التقوى في كل شيءٍ بحسبه
قالوا: أنّ قاعدة الدين الإسلامي في شموله هي مصالح العباد في الدارين، وذلك دفعًا لما قد يتأوّله البعض، حتى لا يذهب بعضهم على أنّ دين الإسلام لم يُؤمر فيه إلاّ بأمر الآخرة والزهد في الدنيا وترك الاشتغال بها، بل التجرد للعبادة فقط.
ورفعًا لما يتوهمه بعض الفلاسفة وخصوصًا جلّ المستشرقين منهم، الذين أرادوا أن يحكموا على الإسلام بما حكموا بها على بعض الأديان الأخرى وخصوصًا " مسيحيّتهم "، وللأسف الشديد تبعهم ودار في فلكهم بعض المحسوبين على الإسلام:
"من أنه ـــــــ أي، الإسلام ــــــ غير صالحٍ لإدارة مصالح الدنيا
ولذلك ــــ كما زعموا ويزعمون ــــــ يلزم التفريق بين الدين والأمور السياسية، من أبسطها إلى أعظم معضلاتها، وكذلك الأمور الإدارية مع كل الحقوق ونظام الحكم بأجمعها، زيادة عن العلوم والفنون والفلسفة منها، وكذلك الصناعات والأمور الفلاحية والأعمال النافعة ".. أهـ
وعندما يتأمل أهل المشورة والرأي في كلامٍ مثلما سبق.
يجد أن كل ذلك ـــ أي، ما ذهب إليه هؤلاء وأولئك ــــــ ما هو سوى كلام باطلٍ وخيالٍ ما أشبه ما يكون هو من الخرافة بمكان.
وكم كان صادقًا بصير معرّة النعمان وهو ينشد ويقول:
والنجمُ تستصغر الأبصار رؤيته ** ولعيب العين لا للنجم في الصغير.
وليس القول سوى أن يقول أي عاقل:
أن جهل هؤلاء بأصول الدين، وكذلك عدم معرفتهم بقواعد التحري والبحث والاستنباط منها، أو تضليل ومغالطة خلق الله وخصوصًا فيما حث عليه ديننا الإسلامي، حتى يكون لهم مسوغًا ليزعموا به " حجة " على " عدم صلاحية الدين " لكل ما يزعمون ويلفقون، وكأنهم يضللون الناس، على أن ما أمر وتكلمّ به الإسلام هي أقوال " خارجة عن دائرة صلاحيته " في الامور السياسية والمدنية.
بينما التمدن الحقيقي نابع من الإسلام في كل مجالات الحياة في الأعمال الدنيوية التي هي الممر بالعمل الصالح إلى الجزاء الأخروي، يقول جلّ في علاه:
" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، م يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى".
ذهب أهل العلم، أنّ كلّ عملٍ من الأعمالِ أو حرفة أو صنعة من صنائع الحياة لا يمكن أن يستفيدَ به المجتمع أو الأفراد إلاّ بنسبة إتقانه، أو القيام بحقّه على أكمل وجهٍ.
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
" إِنّ اللَّه تعالى يُحبّ إذا عمِل أحدكم عملاً أن يُتقِنه"
وكذلك استعماله في أكمل أوجهه ذلك العمل، وعدم التعرض لعمله ولا يمكن لعمل أي عملٍ إلاّ بعد دراية وعلمٍ كافٍ الذي يجعل النفس تطمئن لذلك، وترتاح عندما تحس بالقدرة عليه، بشرط أن يكون ذلك العمل فيه المنفعة العامة التي تكون الغالبة على مضرته، كما أنه لابد أن تكون الحاجة إلى ذلك العمل حاجة صحيحة غير رياءٍ، ولا ذلك العمل يقصد به الأذى أو ضرر الخلق، وإلاّ لكان ذلك العمل مضرًّا، وتركه أحرى.
وكل ما ذكر عبارة عن نمطٍ لمقارنة الأعمال المعنوية أو المادية بأسرها.
ويدخل تحت ذلك أدنى الأعمال والصنائع والحرف وكذلك الوظائف وأوسطها إلى كل درجاتها حتى أعاليها.
فكل صنعة أو حرفة أو وظيفة لها اشتراك في منافع المجتمع بحسب تعلّقها به ومنفعته منها بنسبة تزيد أو تنقص حسب الحاجة لها.
وخلاصة ذلك.
فإذا حصل لعملٍ على مقتضى تلك لا يجد المرء في الدنيا مجتمعًا سعيدًا أسعد من المجتمع العامل بها، ولن يعمل بها مجتمع مطلقَا إلاّ إذا كان به من سمات التدين الصحيح، أو كان ذلك المجتمع متديّنًا بدينٍ يقضى به بتقوى الله تعالى في كل عملٍ بما يناسبه؛ أن يعتقد أنّ كلّ عملٍ عظيمٍ كان أو عملٍ حقيرٍ هو أمانة من أمانات الله التي يجد مراعاتها ورعايتها.
و من أو ل أعمال المراعاة أو الرعاية عدم الإقدام عليها إلاّ بعد العلم بها، والعلم بقدرة النفس على ذلك العمل، وكذلك حسن النية، والقصد فيه، وأنّ كل فردٍ مجزي على ذلك بالثواب على حسن القيام، وكذلك مجزي باللوم أو حتى بالعقاب عن القصور الذي قد يتعمّده، وأنه لا يفوته من الجهتين شيء فذلك بالطبع سائق له على العمل بالأصلح، زاجر له عن القصور على ذلك إن كان عمدًا.
وليمكن من معرفة المصلح من غير المصلح المتعمد فلابد من أحتياج المسلم إلى حكومة إسلامية، حتى تقضي بين الناس في أمور دنياهم ،
ولا يتأتّى ذلك إلاّ القيام بإنشاء قوة التي تسهل على أحوال الناس من قوات من الأمن، وأناس في العدالة للقضاء بين الناس.
وكل ذلك هو تدبير أمور المجتمع الذي يساعد على التعاون والتناصر على تعميم الفضائل، والعمل على دفع ودرء الرذائل.
فإن كان كل ذي عملٍ أو صاحب تجارة، أو صنعة أو حرفة أو وظيفة في مأمورية المأموريات، أو مهمّة من المهمّات، أو وظيفة من الوظائف لا يقدم إلاّ بعد معرفة ما يتكلّف به، وكذلك معرفة الصلاحية الكافية من نفسه للقيام بواجبات ذلك العمل، ثم يُرى أنه مسؤول عن نتيجة أعماله مكافئًا على خيرها وشرها أمام حكومته بالامور الرسمية الشرعية، وأمام الله بالأمور الدينية.
عندما يحس الفرد أن ذلك يظهر ذلك بين البشر في الأولى أي الحياة الدنيا، ويظهر ذلك في الأخرى أي بين يدي الله الذي لا تخفى عليه خافية، ولا تُنسى عنده ماضية من سيئة أو حسنة في الدار الآخرة، وأنه يجزى بعمله فلا بخافٍ أنه يفوته ثواب ذرة من خيرٍ ، أو أنّ ينجو من عقابٍ يناسب ذرة من شرٍّ ، أو بأي حيلةٍ من الحيل إلاّ بالرجوع إلى الحكم الشروع.
فإن هذه الأحوال تدعو إلى تكاثر أعمال الخير وتنشيط أهلها، كما تجبر على تقليل أو عدم القيام على أعمال الشر وتضعيف أو تقييد عزائم مرتكبيها، فيتمّ الاستباق إلى الخير ليصير وكأنه مَلكة راسخة للمجتمع وبين أفراده.
تلك المَلكة التي لا يقوى على مقاومتها أهل الشرور إلاّ نادرًا.
ولا يخفى حال المجتمع الذي يكون على هذه الصفة على المشتغلين بعلوم الإدارة والحقوق والتجارة والاقتصاد وتدبير سياسة الحكم ورقي الأمم وتطورها إلاّ من عمل لدنياه كما هو يعمل لآخرته