآن كلام الله غير مخلوق , ولفظي به مخلوق , فإنعنى التلفظ فهذا جيد , فإن أفعالنا مخلوقة , وإن قصد الملفوظ بأنه مخلوق فهذا الذيأنكره أحمد والسلف وعدّوه تجهماً ) اهـ .
ولا ريب أن مراد الكرابيسي وابن كلاّبوالبخاري ومسلم وأبي ثور وداود ومن كان على قولهم لاريب أن مرادهم هو الأول , وعلىالجملة فإن القضية أهون من أن يُبـدَّع من أجلها .
قال الحافظ الذهبي ( السير 11/510)
بعد أن نقل قول الحافظ أبي بكر الأعين : مشايخ خراسانثلاثة قتيبة , وعلى بن حجر , ومحمد بن مهران الرازي , ورجالها أربعة عبدالله بنعبدالرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري قبل أن يظهر منه ما ظهر . . . الخ
قال الذهبيمعلّقاً عليه : ( والذي ظهر من محمد ـ يعني البخاري ـ أمرٌ خفيف من المسائل التياختلف فيها الأئمة في القول في القرآن وتسمّى مسألة أفعال التالين , فجمهور الأئمةوالسلف والخلف على أن القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق وبهذا ندين الله ) اهـ .
ولا يلزممن هجر الإمام أحمد لهؤلاء الأئمة أن يكونوا على غير طريق السلف , لا سيما أن الحقمعهم فيما ذهبوا إليه كما قرَّرَه الإمام الذهبي , كما أننا متيقنون بأنهم رحمهمالله تعالى لم يقولوا هذا القول دون أن تدعو لذلك حاجة , كلا , وحاشاهم أن يتكلموابشيء سكت عنه الصحابة والتابعون , لكنهم لمَّا رأوا الناس تقحموا هذا الباب , وخاضوا في هذا الأمر , وحملوه على غير وجهه , اضطروا إلى الكلام فيه تبياناً للحق , وكفّاً للناس عن ذلك .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى ( في تعليقه علىتبيين كذب المفتري هامش(2) من الصفحة / 406 )
( أما كلام أحمد في ابن كلاب وصاحبهفلكراهته الخوض في الكلام وتورُّعِه منه , ولكن الحق أن الخوض فيه عند الحاجةمتعيِّنٌ على خلاف ما يرتئيه أحمد ) اهـ .
على أن الأمر خفيف كما وصفه الحافظالذهبي , وأن هذه المسألة مما اختلفت فيها أقوال الأئمة , وهم متفقون جميعاً على أنالقرآن الذي هو صفة الرحمن وكلامه تعالى غيرمخلوق .
بهذا يتبين أن الإمام ابن كلاّب لم يكنوحده في هذا الأمر الذي ذهب إليه , بل كان على رأيه كبار أئمة الدين , وبهذا أيضاًيُعلم أنه لم يبتدع أو يخالف منهج السلف والسنة , بل هو من أكابر أهل السنةوالجماعة السائرين على خطى السلف الصالح كما مرّ من أقوال العلمـاء فيه .
فإذا كانالأمر كذلك , فمن أين جاء القول بأن الإمام الأشعري قد ترك طريقته وآراءه ؟ وهذاالسؤال يجرنا إلى الحديث عن القضية الثالثة .
الردّعلى القضية الثالثة :
كتابالإبانة هو متمسك ومعتمد من يقول بمرور الإمام الأشعري بثلاث مراحل في حياته , والذي لا ريب فيه أن الإمام قد سلك في هذا الكتاب وفي غيره من الرسائل التي نسبت لهأسلوباً مختلفاً في التأليف , فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور السلف في المتشابهات , نعني بذلك أنه قد أخذ بطريق التفويض , ففهم البعض من ذلك أن الإمام قد رجع عنطريق ابن كلاب الذي كان عليه إلى طريق السلف !
ونحن قد أثبتنا في الحديث حول القضيةالثانية أن ابن كلاب لم يكن مخالفاً للسلف بل هو منهم وعلى طريقهم , وهذا كافٍ فيالردِّ لمن تأمل وأنصف .
لكننا نزيد على ذلك ونقول :
إن كتاب الإبانة الذي هو معتمد أصحابهذه الدعوى , وهو الدليل عندهم على رجوع الإمام عن طريق ابن كلاب , نقول : إن هذاالكتاب بذاته ينقض دعوى رجوع الإمام عن هذا الطريق , لأنه مؤلَّف على طريقة ابنكلاّب وعلى منهجه .
قال الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان 3/291 ) ـ وقدمرّ قريباً ـ تعليقاً على وصف ابن النديم لابن كلاّب بأنه من الحشوية , قال الحافظ : ( يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفاتويقال لهم المفوضة , وعلى طريقته ـ يعني ابن كلاّب ـ مشى الأشعري في كتاب الإبانة ) اهـ .
وهذايزيد اليقين بأن الإمام ابن كلاب كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم , لأنالإبانة التي ألَّفها الإمام الأشعري في آخر حياته ـ تبعاً لمن يزعم ذلك ـ على منهجالسلف هي مؤلَّفة على طريقة الإمام ابن كلاب , وهذا يقتضي قطعاً أن طريق السلفوطريق ابن كلاب هما في حقيقة الأمر طريق واحد وهو ما كان عليه الإمام الأشعري بعدرجوعه عن الاعتزال , أي أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل في حياته , بل هما مرحلتانفقط , مرحلة الاعتزال ثم أعقبتها مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابنكلاب والمحاسبي والقلانسي والكرابيسي والبخاري ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم , وهيالمرحلة التي ألَّف الإمام فيها كتاب الإبانة .
ويُروى أن الإمام الأشعري عندما ألَّفالإبانة رفضها بعض حنابلة (3) بغداد تعصّبـاً ولـم يقبلـوها منـه ( انظرسيرأعلامالنبلاء 15/90 , طبقات الحنابلة 2/18 , الوافـي بالوفيات 12/146 ) ولعـل هـذا يؤيدما مرَّ من أن الإبانة مؤلَّفة على طريقة ابن كلاب الذي هجره بعض الحنابلة فيمنهجروه من الأئمة لأجل مسألة اللفظ وأخذهم بعلم الكلام للرد على المخالفين منالمعتزلة وغيرهم .
وهذا الذي ذكرناه عن كتاب الإبانة , إنما أردنا بهالإبانة التي صنّفها الإمام , وليست الإبانة المتداولة والمطبوعة اليوم , وذلك لماحدث على هذا الكتاب من التحريف والنقص والزيادة .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى فيمقدمة كتاب " تبيين كذب المفتري " :
( والنسخة المطبوعة في الهند منالإبانة نسخة مصحفة محرفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة , فيجب إعادة طبعها من أصلموثوق ) اهـ .
وقال أيضاً ( مقدمته على كتاب إشارات المرام من عباراتالإمام للعلامة البياضي ) :
( ومن العزيز جدّاً الظفر بأصلٍ صحيح من مؤلفاته علىكثرتها البالغة , وطبْعُ كتاب الإبانة لم يكن من أصل وثيق , وفي المقالات المنشورةباسمه وقفة ) اهـ .
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الدكتورعبد الرحمن بدوي مؤيداًللعلامة الكوثري ( مذاهب الإسلاميين 1/516 ) قال :
( وقد لاحظ الشيخ الكوثري بحق أنالنسخة المطبوعة في الهند . . تلاعبت بها الأيدي الأثيمة. . ) اهـ . كما لاحظ ذلكغيرهم من الدارسين ( انظر مذاهب الإسلاميين 1/517 وما بعدها ) ,
وللشيخ وهبيغاوجي حفظه الله رسالة في هذا الموضوع بعنوان " نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانةجميعه إلى الإمام أبي الحسن " أتى فيها بأدلة موضوعية تدل على أن قسماً كبيراً ممافي الإبانة المتداولة اليوم بين الناس لا يصح نسبته للإمام الأشعري .
وقد طبعكتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين , وهي طبعةوإن كانت أحسن حالاً من المطبوعة قبلُ إلا أنها لم تخلُ من التحريف والنقص والزيادةأيضاً , وهذا لعله يصحح ما ذهب إليه العلامة الكوثري رحمه الله تعالى حين قال ( ومنالعزيز جدّاً الظفر بأصلٍ صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة ) .
وقد نقلالحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتاب تبيين كذب المفتري فصلين من الإبانة , وعند مقارنة الإبانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية مع الفصلينالمنقولين عند ابن عساكر يتبين بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب .
وهذه بعضالأمثلة على ذلك :
* جاء في الإبانة المطبوعة ص/16 ما نصُّه ( وأنكروا أنيكون له عينـان مـع قولـه تجري بأعيننا . . ) اهـ هكذا بالتثنية !
* وعند ابنعساكر ص/ 157 ( وأنكروا أن يكون له عين . . . ) بإفراد لفظ العين .
* وجاء فيالمطبوعة ص/18 ( وأن له عينين بلا كيف . . )
* وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/22 ( وأنله سبحانه عينين بلا كيف ) هكذا , كلاهما بالتثنية !
* وعند ابن عساكر ص/ 158 ( وأن لهعيناً بلا كيف . . ) بإفراد لفظ العين .
والإفراد هو الموافق للكتاب والسنةوأقوال السلف , وهذا نصٌّ واضح في التلاعب بنسخ الكتاب , ولفظ العينين لم يردْ فيالقرآن ولا في السنة , ومن ثنَّى فقد قاس الله تعالى على المحسوس المشاهد من الخلقتعالى الله وتقدس عن ذلك .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتابالأسماء والصفات للبيهقي فيهامش ص/313
( لم ترد صيغة التثنية في الكتاب ولافي السنة , وما يروى عن أبي الحسن الأشعري من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر إلى نقلالكافة عنه ) ثم قال : ( قال ابن حزم : لا يجوز لأحد أن يصف الله عز وجل بأن لهعينين لأن النص لم يـأت بـذلك ) اهـوقال ابن عقيل معلقاً على حديث الدجال ( دفع شبه التشبيهص/263 ) :
( يحسب بعض الجهلة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما نفىالعور عن الله عز وجل أثبت
من دليل الخطاب أنه ذو عينين , وهذا بعيد من الفهم , إنمانفى العور من حيث نفي النقائص . . ) اهـ .
وقال ابن الجوزي في الرد على من أثبتلله تعالى عينين ( دفع شبه التشبيه ص/114 ) :
( قلت : وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه , وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام : " وإن الله ليسبأعور " وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى ) اهـ .
ومن أمثلة التحريف فيه أيضاً القدحبالإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه :
فقد جاء في الإبانة المطبوعة ص/ 57 ( وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن سليمان بن عيسى القاري عن سفيانالثوري , قال : قال لي حماد بن أبي سليمان : بلِّغ أبا حنيفة المشرك أنِّي منه بريء . قال سليمان : ثم قال سفيان : لأنه كان يقول القرآن مخلوق .
وذكر سفيانبن وكيع قال عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي قال : الكلام الذي استتاب فيهابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله : القرآن مخلوق . قال : فتاب منه وطاف به في الخلق . قال أبي : فقلت له كيف صرت إلى هذا ؟ قال : خفت أن يقوم عليّ , فأعطيته التقيّـة .
وذكرهارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي أنحمّاداً ـ يعني ابن أبي سليمان ـ بعث إلى أبي حنيفة : إني بريء مما تقول , إلا أنتتوب . وكان عنده ابن أبي عقبة , قال , فقال : أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلىما استتيب منه بعد ما استتيب .
وذكر عن أبي يوسف قال : ناظرت أبا حنيفة شهرين حتى رجع عنخلق القرآن ) اهـ .
ترى هل نحن بحاجة إلى إثبات كذب مثل هذه الأخبار وأنهامدسوسة في كتاب الإمام الأشعري , أم أنه يكفي عزوها إلى الإبانة المطبوعة لكي يُعلمتحريفها وتلاعـب الأيـدي فيها ؟!
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/90 , 91 جاء بعد الخبر الأولبعد قول سفيان : لأنه يقول القرآن مخلوق . ما نصُّه : ( وحاشى الإمام الأعظم أبوحنيفة رضي الله عنه من هذا القول بل هو زور وباطل فإن أبا حنيفة من أفضل أهل السنة ) اهـ .
وجاءفيها بعد قول ابن أبي عقبة : أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه لما استتيب منه بعد مااستتيب . ما نصُّه : ( وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي الله عنه ) اهـ .
قالالعلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة , في هامش ص/ 49
ما نصُّه ( ومن غريب التحريف ما دُسَّ في بعض نسخ الإبانةللأشعري كما دُسَّ فيها أشياء أخر من أن حمّاد بن أبي سليمان قال " بلِّغ أبا حنيفةالمشرك أني بريء من دينه " وكان يقول بخلق القرآن . فإن لفظ حمّاد " بلّغ أبا فلان " لا أبا حنيفة ! كما في أول خلق الأفعال للبخاري , وجعل من لا يخاف الله لفظ " أباحنيـفة " فـي موضـع " أبا فلان " والله أعلم من هو أبو فلان هذا , وما هي المسألة . . ) اهـ
وقال الشيخ وهبي غاوجي حفظه الله ( نظرة علمية في نسبةكتاب الإبانة جميعه . . . ص/20 ) :
( ولا بأس أن نقول : لو كان الإمامالأشعري رحمه الله تعالى نسب حقاً إلى الإمام ـ يعني أبا حنيفة ـ القول بخلق القرآنلما كان للإمام الأشعري تلك المكانة العالية عند الحنفية أتباع الإمام أبي حنيفةرحمه الله تعالى . فلا تلتفت أيها القارئ إلى تلك النقول المبتورة مبتدأً والباطلةسنداً , وأحسن الظن بالإمام الأشعري كما تحسن الظن بإمام الأئمة الفقهاء وسائرالأئمة رضوان الله تعالى عليهم . وتذكر أنه أُدخِل الكثيرُ من الأباطيل على حديثرسول الله صلى الله عليه وسلم , رُكّبت لها أسانيد باطلة , لكلمات باطلة كذلك . ولاتنس أنه حُشِر في كتب كثير من العلماء كلماتٌ وعبارات وحذف منها كلمـات وعبارات حتىفي حيـاة أصحابها ) اهـ .
ومن هذه الأمثلة أيضاً ما جاء في الطبعة المتداولة عندذكر الاستواء ص/69 ( إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له نقول : إن اللهعز وجل مستوٍ على عرشه كما قال { الرحمن على العرش استوى } . . )
وفي طبعةالدكتورة فوقية ص/105 ( . . نقول إن الله عز وجل استوى على عرشه استواءً يليق به منغير حلول ولا استقرار . . )
فالعبارة الأخيرة محذوفة من الطبعة المتداولة !!
وفيص/73 من الإبانة المتداولة ( فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشـه , والسماء بإجماع الناس ليست الأرض , فدل على أن الله تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍعلى عرشه ) اهـ
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/113 ( فدل على أنه تعالى منفردبوحدانيته مستوٍ على عرشه استواءً منزهاً عن الحلول والاتحاد ) اهـ .
إلى غير ذلكمن عشرات الأمثلة الدالَّة دلالة قاطعة على تحريف الكتاب , والقاضية بعدم جوازاعتبار معظمه ممثلاً لعقيدة الإمام الأشعري إلا في ما وافقت فيه قول الكافة من أهلالعلم والنقل عنه .
فإذا ثبت ـ كما مرَّ معنا ـ تاريخيّاً أن الإمام بعدرجوعه عن الاعتزال كان على منهج السلف وأهل السنة , وإذا ثبت أيضاً أن الإمام ابنكلاب كان من أئمة السلف وعلى نهـج السنة , وإذا ثبت أيضاً أن كتاب الإبانة الذيبنيت عليه هذه الدعوى من أساسها هو في حقيقة الأمر مؤلف على طريقة ابن كلاب التي هيذاتها طريقة السلف , إذا ثبت ذلك ثبت بناءً عليه أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل فيحياته , وإنما هما مرحلتان مرحلة الاعتزال في بداية حياته ثم مرحلة عودته ورجوعهإلى طريق السلف .
ولا نعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليلاً على ما ذهب إليهإلا الاعتماد على أسلوب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى والطريقة التي كتبت عليها , لأن الإمام قد سلك في الإبانة طريق التفويض , وهي طريقة جمهور السلف , وهي فيحقيقتها لا تنافي بينها وبين طريق التأويل بشرطه , والأشاعرة يعتقدون كل ما فيالإبانة ـ نعني الإبانة الصحيحة التي كتبها الإمام وليست الإبانة المحرفة ـ ويعقدونعليه خناصرهم , إذ كلٌّ من التفويض والتأويل حق لا اعتراض عليه , وكلا الطريقينمأثور عن الصحابة والسلف كما سيأتي بيانه , وكلا الطريقين متفقان على التنزيه بعدإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه , وكلاهما متفقان على استبعاد الظاهر وما يعهدهالخلق من عالمهم .
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى ( التبيين ص/388 ) :
( بل هم ـيعني الأشاعرة ـ يعتقدون ما فيها ـ أي الإبانة ـ أسدّ اعتقاد , ويعتمدون عليها أشدّاعتماد , فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة , لكنهم يثبتونله سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات , ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات , وبماوصفه به نبيّه صلى الله عليه وسلم في صحيح الروايات , وينزهونه عن سمات النقصوالآفات ) اهـ . وهذا الذي قاله الحافظ ابن عساكر منطبق على كتاب الإبانة الذي ألفهالإمام , أما ما يوجد اليوم في أيدي الناس منها فلا ثقة به ولا يصح أن يمثل ـ فيالغالب ـ اعتقاد الإمام أو الأشاعرة كما أثبتنا ذلك , إلا فيما وافق قول الكافة .
وقالأيضاً رحمه الله تعالى ( تبيين كذب المفتري ص/389) :
( ولم يزل كتاب الإبانة مُستصوباً عندأهل الديانة , وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشارالبوشنجي المعروف بالخسروجـردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه أن الإمام أباعثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلسدرسه إلا وبيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري , ويظهر الإعجاب به , ويقول : ماذاالذي يُنكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه . فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيانأهل الأثر بخراسان . ) اهـ .
فانظر إلى قدر كتاب الإبانة وصاحبه عند أعلام الأمة , فهذا شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى وهو من هو جلالة وعلماًوزهداً (4) يثني هذا الثناء العاطر على الإمام أبي الحسن وكتابه الإبانة , ومنهتعلم أن شيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني أيضاً كان على طريق الإمام الأشعري , كيفلا وقد تولّى تربيته وتهذيبه الإمام أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي , وهو ـ أبوالطيب ـ من طبقة أصحاب أصحاب الإمام الأشعري , أي من الطبقة الثانية , وكان يحضرمجالس أبي عثمان أئمةُ الوقت كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ الإمام أبيبكر بن فورك وسائر الأئمة , وهؤلاء من أعلام أمة الإسلام من السادة الأشاعرة , وثناؤهم عليه وثناؤه عليهم يدلّ على أنهم على طريق واحد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم . ( انظر ترجمة شيخ الإسلام الصابوني في تاريخ مدينة دمشق 9/3 , سير أعلام النبلاء 18/40 , الطبقات الكبرى للتاج السبكي 4/271 )
بعد كل ما مرَّ , وبعد كل هذه الأدلة , هل يصح وفقاً للمنهج العلمي للبحث أن تهمل جميع هذه البراهين التاريخية والعقليةوالعلمية , ثم يؤخذ بكلام استنباطي لا يرقى إلى مستوى الظن , وليس له ما يؤيده منالنقل والعقل ؟!
ولو بالغنا واعتبرنا ما اعتمدت عليه هذه الدعوى دليلاًلما أمكن الأخذ به علمياً لأن الدليــل
متى ما تطرق إليه الاحتمال كساه ثوب الإجمال وسقط بهالاستدلال , كما هو مقرر في علم
الأصول , هذا إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال مجرد تطرق , فكيف يكون الحال إذا قارب هذا الاحتمال حدَّ اليقين كما مرَّ من أدلـة تحريفالإبانة ؟!
بيد أننا سنبالغ في الافتراض ونقول : هَبْ ـ جدلاً ـ أنكتاب الإبانة المتداول غير محرَّفٍ , وأنه ثابت النسبة إلى الإمام الأشعري , وأنهقد رجع فعلاً عن ما كان يعتقده من التـنـزيـه
فهل يلزم الأمة أن تتابعه في هذا الأمر؟!
إن منيعتقد ذلك يسيء الظن بعقول أكثر من عشرة قرون من العلماء والأئمة , وينسبهم إلىالتقليد الأعمى في العقائد , ويغيب عنه أن الأمة نُسِبت إلى الإمام الأشعري من حيثكونه وقف حاملاً لواء السنة على طريق السلف في وجه أصحاب البدع والأهواء , لا لأنهمقلّدوه في ما ذهب إليه , فمتى ما رجع عن اعتقاده رجعوا ! كلا .
فهم فيالحقيقة منتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح , وما الإمامالأشعري رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة إلا أدلاّء على الطريق .
ومن يروجلمثل هذه الدعاوى يريد أن يقول بلسان حال هذه الدعوى وأمثالها أن هذا الذي رجع عنههؤلاء الأكابر لو كان حقاًّ ما رجعوا عنه ! فالحق عنده يعرف بمن قال به وتبناه وليسبما اعتضد به من أدلة وبراهين ! وهل أُتِيَ من أتِيَ إلا من قبل هذا الأمر الذي هوتعظيم الكبراء إلى الحدِّ الذي أعمى أعينهم عن الأخطاء , فاتبعوهم مقلدين لهم فيأخطائهم معتقدين أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل ولا يتطرق إليه .
ولله درُّالإمام ابن الجوزي ما أصدق عبارته فقد أصاب رحمه الله تعالى المحزّ وطبّق المفصلحيث قال ( صيد الخاطر ص/187 ) :
( قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه : من ضيق علم الرجلأن يقلد في دينه الرجال . فلا ينبغي أن تسمع من مُعَظَّمٍ في النفوس شيئاً فيالأصول فتقلده فيه , ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة , فقل : هذا منالراوي , لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء
من رأيه . فلو قدَّرنا صحته عنه فإنهلا يُقَلَّد في الأصول , ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما . فهذا أصلٌ يجبالبناء عليه , فلا يهولنَّك ذكرُ معظَّمٍ في النفوس ) اهـ .
لقدأطنبنا في مناقشة هذه القضية , وما كنا لنفعل ذلك لولا أن تمسك بها البعض واعتبرهاأمراً مسلَّماً ثم ذهب يبني عليها ويؤسس , فاقتضى الأمر التفصيل , وإلا فإن القضيةأهون من ذلك بكثير , إذ كان يكفينا مؤنة النقاش القول المأثور ( البينة على من ادعى ) ولا بينة ثمَّ ولا قرينة .
ومهما عظُمَ قدرُ القائل بهذه الدعوى فإنه لن يغير من شأنالحقيقة شيئاً , لأن أي دعوى إنما هي تبعٌ للبراهين والأدلة التي تثبتها فتكونحقيقة أو تنفيها فتكون خطأً ووهماً يجب الرجوع عنه , وكلٌّ يؤخذ منه ويردُّ عليهإلا المعصوم صلى الله عليه وسلم , والحق أحق وأثمن ما يطلبه المسلم وإذ علمت هذا ـوفقنا الله تعالى وإياك ـ فَدعْ عنك من قال إذ الحق لا يعرف بالرجال , ولكن اعرفالحق تعرف أهله , وعليك بما قيل إن كان حقاً , وإلاّ فالرجوع إلى الحق أولى منالتمادي في الباطل .
-----------------------------
(1) نحن نقول هذا من بابالتسليم الجدلي , وإلا فإن الذي رجحه المحققون من الباحثين أن كتاب اللمع ألَّفهالإمام الأشعري بعد الإبانة . انظرمقدمة كتاب اللمع للأستاذ حمودة غرابة .
(2) انظر الهامش ص/9 .
(3) قيدنا هذا الرفض بأنه من بعض الحنابلة , لأنه لم تزل طائفة كبيرة من الحنابلة يوالون الإمام الأشعري ويحبونه وينتسبون إليه , قال الحافظ ابن عساكـر في " التبيين " ص/389 أثناء ردّه على الأهوازي الذي استشهدبالقصة من أجل إثبات رفض الحنابلة للإمام الأشعري ولكتابه الإبانة , ما نصّه : ( فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم وأظهروه , ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه ـالإمام ـ كان صديقاً للتميميين سلف أبي محمد رزق الله بن عبدالوهاب ابن عبدالعزيزبن الحارث , وكانوا له مكرمين , وقد ظهر أثر بركة تلك الصحبة على أعقابهم , حتى نسبإلى مذهبه أبو الخطاب الكلوذاني من أصحابهم , وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربييخبر بصحة ما ذكرته وينبي , وكذلك كان ينهم وبين صاحبه أبي عبدالله بن مجاهد وصاحبصاحبه أبي بكر بن الطيب ـ الباقلاني ـ من المواصلة والمؤاكلة ما يدلّ على الاختلاقمن الأهوازي . . ) اهـ . وانظر أيضاً ص/ 163 من نفس الكتاب .
(4) قال عنه التاج السبكي : الملقب بشيخالإسلام , لقبه أهل السنة في بلاد خراسان , فلا يعنون عند إطلاقهم هذه اللفظة غيرَه .