هكذا صرنا أذلّة.. بعدما كنّا أعِزّة
10-09-2016, 02:08 PM
هكذا صرنا أذلّة.. بعدما كنّا أعِزّة
سلطان بركاني
روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داوود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ نبيّ الهدى –صلّى الله عليه وآله وسلّم- قال: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَة، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَر، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْع، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم".
لا شكّ أنّ أيّ مسلم يقرأ أو يسمع هذا الحديث يجزم يقينا بأنّه ينطبق تماما على واقعنا الذي نعيشه في هذه السّنوات التي بلغ فيها الذلّ بأمّة الإسلام مداه، وصارت مقدّسات المسلمين غرضا لكلّ متطاول، وأضحت دماؤهم تسفك وأعراضهم تنتهك، على مرأى ومسمعٍ من العالمين؛ حالهم كحال الغنم السّائبة في اللّيلة المطيرة الشاتية، لا راعي ولا حامي ولا نصير يدفع عنهم العادية.. واقع مرّ مرير لم يجد معه بعض الغيورين على دينهم وأمّتهم إلا أن يقلّبوا صفحات التّاريخ ليسلّوا أنفسهم ببطولات المسلمين وصولاتهم في أرض الله الواسعة، يوم كان دينهم أغلى ما يملكون في هذه الحياة، به وعليه وله يحيون، وفي سبيله يبذلون المهج والأرواح وكلّ غال ونفيس.
لقد بلغ المسلمون في الرّفعة غايتها وفي العزّ شأوه، لأنّهم كانوا يدا على من سواهم، كالجسد الواحد، إذا اعتلّ منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر، وإذا حدث ووقع خلاف بينهم، فإنّهم لا يسمحون أبدا بأن يتدخّل الأعداء بينهم، ولا يستعين أيّ طرف منهم بأعداء الأمّة مهما بلغ خلافه مع أخيه؛ وقد سجّل التّاريخ أنّه حينما وقع الخلاف المشهور بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومعاوية بن أبي سفيان، وكان الحقّ مع أمير المؤمنين عليّ، حاول قيصر الروم استغلال الفرصة ليتوصّل إلى مآربه، فأرسل إلى معاوية يقول: "من قيصر ملك الرّوم إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، علِمنا بما وقع بينكم وبين علي بن أبي طالب، فلو أمرتني أرسلت لك جيشا يأتون إليك برأسه"، فردّ عليه معاوية: "من معاوية بن أبي سفيان إلى هرقل، أمّا بعد: أخَوان تشاجرا فما بالك تدخل فيما بينهما، إن لم تخرس، أرسلت إليك بجيش أوله عندك وأخره عندي، يأتونني برأسك أقدّمه لعلي بن أبي طالب".
ساد المسلمون الدّنيا وخنع لهم الأكاسرة والقياصرة، لأنّ حكامهم ووُلاتهم عفّوا عن الحرام، وعفّوا عن أموال المسلمين، وعاشوا كما تعيش رعيتهم، وقد سجّل التاريخ من روائعهم في ذلك أنّ الخليفة الرّاشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- طلب من أهل حمص السّورية يوما أن يكتبوا له أسماء الفقراء والمساكين بينهم ليعطيهم نصيبهم من بيت مال المسلمين، وعندما وردت الأسماء للخليفة فوجئ بأنّ اسم والي حمص "سعيد بن عامر" موجود بين أسماء الفقراء، عجب للأمر، فسأل أهل حمص فأجابوه بأنّ واليهم ينفق جميع راتبه على الفقراء والمساكين ويقول: "ماذا أفعل وقد أصبحتُ مسؤولاً عنهم أمام الله تعالى"، وعندها سألهم عمر بن الخطّاب: وهل تعيبون على واليكم شيئاً؟ قالوا: نعيب عليه ثلاثاً: لا يخرج إلينا إلا في وقت الضحى، ولا نراه ليلاً أبداً، ويحتجب عنّا يوماً في الأسبوع، عندها سأل الخليفة واليه سعيد بن عامر عن هذه المآخذ فأجابه بأنّ ما يقولون حقّ، ثمّ قال: أمّا أنّي لا أخرج إلا وقت الضحى فلأنّي لا أخرج إلا بعد أن أفرغ من حاجة أهلي وخدمتهم، فأنا لا خادم لي وامرأتي مريضة، وأما احتجابي عنهم ليلاً فلأنّي جعلتُ النّهار لقضاء حوائجهم والليل جعلته لعبادة ربّي، وأما احتجابي يوماً في الأسبوع فلأنّي أغسل فيه ثوبي وأنتظره ليجفّ لأني لا أملك ثوباً غيره، فبكى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ثم أعطى سعيداً مالاً، فلم ينصرف سعيد حتّى وزَّعه على الفقراء والمساكين.
بلغ المسلمون في العزّ غايته، لأنّ علماء الأمّة كانوا لا يطمعون في دنيا الأمراء والسلاطين، ولا يهينون أنفسهم عند أبوابهم، ولا يرتضون لأنفسهم أن يأكلوا من فتات موائدهم.. تروي كتب السّير أنّ التابعي سالم بن عبد الله بن عمر كان يوما في الحرم المكّي فجاءه الخليفة الأمويّ سليمان بن عبد الملك وقال: يا سالم، سلني حاجتك؟ فقال سالم: والله إني أستحي أن أكون في بيت الله، ثمّ أسأل أحدا غيره، فسكت الخليفة وانتظره حتى خرج من المسجد الحرام، فقال: سل الآن حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدّنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال الخليفة: بل من حوائج الدّنيا، فقال سالم: حوائج الدّنيا لم أطلبها ممّن يملكها، فكيف أطلبها ممّن لا يملكها؟!.
ساد المسلمون الدّنيا، لأنّهم كانوا يقفون عند حدود الله بالاجتناب، وعند أوامره بالتّنفيذ، وكانوا لا يضيّعون فرائض الله ولا يتعدّون حدوده، بل كانوا يحرصون على النّوافل ويتركون المشتبهات، رهبان في اللّيل فرسان في النّهار.. في ليلة معركة حطين التي استعاد المسلمون على إثرها بيت المقدس وهزموا الصليبيين، كان القائد صلاح الدين الأيوبي يتفقد خيام الجنود، فيسمع أهل هذه الخيمة قيام يصلون، وتلك أهلها يذكرون، وأخرى أهلها يقرؤون القرآن، حتى مر بخيمة كان أهلها نائمين، فقال لمن معه: أخشى أن نؤتى من هذه الخيمة.. يخشى الهزيمة بسبب خيمة أهلها نائمون عن قيام الليل، وليس عن صلاة الفجر.
كانت الأمّة عزيزة، لأنّ المسلمين كانوا يضربون أروع الأمثلة في أخلاقهم ومعاملاتهم، ومن روائعهم في ذلك ما سجّله المؤرّخون أنّ النّاس في بعض أقاليم الدّولة العثمانية كانوا يضعون على أبواب المنازل مطرقتين؛ إحداهما صغيرة والأخرى كبيرة، فحين يُطرق الباب بالمطرقة الكبيرة يُفهم أنّ الطّارق رجل، فيذهب رجل البيت ويفتح الباب، وحين يُطرق الباب بالصغيرة يُعرف أن الطّارق امرأة، فتذهب سيدة المنزل وتفتح الباب، وكان يعلّق على باب المنزل الذي به مريض ورد أحمر ليعلم المارّون أنّ بداخله مريضا فلا يصدرون أصواتا عالية تزعجه، بل قد بلغ عطر أخلاق المسلمين في تلك الأزمنة إلى الأوروبيين، وصاروا يتنافسون على تقليد المسلمين، حتى ذُكر أنّ قسا إيطاليا قام في أحد ميادين إيطاليا ليخطب قائلا: "إنّه لمن المؤسف حقا أن نرى شباب النّصارى وقد أخذوا يقلّدون المسلمين العرب في كلّ لباسهم، وأسلوب حياتهم وأفكارهم، بل إنّ الشابّ إذا أراد أن يفاخر صديقه يكلّمه ببعض الكلمات العربيّة، ليتظاهر بأنّه متحضّر".