الجزاء على العمد" تابع"
من هذا الأساس عُلم أن الجزاءَ العادل على الأعمالِ مفقودٌ في الدنيا مطلقًا لتعذر إحصاء الأعمال والبواعث والتأثرات، وهذا هو نهاية ما يصل إليه الفكر البشري وطاقته، وهو لا يُرضي النفوس بأي وجه كان، لاسيما إذا كانت ــــ أي النفوس ــــ جاحدة للدار الآخرة والحياة الأبدية فإنّ الوجود حينئذٍ ينحصر عندها في الحياة الدنيا لا غير.
وهي لا تجد جزاءً وفاقًا لأعملها ذات الخير أو ذات الشر، والمعتدي عليه أي المظلوم لا يرضيه ما عينه القانون الوضعي من الجزاء للظالم لوحدة الجزاء مع اختلاف صور المظلمة الشخصية والبواعث والتأثرات، والظالم كذلك لا يرضى مما قضى عليه لهذه العلة عينها.
وأن الجزاء على العمدِ أو ذات الفعل واقع؛ فمن جعل العمد أصلاً والفعل دليلاً عليه أصاب جنس العدل اعتقادًا ولكن خرج عن وسعه عملاً.
ومن جعل الجزاء على ذات الفعل لا العمد أخطأ لإسقاطه ذوات أفعال الضمائر التي لا تعد ولا تحصى وعجز عن تقرير تمام الجزاء لعدم حصر ذوات صور الأفعال الشخصية وأن حصر صورها النوعية.
لا يخفى ما يكون من ذلك الاعتقاد وسوء تأثيره على الأفراد والمجتمعات التي تعرف الحق والعدل وهي جازمة باستحالةِ وجوده، وهي المجتمعات التي لم تكن متديّنة بدين حقٍّ صحيح المبادئ والنتائج.
أما الدين الصحيح العادل فقد ضمن لعموم الأفراد تمام الجزاء على الصور الشخصيةِ للأعمالِ والقصدِ خيرًا كانت أو شرًّا فإن اعتقاد العدل الإلهي وصدق الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ــــ وجزاء كل نفس بما كسبت أو اكتسبت ولو عملت مقدار ذرة خيرٍ أو شرٍّ كقوله تعالى:
" لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وقوله جل في علاه: "
ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره " وقوله عز وجل : "
يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد . " وقوله: "
لا تظلم نفس شيئًا ولا تجزون إلاّ ما كنتم تعلمون " والعديد من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة مؤيدةً ذلك اليقين بحصول العدل الإلهي والثواب والعقاب والخصام والجدال عن النفس والحقوق.
ثم أنّ أهمّ قواعد الدين الاعتقاد الجازم قطعًا بأنّ اللهَ عليمٌ بذات الصدورِ، محيطٌ بكلّ ما كان ويكون من الأعمال الظاهرة أو أفعال الضمائر والنيّات الخفية ودرجتها من الخير والشر وتأثيرها والقصد بحيث لا ينسى شيئًا من ذلك؛ وأنه تعالى لا يحجب علم شيءٍ عنه علم شيء.
واطمأنت الأنفس التي تلتمس العدل الصحيح بالدين الإسلامي إذ تعتقد أن الجزاء على العمد لا على مجرد الفعل، فالجزاء الواقع عليه مرتّبٌ نوعه على نوعه في كل شيءٍ.
أما أفعال الضمائر التي ترتب درجة الأثر الحقيقي في نفس العامل والمعمول معه فليست محصورة ولا ممكنة الحصر والتعريف لقصرِ اللغات عن التعبير، فالجزاء والحالة هذه إمّا دون ما يستحقه العامل مطلقًا للصورة الشخصية من نوعِ عمله والصورة الشخصية للجزاء الذي يقع عليه بأن يكون سوء قصده وعمده أشدُّ مما أمكنه إيقاعه من الفعل.
وإمّا أن يكونَ الجزاء فوق الذي تقتضيه صورة العمل الشخصية بأن يكونَ تعمد سوء القصد دون الفعل الذي وقع. وكذلك الخير فإنه إمّا أن يريد فعل الضمير فيه على العمل الظاهر، وإمّا أن ينقص عنه فيكون الجزاء الممكن كذلك.
وهنا وجه ممكن الحصول لكنه نادر الوقوع جدًّا وهو تساوي صورتي فعل الضمير والعمل الظاهر في الماهية وأثر التأثر؛ فإن كان ذلك فقد استوفى حقه وهو ربما كان واحدًا من عشرة ملايين.
وإن كان الأول أي كان فعل الضمير أشدّ من فعل الظاهر أمن المظلوم على إتمام ما يستحق ظالمه من الجزاء في الدار الأخرى لاستحالة حصول ذلك بتمامه في عالم الدنيا وترقب الظالم العذاب الأخروي من قبل الله المطلع على أفعال ضميره فيضطر إلى الندم والكفّ عن تكثير وكثرة الذنوب، أو إلى طلب السماح والعفو من مظلومه عنه قبل حلول العذاب الإلهي المنتظر له، ويلتمس أفعال الخيرات عسى تغنيه عند الخصام إذا امتنع المظلوم من العفو، وإن الجزاء أشدّ مما كان يستحق الظالم حسب أفعال ضميره فإنه لا ييأس من إعادة حقه له ومكافأته على ما لقي مما لم يستحق ويكون له الأمل المسلّي على ما أصيب به، كالذي لا يستطيع تبرئة لنفسه أو يكون ضميره قليل الشر فزاد العمل كقصد زيد فقتله وما أشبه ذلك.
فإذا لم يكن له إيمانٌ بالدين واليوم الآخر والعرض كانت الحسرة عليه أشدّ حسرات العالم بخلاف المؤمن المسلم المحتسب فإنه ربما سره ذلك لنوال القربى في الدار الآخرة عند الله ، وأمّا إذا كان العمل خيريًّا دون حسب صورته الشخصية فإنه يحتسبه، وإن كان فوق ذلك عانده ضميره في قبوله خيفة العالم الرقيب وكل هذه محروم منها الأمم التي لم تتدين بدينٍ صحيح المبادئ ولم تستفد أحكامها من الشرعِ الإلهي فلهذا يكون الخلف والتضاد العظيم بين حالتيهما الإجتماعية.
... يتبع