زوبعة في فنجان
22-01-2018, 09:02 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا جديد في هذا المنتدى النير بمشرفيه وأعضائه وقرائه وزواره وأيضا بمحتوياته القيمة التي تنم عن سعة ثقافة المشاركين.
يسعدني أن أقدم لكم أول مشاركة لي.

وأنا في طريقي، من وإلى مدرستي الابتدائية ،كنت أمر عليه ثلاث مرات يوميا على الأقل، بالمحل ؛الذي كان يحتل مرتبة لا بأس بها ،مقارنة بمحلات البقالة المتواجدة بالمنطقة ، كما كنت أذهب إليه عند فراغي الدراسي ،أجلس معه ،أتسلى بحكيه الجميل، نشاهد معا شيئًا على التلفاز، أساعده، يستأمنني على المحل ليجلب موادا تنقصه ،وهكذا ...
- انتبهوا على المحل ، سأقضي غرضا وأعود "قال والدي"وهو يهم بالخروج ،يوجه الكلام لي وأخي الذي يصغرني سنا ..
- حاضر يا أبي. .
لم تكن تلك المرة الأولى التي يستنبهنا فيها ، لكن غيابه كان بمثابة فرصة سعيدة لنا لنغذي فينا ذلك النهم؛ الذي تحفزه شقاوتنا الطفولية ؛ فنطلق العنان لأيدينا تطال كل ما اشتهت أنفسنا ،من حلويات، شوكولاته،مشروبات،وأي شيء ...
حتى لا يساء الفهم، وأكون منصفا؛ فأبي لم يكن ليحرمنا هذه الأشياء إذا نحن طلبناها منه، ولهذا لا أجد تفسيرا نفسيا لتصرفنا ،هل هي الرغبة في الممنوع المغروزة في النفس البشرية ؟ .. ربما ..؟! المهم، هذا ما كان يحصل. .لكن، وبالمقابل فهو لم يكن ليسمح لهذا الفعل أن يمر مر الكرام من غير تأديب ، هذا ما كنا متأكدين منه؛ ومهما يكن ، فنحن نفعل شيئا غير لائق من وراء ظهره، وإن لم يكن أبي من النوع الذي يظهر غضبه بالصراخ والعنف ، بل على العكس من ذلك، كان إنسانا هادئا ، ولم أذكر أنه عنفني بيده سوى مرة واحدة بصفعة كانت أقل ما أستحقه، لكن أكثر ما كنت أخشاه بالنسبة لي، تلك النظرة المخجلة التي لا أستطيع تحملها، كنت أخشى أن أسقط في عينيه ، ولاسيما وقد سمعناه كثيرا ما يردد في مجامعه قاعدته الذهبية في هذا الباب "من لم يتورع عن القليل، لن يتورع عن الكثير"...
بعد مغادرة أبي المحل بوقت مطمئن بابتعاده مسافة تسمح لنا بتنفيذ ما قررناه .. كان النهار مساء وقد أحسسنا برغبتنا في تناول شيء ..أخذنا خبزة. ،شطرناها نصفين ،فتحنا علبة تونة، وافرغنا محتواها في نصفي الخبزة بالتساوي، وفتحنا قنينة مشروب غازي، أخذنا نأكل مطمئنين ؛ فأبي لن يعود قبل ساعة على الأقل ...
وعند قضم اللقمة الثانية أو الثالثة ، تمثل لنا أبي بقامته الطويلة قادما من الطريق المقابل للمحل ،ملتحفا بهيبته ووقاره، يلتهم الطريق بخطواته الواسعة السريعة التي كان يعرف بها ..
- اوووووه. .أبي ! .. ماذا سنفعل ؟ " قال أخي" ..
بسرعة، ومن دون رد ،طفقت - مرتبكا -أخفي آثار شقاوتنا ،وما إن انتهت خطواته إلى المحل، حتى كنت قد حللت الأمر، سلم علينا ،رددنا السلام في اضطراب ملحوظ ،وعيناي تلتفت يمنة ويسرة ،كما لو أني أتابع مباراة للتنس ، كان همي الاطمئنان أن كل شيء على ما يرام ..يبدو أن الأمر كذلك، قبل أن أتفاجأ بأن قنينة المشروب الغازي لازالت في مكانها المكشوف مفتوحة ، لم أنتبه لها من الارتباك الذي غشيني، لكني وبحركة خاطفة تداركت الموقف ، اقتربت منها وزحزحتها بطرف رجلي إلى خلف كيس دقيق ، فهو وإن كان سيراها فور جلوسه على الكرسي .. إلا أننا سنكون حينها قد غادرنا ، وبالتالي نكون قد تفادينا التبعات ولو مؤقتا. .لكن حسابه معنا سيكون بالبيت عندما يرجع ليلا .. هذا أمر مفروغ منه ،وعليه، تلزمنا خطة. .لكن ماهي هذه الخطة التي ستنجينا من ردة فعله إزاء ما اقترفناه؟ ...
- مابكما ؟! .. أراكما على غير العادة .. هل حصل شيء ؟! يبدو أن ملامحنا المضطربة قد فضحتنا..لملمت نفسي وقلت متحاشيا النظر في عينيه اللتين تبرزان بحدتهما الذكاء الذي كان يتميز به..
- لا،لا ..لم يحصل شيء يا أبي. .ماذا سيحصل كل شيء على ما يرام.
- على كل حال ، بإمكانكما الذهاب إن أردتما "وهو يمد لكل منا قطعة بسكويت ".
- مع السلامة يا أبي. .
- مع السلامة. .
أسرعنا الخطى مغادرين المحل حتى توارينا عن ناظريه، تنفسنا الصعداء، لنبدأ رحلة البحث عن حل ، قطعنا الطريق كله في طرح الخطط والبدائل وتداولها. .إلى أن استقر رأينا على أمر ،اتفقنا على تنفيذه. .لكن لا ندري أينجح أم لا. ..
بالليل ،وعندما آنسنا قرب قدومه دخلنا فراشنا ونمنا. .فهو حتما لن يوقظنا من النوم بسبب مشروب غازي ، وعلبة تونة ...في الصباح ونحن نتأهب لنجتمع على مائدة الفطور التي ينتظرنا عليها هو وأمي . .هيا أسرعا "نادانا أبي" ..تقدمنا نحوهما بخطى متثاقلة ملتمسين بعض الوقت لمحاولة توقع ردة فعله حول أبغض شيء إليه. .في الحقيقة لم نستطع توقع أي شيء مما سيلحقه بنا .. جلسنا وبدأنا نتناول وجبة الفطور في ترقب شديد لما سيحصل. .لحد الآن بدا كل شيء عاديا أمي تصب لنا الشاي الاخضر، تضع أمامنا شطائر "الحرشة" ،أرسل نظراتي بنصف عين، أرمق أبي يغمس قطعة الخبز الساخن في زيت الزيتون ،و يلتقط حبات الزيتون الأسود ،يضعها في فيه ويتبعها برشفة من الشاي ..هكذا كان، وهو يتحدث إلينا والى والدتي بشكل عادي وكأن شيئًا لم يحدث بالأمس ،أنهى فطوره بسرعة كعادته وأخذ يتأهب للخروج ..أخذت الهواجس تتلاشى شيئًا فشيئا،ونسيم الارتياح يتسرب إلي معدلا من شهيتي لوجبة الفطور .. ظننت أنه ربما نسي الأمر. . ..قبل أن ألمحه يخرج من المطبخ حاملا قنينة مشروب غازي . . تسارعت دقات قلبي من جديد، أطرقت رأسي، بدوت مستعدا لكلمات التأنيب التي توشك أن تغرقني في بحر من الخجل قبل أن أرفع عيناي إليه إثر سماع صوته قائلًا : - آه، نسيت،أحضرتها لكما أمس "مشيرا بعينيه ويده الى القنينة الفارغة "لكني وجدتكما نائمين وشربتها أنا و أمكما ..لكن، سأعوضكما بأخرى "قالها وملامح التأسف لنا قد علت محياه". .لا تتأخرا عن المدرسة ..فتح الباب وخرج...
وهكذا فاجأني أبي -رحمه الله- مرة أخرى ، ومن حينها لم أعد لفعلتي ...
التعديل الأخير تم بواسطة Ahmad khalil ; 22-01-2018 الساعة 09:55 PM