أبو بكر ابن القوطية
19-07-2017, 05:55 AM


يعد أبو بكر ابن القوطية واحدا من أهم مؤرخي الأندلس الأوائل، وكتابه "تاريخ افتتاح الأندلس" من أهم المصادر الأولية التي لا يستغني عنها باحث في بابه، ولك يكن ابن القوطية مؤرخًا بقدر ما كان أديبا لغويا بارعا، وله كتاب "الأفعال الثلاثية والرباعية" أول من صنف ف بابه. فمن هو ابن القوطية؟



اسمه ونسبه

هو العلامة الأديب أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن ابراهيم بن عيسى بن مزاحم مولى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الأندلسي، الإشبيلي الأصل، القرطبي المولد، النحوي، المؤرخ، علامة في الأدب واللغة، حافظ للأخبار وأيام الناس، فقيه محدث متقن، كثير التصانيف. المعروف بـ "ابن القوطية"، وكنيته "أبو بكر".



وعُرف بابن القوطية، نسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام، وهي نسب أمه القوطية، وهي سارة بنت ألمند بن غيطشة، أحد ملوك القوط الذين حكموا إسبانيا قبل الفتح الإسلامي، وهي جدة لجده، وقد كانت سارت إلى الشام زمن الخليفة هشام بن عبد الملك متظلمة من عمها أرطياس فتزوجها بالشام عيسى بن مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز، ثم سافر معها إلى الأندلس، وهو جد عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى.



نشأته وتعليمه

وأصله ابن القوطية من إشبيلية، ولكنه ولد بمدينة قرطبة ونشأ بها، وهو من بيت علم ودين وقضاء، فقد كان أبوه أبو حفص عمر بن عبد العزيز من موالي البربر، وهو شاعر وأديب، وكانت له رحلة إلى المشرق حج فيها، ولعلمه وفقهه ولاه عبد الرحمن الناصر قضاء استجة في سنة 301هـ، ثم استقضاه علي إشبيلية في شوال سنة 302هـ فكانت ولايته سبعة أعوام وسبعة أشهر.



ثم انتقل ابن القوطية من قرطبة إلى إشبيلية، ولقي أكثر مشايخ عصره بالأندلس فأخذ عنهم وأكثر النقل من فوائدهم. ودرس الحديث في قرطبة على يد شيوخها، منهم: طاهر بن عبد العزيز، وأبي الوليد الأعرج، ومحمد بن عبد الوهاب بن مغيث، ومحمد بن عمر بن لبابة، وعمر بن حفص بن أبي تمام، وأسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، ومحمد بن مشور، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن، وعبد الله بن يونس، وأحمد بن بشر الأغبس، وقاسم بن أصبغ وغيرهم من نظرائهم.، وسمع بإشبيلية من محمد بن عبيد الزّبيدي، ومن ابن القوق، وحسن الزبيدي، وابن جابر، وعلي بن أبي شيبة. ودرس بجانب الحديث الأدب والفقه والشعر، والتاريخ على شكل خاص، حيث كان حافظًا لأخبار الأمراء وأحوال الرجال.

علمه وفقهه

كان ابن القوطية رحمه الله جليلًا، من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، حافظًا للفقه والحديث والخبر والنوادر والشعر، وله في الحديث قدم ثابت ورواية واسعة، وهو على ذلك من أهل النسك والعبادة والورع. وكان صدرًا في الأدب، بصيرًا بالغريب والنادر والشاهد والمثل. كان عالمًا بالخبر والأثر، حافظًا لأخبار الأندلس وسير أمرائها وأحوال رجالها، جيد الشعر، صحيح الألفاظ؛ إلاّ أنه تركه على الرغم من رقة نظمه، ورفضه مؤثرًا ما هو أولى منه، ودافعه إلى تركه إنما هو ورعه.



وهو إمام من أئمة الدين، تام العناية بالفقه والسنّة، مع مروءة ظاهرة، وكان عالمًا بالنحو، حافظًا للعربية، مقدّمًا فيها على أهل عصره، لا يشقّ غباره، ولا يلحق شأوه، وكان أبو علي القالي يبالغ في توقيره.



هذا ما قيل فيه، غير أنّ ابن الفرضي قال عنه: "ولم يكن بالضابط لروايته في الحديث والفقه، ولا له أصول يرجع إليها، وطال عمره حتى سمع منه طبقة بعد طبقة من الشيوخ والكهل ممن ولي القضاء والشورى والخطط من أبناء الملوك وغيرهم، وسمعت منه، وكانت فيه غفلة وسلامة وتقشف في ملبسه وورع، وذكر أنه كان يدلس في حديثه".



منزلته ومكانته

قال عنه الحميدي في جذوة المقتبس: "كان إمامًا في العربية، وله كتاب في الأفعال لم يؤلف مثله"، بينما قال عنه ابن الفرضي: "وكان: عالما بالنحو، حافظا للغة متقدما فيها على أهل عصره لا يشق غباره، ولا يلحق شأوه، وله في هذا الفن مؤلفات حسان منها كتاب: تصاريف الأفعال وكتاب: المقصور والممدود وغير ذلك. وكان: حافظا لأخبار الأندلس، مليا برواية سير أمرائها، وأحوال فقهائها وشعرائها. يملي ذلك عن ظهر قلب. وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه، وتؤخذ عنه".



وقال القاضي عياض: "وقال ابن عبد الرءوف في طبقاته: كان أبو بكر عالما من علماء الأندلس، فقيها من فقهائها، صدرا في أدبائها، حافظا للغة والعربية، بصيرا بالغريب والنادر والشاهد والمثل، عالما بالخبر والأثر، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، إلا أنه تركه ورفضه مؤثرا ما هو أولى منه، فهو إمام من أئمة الدين، تام العناية بالفقه والسنة، مع مروءة ظاهرة وتمام خلقة وسمت، وحسن بيان. وقال ابن الحذاء: وله في الحديث قدم ثابت، ورواية واسعة، وهو على ذلك من أهل النسك والعبادة".



وقال ابن حجر في لسان الميزان: " تقدم في فن الأدب وكان من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية والنوادر والشعر مع مشاركة قوية في الفقه والحديث اثنى عليه بن الحذاء وابن عبد البر وغيرهما".



وقال عنه ياقوت الحموي: "كان أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، إماما مقدما فيهما، وأروى أهل عصره للأشعار والأخبار، لا يشقّ في ذلك غباره ولا يلحق شأوه، وكان مع ذلك فقيها متمكنا حافظا للحديث والآثار، غير أنه لم يكن له في ذلك أصول يرجع إليها، فلم يكن ضابطا للرواية".



وقال كذلك: "ومما كان يزين علمه وفضله اتصافه بالزهد والتقوى والنسك، وكان في أول أمره ينظم الشعر بالغا فيه حدّ الاجادة مع الاحسان في المطالع والمقاطع وتخير الألفاظ الرشيقة والمعاني الشريفة، ثم ترك ذلك وأقبل على النسك والانفراد".



ولما دخل أبو علي القالي الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تقديمه وتعظيمه، حتى قال له الخليفة الحكم المستنصر: مَن أنبل من رأيته ببلدنا في اللغة؟ فقال: أبو بكر ابن القوطية.



تلاميذه

قال ابن الفرضي وهو من أنبل تلامذته: "وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة". روى عنه جماعة من الشيوخ والكهول ممن ولى القضاء، وقدم إلى الشورى، وتصرف في الخطط من أبناء الملوك وغيرهم، اختلفت إليه أيام نظري في العربية في سماع: الكامل لمحمد بن يزيد المبرد، وكان يرويه عن سعيد بن جابر فشهدت منه مجالس. وتوفي (رحمه الله) قبل فراغنا منه". وروى عنه القاضي أبو الحزم خلف بن عيسى بن سعيد الخير الوشقي. وأبو الوليد ابن الفرضي (ت 403هـ) صاحب تاريخ علماء الأندلس، ومحمد بن حسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي، وأبو عمر أحمد بن عفيف.



مؤلفات ابن القوطية

وعن تصانيفه فهو أول من صنّف في الأفعال وتصاريفها، ويعرف بكتاب "الأفعال الثلاثية والرباعية"، وهو مطبوع، ومن الجدير ذكره أنّ لابن القطاع السعدي الصقلي (ت 515هـ) كتابًا في الأفعال أيضًا، وتأليفه أجود من أفعال ابن القوطية؛ لأنه ذكر فيه ما أغفله ابن القوطية وزاد عليه بأن هذّبه، وكان ابن القوطية قد قصد الإيجاز حتى أخلّ في كثير من المواضع.



ومن كتبه: "المقصور والممدود"، وتاريخ في أخبار أهل الأندلس، ويعرف بكتاب "تاريخ افتتاح الأندلس"، وهو مطبوع، وهو كتاب حسن في بابه. ومنها أيضًا: "شرح رسالة أدب الكتّاب".



تاريخ افتتاح الأندلس

يعتبر كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية القرطبي من أهم المصادر العربية وأقدمها لدراسة الفتح العربي لبلاد الأندلس، وما أثير حول هذا الفتح من آراء وتعليقات لمؤرخين عرب ومستشرقين على ما بينهم من تباين في النهج واختلاف في مستوى الدقة والأحكام، ويقدم صورة واضحة لواقع هذه البلاد من الفتح العربي حتى نهاية إمارة عبد الله بن محمد سنة (299هـ = 912م).



وهو عبارة عن مجموعة من الأخبار القصار منفصل بعضها عن بعض، وهو يسرد الحوادث ولا يذكر التاريخ إلا نادرًا. كما أنه ليس من تأليف ابن القوطية، بل إن أحد تلاميذه هو الذي تولى تأليفه، بدليل تكرار عبارة "قال شيخنا أبو بكر"، "قال ابن القوطية"، وكان يمليه من صدره غالبًا.



شعره رحمه الله

كان ابن القوطية رحمه الله شاعرا له نظم رقيق، فتركه تورعا. وكان الشعر أقلّ صنائعه لكثرة علومه وغرائبه. ومن ذلك ما ذكره الثعالبي، قال: أخبرني أبو سعيد ابن دوست قال أخبرني الوليد بن بكر الفقيه أن أبا بكر يحيى بن هذيل الشاعر زار يوما ابن القوطية في ضيعة له بسفح جبل قرطبة كان منفردا فيها عن الناس، فألفاه خارجا منها، فلما رآه ابن القوطية استبشر به، فبادره يحيى بن هذيل ببيت حضره على البديهة فقال:

من أين أقبلت يا من لا شبيه له *** ومن هو الشمس والدنيا له فلك



فتبسم وأجابه مسرعا بقوله:

من منزل يعجب النساك خلوته *** وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا



قال ابن هذيل: فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي وأستاذي.



ومن شعر أبي بكر ابن القوطية:

ضحى أناخوا بوادي الطلح عيسهم *** فأوردوها عشاء أيّ إيراد

أكرم به واديا حلّ الحبيب به *** ما بين رند وخابور وفرصاد

يا واديا سار عنه الركب مرتحلا *** بالله قل أين سار الركب يا وادي

أبالغضا نزلوا أم للوى عدلوا *** أم عنــك قد رحلوا خلفا لميعادي

بانوا وقد أورثوا جسمي الضنا وكأن *** كان النوى لهم أو لي بمرصاد



وقال:

ضحك الثرى وبدا لك استبشاره *** واخضرّ شاربه وطرّ عذاره

ورنت حدائقه وآزر نبته *** وتبسمــت أنــواره وثماره

واهتز قدّ الغصن لما ان كسي *** ورقا كديباج يـروق إزاره

وتعممت صلع الربى بنباتها *** وترنمــت فـي لحنها أطياره



وفاته

وكانت وفاة ابن القوطية رحمه الله يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الأول سنة 367هـ = 977م بمدينة قرطبة، ودفن يوم الأربعاء لصلاة العصر بمقبرة قريش، وصلى عليه أبو جعفر ابن عون الله. وكان قد أوصى بذلك. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

____________________

المصادر والمراجع:

- ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، عنى بنشره؛ وصححه؛ ووقف على طبعه: السيد عزت العطار الحسيني، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1408هـ / 1988م.

- ياقوت الحموي: معجم الأدباء، المحقق: إحسان عباس، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الأولى، 1414هـ / 1993م.

- ابن الأبار القضاعي: التكملة لكتاب الصلة، المحقق: عبد السلام الهراس، الناشر: دار الفكر للطباعة – لبنان، سنة النشر: 1415هـ / 1995م.

- ابن خلكان: وفيات الأعيان، المحقق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت.

- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، حققه: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ / 1986م.

- ابن حجر: لسان الميزان، دائرة المعرف النظامية – الهند، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1390هـ /1971م.

- ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق وتعليق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، الناشر: دار التراث للطبع والنشر، القاهرة.

- سالم بن عبد الله الخلف: نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م.