الأغنية المألوفة
07-10-2014, 09:10 PM
الأغنية المألوفة
وجدت نفسي ليلة البارحة راكبا حصانا ليس ككل الأحصنة، له جناحان عريضان يمتدان امتداد الفضاء غير المتناهي، يطير بي مخترقا أجواز السماء العالية، ومن حين لآخر أنظر إلى الأسفل، فتبدو لي الأشياء كنقط سوداء مبعثرة هنا وهناك، في غير ترتيب ولا نظام.
كان الحصان يطير بسرعة فائقة، أردت أن أسأله عن المكان الذي يريد أن يأخذني إليه، فترددت خوفا من أن ترد إلي كلماتي مع دفعات الهواء، التي يأتي هديرها كهدير شلالات الأمازون. وقبل أن يرتد إلي طرفي، جاءني صوت الحصان الطائر، يقول بكل هدوء الأحصنة:" أمرت بأن أحملك إلى بلاد الآحلام.. قاطعت الصوت كما هي عادتنا أن نقاطع من يتكلم، لأسأله عن هذا السفر العجيب، قلت له:" لماذا اخترتني أنا بالذات؟ فقال :" سلطان الأحلام هو من اختارك لتكون رسوله . قلت له: وماالذي رآه في شخصي جديرا لتبليغ رسالته؟ فقال: نحن لا نناقش السلطان في اختياره، ننفذ الأوامر فقط.
ركبني شيء من الغرور، فرأيت نفسي شخصا فوق العادة، شخصا يجب أن يطاع، ونسيت أنني واقف أمام عرش سلطان الأحلام، الذي أعادني إلى الواقع، عندما قال بلهجة حازمة: أنتم معشر "المجسمين" غير موثوق فيكم، لا تستطيعون أن تثبتوا على رأي، كنت قبل اللحظة متوسما فيك شخصا صادقا، فتبين لي العكس، فأنت لا تختلف عن الأخرين، عد إلى قومك، وانس بأنك رأيتني...
استيقظت مذعورا، وأنا أتساءل عن الرسالة التي كان سلطان الأحلام يريدني تبليغها لبني قومي "المجسمين" ، فأتاني ما يشبه همسا يردد:" عليك بالاعتذار أولا عن وقاحتك في مجلسه، قبل أن تبحث في علبة حياتك السوداء عن شيء ذي صلة بالرسالة.
حياتي التي كانت تحت الطريق، فوق الطريق، على الدوام، لم تعرف الاستقامة يوما، كنت ـ في اعتقادي ـ مثل الآخرين، فإذا كذبت، أو خدعت، أو سرقت، أو غششت، أو، أو...حسبت الأمر عاديا، ليس فيه ما ألام عليه، مادام الآخرون يتصرفون بمثله.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أفكر في مدخل يعيدني إلى الصواب، أو سمّه، إن شئت، الصدق، فالصدق عنوان كل عمل سوي، قلت في نفسي:" إن استطعت اقتحام باب الاعتذار، عن الأفعال الشاذة التي احتلت عنوة سلوكي اليومي، وحياتي العملية،كان ذلك انتصارا باهرا على نفسي، انتصارا يفتح لي بابا آخر،يدخلني حياة جديدة، تجعلني أكتشف الإنسان الأخر الذي كان يتلظى بين أضلعي!
كانت المرآة تعكس صورة مدير الإدارة، التي أعمل فيها، وجدتني أقول له كالتائب من ذنب:"لن أردد عليك بعد اليوم، ما كنت تصفه بالأغنية المألوفة: "لا تلمني، يا سيدي،إن تأخرت،فتلك سمة راسخة فينا، نحن معشر الجزائريين، أعرف أنك تفهمني، وتتقبل الاعتذار، وإن كان في الحقيقة، لا مبرر له، فكلنا نتأخر، ونمارس التأخر كجزء من العمل المفروض علينا، بل صرنا نمارسه بشيء من القداسة، كما نمارس طقوسا دينية.
أما اليوم، ـ لا تستغرب تصرفي هذا ـ، فأنا منذ الآن، قررت ألا أكون "مجسما" خاويا وصاخبا، جئتك أرجو قبول اعتذاري، لن أكذب عليك، وإن كان الكذب علامة مميزة فينا، فقد أردت من وراء هذا الاعتذار..البدار، أي السبق، مثل السبق الصحفي، أريد أن أنال فضل المبادرة بهذا السلوك الجديد، أن أكون أول من يعتذرعن تأخره عن موعد العمل، ولا شيء غيره.
أعرف بأنه من الصعب تصديق النوايا، لا بسهولة ولا بصعوبة، لأن الشك هو العملة الرائجة في تعامل الناس ببعضهم، ومع ذلك أحاول، لعل وعسى.. فمن يحاول خير من الحاجم، أليس يقال بأن من لا يجازف لا ينال شيئا ؟
أرجو فقط، ألا تفهم بأني طامع في ترقية أو منحة لقاء ذلك، وإن كانت أعمالنا "الخارقة"، نؤديها طمعا في أجر أو امتياز ما، فما في بالي بعيد عن هذا، ينحى منحى آخر،أخاف أن يفهمه أحد على عكس ما أريد، فأبدو في نظر زملائي شخصا طامحا بلا وجه حق، وإن كان الطموح أمرا مشروعا، لا عيب فيه، ولكن هم سيرونه رغم ذلك، طمعا في ثوب الطموح، يجلب لهم من المتاعب، بقدرما يجلب لي من الفوائد.
لا أريد أن أثقل عليك بإلحاحي، وإن كان الإلحاح صفة "جليلة"،لا يستطيع أن يلومك أحد عليها، مادامت صفة من صفات العبد المؤمن، الذي لا يكف عن الإلحاح ليستجيب الله دعاءه. فأنا كما تعرف، لم أطرق باب مكتبك من قبل، لأمر كهذا، إلا أن حرصي على القيام بعمل، يأتي بتغيير نافع في نمط حياة الناس، وإن كانت المنفعة مسألة نسبية، هو ما يحمسني، ويحث خطوي نحو مكتبك.
وأرجو كذلك، أن تفهم تخوفي الآخر، والحق أن الخجل يمنعني من التصريح بهذا التخوف، وإن كان الخجل لا محل له ولا ضرورة، في مثل هذه المواقف الحساسة، أردت أن أطلب منك أن يكون "مشروعي" مكتوبا، والكتابة ليس فيها ما يعاب، فهي أمر شرعي إلاهي، وأن يكون أيضا، مسجلا في دفاتر الإدارة الرسمية، خوفا من سرقته، لأن السرقة، كما لا يخفى عليك، كالدم تجري في عروقنا، لا يكاد يطفو شيء إلى السطح، حتى تخطفه العيون، قبل أن تمتد إليه الأيادي خلسة أو علانية بدون استئذان.
إني أرى سؤالا في عينيك، يقول لي:" لماذا تتعب نفسك؟ نعم، التعب المتعلق بالجهد والمجاهدة ضيّع صدارته منذ أمد بعيد، بل صار يتوارى خجلا أمام زحف الإهمال وعدم الاكتراث، وأفهم تماما معناه: لا طائل من وراء المشروع، بل لن يبلغ الآذان، ستمتنع موجات الهواء الذي نتنفسه، عن حمله، بل سترده إليك...كما نرد ضيفا ثقيلا.
فهل هذا يعني بأن طلبي مردود؟ ستقول بلا شك، بأنني مجنون، أريد تغيير العالم، لأن المهمة، كما تبدو لك، مستحيلة، وتقول أيضا بلسان ساخر: أنت فاقد الثقة في محاورك، وتريده أن يصدقك ويؤمن بنواياك.. لم أر أغرب من هذا المنطق! صدمت صدمة عنيفة..ومن سوء حظي.."مجسمي" خال من واقي الصدمات!
ما أصعب أن تستفيق من حلمك لتجد نفسك في عالمك الحقيقي!تحس بنفسك كالمطرود من الجنة، كالمغضوب عليه، كالمنبوذ في صحراء قاحلة، وقد مسحت برمشة عين كل ما عشته، كما تمسح العاصفة آثار الأقدام، وتحاول جاهدا أن تعود إلى ذلك العالم المثالي، ولكن هيهات هيهات..فأقدامك لن تأخذك سوى إلى مكتبك، لتغني على مسامع مديرك أغنيتك المألوفة...
وجدت نفسي ليلة البارحة راكبا حصانا ليس ككل الأحصنة، له جناحان عريضان يمتدان امتداد الفضاء غير المتناهي، يطير بي مخترقا أجواز السماء العالية، ومن حين لآخر أنظر إلى الأسفل، فتبدو لي الأشياء كنقط سوداء مبعثرة هنا وهناك، في غير ترتيب ولا نظام.
كان الحصان يطير بسرعة فائقة، أردت أن أسأله عن المكان الذي يريد أن يأخذني إليه، فترددت خوفا من أن ترد إلي كلماتي مع دفعات الهواء، التي يأتي هديرها كهدير شلالات الأمازون. وقبل أن يرتد إلي طرفي، جاءني صوت الحصان الطائر، يقول بكل هدوء الأحصنة:" أمرت بأن أحملك إلى بلاد الآحلام.. قاطعت الصوت كما هي عادتنا أن نقاطع من يتكلم، لأسأله عن هذا السفر العجيب، قلت له:" لماذا اخترتني أنا بالذات؟ فقال :" سلطان الأحلام هو من اختارك لتكون رسوله . قلت له: وماالذي رآه في شخصي جديرا لتبليغ رسالته؟ فقال: نحن لا نناقش السلطان في اختياره، ننفذ الأوامر فقط.
ركبني شيء من الغرور، فرأيت نفسي شخصا فوق العادة، شخصا يجب أن يطاع، ونسيت أنني واقف أمام عرش سلطان الأحلام، الذي أعادني إلى الواقع، عندما قال بلهجة حازمة: أنتم معشر "المجسمين" غير موثوق فيكم، لا تستطيعون أن تثبتوا على رأي، كنت قبل اللحظة متوسما فيك شخصا صادقا، فتبين لي العكس، فأنت لا تختلف عن الأخرين، عد إلى قومك، وانس بأنك رأيتني...
استيقظت مذعورا، وأنا أتساءل عن الرسالة التي كان سلطان الأحلام يريدني تبليغها لبني قومي "المجسمين" ، فأتاني ما يشبه همسا يردد:" عليك بالاعتذار أولا عن وقاحتك في مجلسه، قبل أن تبحث في علبة حياتك السوداء عن شيء ذي صلة بالرسالة.
حياتي التي كانت تحت الطريق، فوق الطريق، على الدوام، لم تعرف الاستقامة يوما، كنت ـ في اعتقادي ـ مثل الآخرين، فإذا كذبت، أو خدعت، أو سرقت، أو غششت، أو، أو...حسبت الأمر عاديا، ليس فيه ما ألام عليه، مادام الآخرون يتصرفون بمثله.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أفكر في مدخل يعيدني إلى الصواب، أو سمّه، إن شئت، الصدق، فالصدق عنوان كل عمل سوي، قلت في نفسي:" إن استطعت اقتحام باب الاعتذار، عن الأفعال الشاذة التي احتلت عنوة سلوكي اليومي، وحياتي العملية،كان ذلك انتصارا باهرا على نفسي، انتصارا يفتح لي بابا آخر،يدخلني حياة جديدة، تجعلني أكتشف الإنسان الأخر الذي كان يتلظى بين أضلعي!
كانت المرآة تعكس صورة مدير الإدارة، التي أعمل فيها، وجدتني أقول له كالتائب من ذنب:"لن أردد عليك بعد اليوم، ما كنت تصفه بالأغنية المألوفة: "لا تلمني، يا سيدي،إن تأخرت،فتلك سمة راسخة فينا، نحن معشر الجزائريين، أعرف أنك تفهمني، وتتقبل الاعتذار، وإن كان في الحقيقة، لا مبرر له، فكلنا نتأخر، ونمارس التأخر كجزء من العمل المفروض علينا، بل صرنا نمارسه بشيء من القداسة، كما نمارس طقوسا دينية.
أما اليوم، ـ لا تستغرب تصرفي هذا ـ، فأنا منذ الآن، قررت ألا أكون "مجسما" خاويا وصاخبا، جئتك أرجو قبول اعتذاري، لن أكذب عليك، وإن كان الكذب علامة مميزة فينا، فقد أردت من وراء هذا الاعتذار..البدار، أي السبق، مثل السبق الصحفي، أريد أن أنال فضل المبادرة بهذا السلوك الجديد، أن أكون أول من يعتذرعن تأخره عن موعد العمل، ولا شيء غيره.
أعرف بأنه من الصعب تصديق النوايا، لا بسهولة ولا بصعوبة، لأن الشك هو العملة الرائجة في تعامل الناس ببعضهم، ومع ذلك أحاول، لعل وعسى.. فمن يحاول خير من الحاجم، أليس يقال بأن من لا يجازف لا ينال شيئا ؟
أرجو فقط، ألا تفهم بأني طامع في ترقية أو منحة لقاء ذلك، وإن كانت أعمالنا "الخارقة"، نؤديها طمعا في أجر أو امتياز ما، فما في بالي بعيد عن هذا، ينحى منحى آخر،أخاف أن يفهمه أحد على عكس ما أريد، فأبدو في نظر زملائي شخصا طامحا بلا وجه حق، وإن كان الطموح أمرا مشروعا، لا عيب فيه، ولكن هم سيرونه رغم ذلك، طمعا في ثوب الطموح، يجلب لهم من المتاعب، بقدرما يجلب لي من الفوائد.
لا أريد أن أثقل عليك بإلحاحي، وإن كان الإلحاح صفة "جليلة"،لا يستطيع أن يلومك أحد عليها، مادامت صفة من صفات العبد المؤمن، الذي لا يكف عن الإلحاح ليستجيب الله دعاءه. فأنا كما تعرف، لم أطرق باب مكتبك من قبل، لأمر كهذا، إلا أن حرصي على القيام بعمل، يأتي بتغيير نافع في نمط حياة الناس، وإن كانت المنفعة مسألة نسبية، هو ما يحمسني، ويحث خطوي نحو مكتبك.
وأرجو كذلك، أن تفهم تخوفي الآخر، والحق أن الخجل يمنعني من التصريح بهذا التخوف، وإن كان الخجل لا محل له ولا ضرورة، في مثل هذه المواقف الحساسة، أردت أن أطلب منك أن يكون "مشروعي" مكتوبا، والكتابة ليس فيها ما يعاب، فهي أمر شرعي إلاهي، وأن يكون أيضا، مسجلا في دفاتر الإدارة الرسمية، خوفا من سرقته، لأن السرقة، كما لا يخفى عليك، كالدم تجري في عروقنا، لا يكاد يطفو شيء إلى السطح، حتى تخطفه العيون، قبل أن تمتد إليه الأيادي خلسة أو علانية بدون استئذان.
إني أرى سؤالا في عينيك، يقول لي:" لماذا تتعب نفسك؟ نعم، التعب المتعلق بالجهد والمجاهدة ضيّع صدارته منذ أمد بعيد، بل صار يتوارى خجلا أمام زحف الإهمال وعدم الاكتراث، وأفهم تماما معناه: لا طائل من وراء المشروع، بل لن يبلغ الآذان، ستمتنع موجات الهواء الذي نتنفسه، عن حمله، بل سترده إليك...كما نرد ضيفا ثقيلا.
فهل هذا يعني بأن طلبي مردود؟ ستقول بلا شك، بأنني مجنون، أريد تغيير العالم، لأن المهمة، كما تبدو لك، مستحيلة، وتقول أيضا بلسان ساخر: أنت فاقد الثقة في محاورك، وتريده أن يصدقك ويؤمن بنواياك.. لم أر أغرب من هذا المنطق! صدمت صدمة عنيفة..ومن سوء حظي.."مجسمي" خال من واقي الصدمات!
ما أصعب أن تستفيق من حلمك لتجد نفسك في عالمك الحقيقي!تحس بنفسك كالمطرود من الجنة، كالمغضوب عليه، كالمنبوذ في صحراء قاحلة، وقد مسحت برمشة عين كل ما عشته، كما تمسح العاصفة آثار الأقدام، وتحاول جاهدا أن تعود إلى ذلك العالم المثالي، ولكن هيهات هيهات..فأقدامك لن تأخذك سوى إلى مكتبك، لتغني على مسامع مديرك أغنيتك المألوفة...
.gif "16")
.gif "7")
.gif "2")
