المحاكمات عن بُعد.. ثورة قضائية في الجزائر
19-04-2016, 11:42 PM

روبورتاج: وهيبة سليماني



أحدثت تقنية المحاكمة عن بُعد باستعمال الأنترنت، منذ انطلاقها شهر أكتوبر الماضي، انتفاضة لبداية ثورة تكنولوجيات الاتصال والإعلام في قطاع العدالة، حيث بمجرد الاستماع لبعض الأطراف المتواجدة رهن المؤسسات العقابية، من متهمين وشهود، عبر هذه التقنية الجديدة، تسارع الكثير من المحامين لإيداع طلبات لدى وكلاء الجمهورية والنيابة العامة، قصد انتهاج هذا النوع من المحاكمات عندما يتعذر نقل موكليهم من سجون ولايات بعيدة عن مقر محكمة الاختصاص.
من 4 إلى 5 طلبات في اليوم تتعلق بمحاكمات عبر"سكايب" تسجلها المحاكم الابتدائية للعاصمة، و6 طلبات أمام مجلس قضاء الجزائر وبومرداس، وهذا حسب مصادر قضائية، أغلب هذه الطلبات تتعلق بالشهود الموقوفين عن قضايا أخرى، أو لمتهمين موقوفين وصدرت ضدهم أحكام غيابية عن قضايا أخرى.
وكانت أول محاكمة مرئية بمحكمة القليعة الابتدائية التابعة لمجلس قضاء تيبازة، شهر أكتوبر 2015، سابقة في تاريخ الجزائر، حيث لم ينقل المتهم لقاعة الجلسة وتم الاستماع إليه باستعمال تكنولوجيا الإعلام والاتصال من المؤسسة العقابية من خلال تجهيز قاعة لجلسة علنية مفتوحة للمواطنين في محكمة الاختصاص، حضرتها هيئة الدفاع، بتجهيزات تكنولوجيا حديثة، وبنظام النقل المباشر للصورة والصوت لجميع زوايا القاعة الأخرى المتواجدة في السجن والموجود فيها المتهم الذي حددت هويته من خلال جهاز سمح لرئيس المحكمة بأخذ بصماته.

وتعتبر محكمة الحراش ثاني محكمة تابعة لمجلس قضاء الجزائر، تعتمد تقنية المحاكمة عن بُعد تتعلق بقضية ضرب وجرح، حيث أن المتهمين وهم ثلاثة حضروا الجلسة في قاعة الجنح بالمحكمة، في حين تم الاستماع للضحية المتواجد بسجن البويرة عن طريق "السكايب"، وهو شخص موقوف عن قضية أخرى وتعذر نقله لسجن الحراش.
قضايا وإن تعد على الأصابع، إلا أنها استطاعت أن توفر الوقت والمال للاستماع لمسجونين في مؤسسات عقابية تبعد بـ400 كلم عن المحكمة التي تجرى فيها الجلسة الكلاسيكية، وذلك بالمحادثة المرئية عبر"السكايب"، آخرها بالعاصمة الاستماع لمتهم في قضية تكوين جماعة أشرار، التزوير
واستعمال المزور من محكمة الحراش، وهو متواجد بالمؤسسة العقابية بالحراش، والاستماع لمتهم من محكمة باب الوادي وهو متواجد بسجن برج بوعريريج..خطوة وصفها رجال القانون بداية التحول لعصرنة قطاع العدالة.

20 ملفا شهريا، المساجين أكثر المحاكمين والتقنية مطلوبة من المحامين
المحاكمات المرئية رغم الانطلاقة المحتشمة لها، إلا أنها أعلنت عن انتفاضة في أفق تكنولوجيا الإعلام والاتصال، بدأت بإيداع الطلبات من طرف أصحاب الجبة السوداء أمام وكلاء الجمهورية المكلفين بجدولة القضايا في المحاكم الابتدائية، والنواب العامين بالمجالس القضائية، هذه الطلبات تخص سجناء تم محاكمتهم، وتبين فيما بعد أنهم متهمين في قضايا أخرى، أو موقوفين في مؤسسات عقابية يتطلب الأمر استدعائهم كشهود.. من 4 إلى 5 طلبات يوميا في كل من محكمة الحراش، حسين داي، وسيدي امحمد وبئر مراد رايس، وصلت أحيانا في بعض المحاكم لـ7 طلبات في اليوم، وهذا حسب الجولة الميدانية التي قادت الشروق لهذه المحاكم.
"هي البداية فقط والتجربة جديدة" الكلمات رددها وكلاء الجمهورية والقضاة والمحامين، ويقول أحد القضاة الذين تحدثنا معهم حول الموضوع، إن تقنية المحادثة المرئية للمسجونين، سترفع الضغط على القاضي الجزائي وتقلص عدد الملفات التي تطرح يوميا أمامه، مؤكدا أن60 بالمائة منها تم تأجيل النظر فيها، 30 بالمائة منها تتعلق بملفات تم تأجيلها لأكثر من 4 مرات.
أحد الوكلاء المكلفين بجدولة قضايا الجنح في المحاكم العاصمة، قدر عدد الملفات التي يتم إرجاء الفصل فيها لحوالي 4 مرات، تقدر بـ 20 ملفا يوميا تخص في غالب الأحيان سجناء في مؤسسات عقابية بعيدة عن محكمة الاختصاص، يعرقل نقلهم لحضور الجلسة.
قال إن تقنية المحاكمة عن بُعد، تسمح بالفصل في الملفات العالقة بسبب تحويل السجناء، وتخفف الضغط الذي يعيشه القضاة أثناء معالجته للقضايا والاستماع للمتهمين والشهود والضحايا، من خلال تراجع تأجيل القضايا، في السياق، رحب أغلب المحامين الذين التقت بهم الشروق في محاكم العاصمة بهذا الإجراء، حيث قال المحامي لدى مجلس قضاء الجزائر، مهدي عمار، إنه سارع بمجرد البدء في تطبيق المحاكمة عن بُعد عن طريق "السكايب" لإيداع طلب قصد الاستماع لأحد موكليه متواجد بسجن برج بوعريريج عن قضية أخرى، للمعارضة في حكم صدر ضده غيابيا، وتعذر الاتصال به في السجن، فاتفق مع عائلته عن تكاليف المرافعة في محكمة باب الوادي، مع إبقاء موكله في سجن برج بوعريريج، وتطرق مهدي عمار لقضية تتعلق بسجين متواجد في المؤسسة العقابية بالبرواقية ولاية المدية، سعى عدة مرات لتحويله إلى سجن الحراش، حيث تأجلت قضيته المعرض فيها 6 مرات ولحد الساعة لم يفصل فيها رغم تواجده اليوم في الحراش.

تجنيد فريق تقني لتحقيق الجدية في نقل الصوت والصورة
الشروق حضرت قضية في محكمة الحراش، تتعلق بالسرقة والتزوير واستعمال المزور، تورط فيها 4 متهمين أحدهم متواجد في سجن الأغواط، وكان على الجهات القضائية أن تستمع إليه عن طريق "السكايب"، حيث تم جدولة قضيته في قائمة المحاكمات عن بُعد.
توقفت الجلسة العادية لقضايا الجنح في حدود الثانية زوالا لمدة زمنية قصيرة، حيث أغلق باب قاعة الجلسة، وقام الفريق التقني المتواجد في إدارة المحكمة بربط الاتصال مع الغرفة المتواجدة في سجن الأغواط، حيث جهزت قاعة المحاكمة بشاشة كبيرة "بلازما" مقابلة للقاضي ووكيل الجمهورية ولمنصة تواجد المتهمين والشهود ومقابلة لبعض الجلوس في القاعة.
عندما فتحت القاعة للمتقاضين، ناد كاتب الضبط على أسماء المتهمين الثلاثة الذين تم تقديمه أمام القاضي، وكانت صورة المتهم المتواجد بسجن الأغواط تظهر على الشاشة، حيث كان جالسا على كرسي وأمام مكتب ومكتوب خلفه في الجدارية المؤسسة العقابية للأغواط.
بعد أن رفع يده لإعلان حضوره عقب ذكر اسمه، بدأ يجيب على أسئلة القاضي بكل برودة أعصاب، حيث نفى تورطه في سرقة السيارات علما أنه محكوم عليه عن قضية تتعلق أيضا بسرقة المركبات وتفكيكها.
الجلسة سادها صمت مطبق، والمحاكمة كانت تسير بشكل عادي، يوهمك أن المتهم متواجد أمامك وغير بعيد عنك بـ400 كلم.
القاضي كان يواصل طرح أسئلته والاستماع للأطراف بكل هدوء وتركيز، ليأتي دور الدفاع، حيث رافع محامي المتهم الرابع المتواجد في سجن الأغواط، في قاعة المحكمة عن موكله الذي كان يشاهده عن بُعد.
في آخر الجلسة خرج المحامون والمتقاضون ولا حديث سوى عن تقنية المحاكمة عن بُعد.. فهم بين منبهر ومعجب و مستغرب وناقد.

واقعة مادية سبقت واقعة قانونية
الإجراء الجديد الذي انتهجته وزارة العدل للاستماع للمتهمين والشهود الموقوفين في المؤسسات العقابية عن بُعد، وباللجوء لنظام"السكايب"، أحدث جدلا حسب الاستطلاع الذي قامت به الشروق، وسط رجال القانون، فرغم تطبيق هذا النوع الجديد من المحاكمات في الكثير من المحاكم الابتدائية عبر القطر الوطني، خاصة العاصمة، إلا أن بعض المحامين يجهلونها وتفاجؤوا باستفسارنا عنها في أروقة العدالة، وفي الوقت الذي انتقدتها فئة من أصحاب الجبة السوداء، إلا أن تقنية المحادثة المرئية للمساجين عن بُعد، تبقى عند العارفين بالقانون، تجربة فتية بمثابة شرارة لاندلاع ثورة تكنولوجية في مؤسسات العدالة، حيث أكد المحامي إبراهيم بهلولي أن التجربة بحكم حداثتها تشوبها بعض الأخطاء التقنية والسلبيات، وقال إن تدارك النقائص يأتي عن طريق الممارسة، وإنه من المتعارف أن الواقعة المادية تسبق دائما الواقعة القانونية، يعني أن المشاكل والحلول والايجابيات التي ستطرحها الممارسة الدائمة ومع مرور الوقت لتقنية المحاكمة عن بُعد، تستدعي إعادة النظر في النصوص القانونية.
أوضح بهلولي، أن برمجة قضايا لمسجونين في مؤسسات عقابية بعيدة عن مجالس القضاء، قصد الاستماع لهم عن طريق تقنية "السكايب"، عرفت بعض العراقيل وتم تأجيل أغلبها على غرار قضية جناية في مجلس قضاء الجزائر،
وهذا حسبه، لأن برمجة القضايا تخضع لرئيس المجلس القضائي الذي يعمل على جدولة القضايا بالتنسيق مع النائب العام، ويقوم بإجراءات قبل وبعد المحاكمة.
في السياق، يرى بن خيار ياسين محامي لدى مجلس قضاء الجزائر، أن تقنية المحاكمة عن بُعد تفتح المجال أمام الدفاع للطعن في شهادة أحد الأطراف في القضية الذي يسمع له عن طريق"سكايب"، حيث تستغل نوعية الصورة، التي غالبا ما تكون نوعيتها أقل من 100بالمائة، مضيفا أن المرافعات تتطور وتتنوع، حيث يدخل المحامي من هذا الباب، رغم أن هذا النوع من المحاكمات يقول تمنع المحامي من الالتقاء المباشر مع موكله.

.. حتى لا نفقد روح المحاكمة
عبد الرحمان موساوي محامي لدى مجلس قضاء الجزائر، رحب كباقي زملائه بتقنية المحاكمة عن بُعد، لما توفره من وقت عكس المحاكمة العادية، لكنه يحبذ اللجوء إليها كاستثناء فقط لحماية الشهود أو المتهمين المتورطين في قضايا حساسة وأمنية.
وقال إن المحاكمات عن بُعد بدايتها مثل بداية الهاتف الخلوي، ستظهر مع الوقت الايجابيات والسلبيات، لكن في حالة الاعتماد عليها كثيرا يجعل من جلسات المحاكم في القسم الجزائي تفقد الروح والطعم في المحاكمة.
وهو ما يراه المحامي ياسين بن خيار، والذي يؤكد أنه رغم حماية الشهود إلا أن الاستماع إليهم عن طريق"السكايب" يفتح لهم مجال التمادي في الظلم والتصريحات الكاذبة،
ويفتح المجال أمام المتهم للتمثيل والتحدث بكل برودة أعصاب بعيدا عن سلطة القاضي.
"إن المحاكمات مستقبلا تأخذ طابع الآلية، ويصبح الاستماع للمتهمين والشهود بطريقة آلية قد تؤثر على سير العدالة" يقول المحامي ياسين بن خيار.