دروس من كوالالامبور
19-07-2018, 07:24 PM
هل يمكن لدولة أن تقوم بطريقة حضارية مستلهمة روح الإسلام و مقاصده الروحية دون أن تتحول إلى دولة تيوقراطية؟ وهل هناك مثال عملي يشير إلى قيام مثل هذه الدولة؟ و ما طبيعة النظام السياسي لها؟
لعل التجربة الماليزية أقرب إلى الفهم و التطبيق بالنسبة لعالمنا العربي و الإسلامي بسبب وحدة الثقافة و الدين و تشابه التاريخ و الموزاييك الاجتماعي.
ماليزيا ... هذه الدولة التي تدين غالبية سكانها بالإسلام و التي كان يسمي العالم عاصمتها (كوالالامبور) بعاصمة الطين حتى أواخر السبعينيات كيف تحققت المعجزة فيها وأصبحت أحد أنجح اقتصاديات جنوب آسيا والعالم الإسلامي كله؟
لقد انخفضت نسبه الفقر من 52% عام 1970 إلى 5% عام 2002 وارتفع متوسط الدخل من 1200 دولار سنويا في العام نفسه إلى 10000 دولار عام 2002 وانخفضت نسبة البطالة إلى 3% وتحققت نسبه نمو اعتبارا من عام 1970 و حتى 1980 بنسبة 6.7 % وعشر السنوات التي تليها بنسبة 7.1%. علما بأن مصادر الثروة الطبيعية المتوفرة لماليزيا تعتبر متواضعة جدا إذا قيست بثروة دول الخليج.
أما الهدف و البوصلة التي تضعها ماليزيا اليوم أمامها و التي يناقشها ويسعى إليها الماليزيون في محافلهم بتشوق و لهفة فهي "خطة ماليزيا 2020 " والتي تهدف إلى أن يكون مستوى المعيشة للمواطن الماليزي موازيا تماما لمثيله في الغرب وأن تصبح ماليزيا دولة مكتملة البنيان الصناعي، وأن تتثبت الهوية الوطنية للأمة الماليزية وفق مفهوم المجتمع المدني الراسخ بحلول عام 2020.
تحتل ماليزيا الآن الرقم 18 في خريطة الصناعة العالمية. فنسبة التصدير الصناعي 85% من إجمالي الصادرات وبذلك يساهم إنتاجها الصناعي بنسبه 90% في الناتج القومي الإجمالي، وكل 100 سيارة تسير في شوارعها منها 20 سيارة فقط مستوردة.
لقد قيض الله لماليزيا قائدا فذا سيرتبط أسمه بنهضتها دائما هو: (مهاتير محمد)؛
ولد مهاتير محمد عام 1925م بولاية كيداه بماليزيا وهو الابن الأصغر لتسعة أشقاء والده كان يعمل مدرساً في مدرسة ابتدائية براتب لم يكن يكفي ليحقق حلم مهاتير في الحصول على دراجة يذهب بها إلى المدرسة الثانوية ومن هنا بدأ الكفاح فعمل مهاتير بائعا للموز في الشوارع حتى كان له ما أراد ثم تخرج من المدرسة الثانوية ،ليتلقى دراسته بكلية السلطان عبد الحميد، ثم درس الطب بكلية "المالاي" في سنغافورة، والتي كانت تعرف بكلية الملك إدوارد السابع الطبية، وأصبح رئيساً لإتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة قبل تخرجه عام 1953 وقام بدراسة الشؤون الدولية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1967
عمل طبيباً في الحكومة الانجليزية التي كانت محتلة لبلاده حتى استقلال ماليزيا عام 1957 م. بعد استقلال ماليزيا فتح عيادته الخاصة ك (جرّاح) وخصص نصف وقته للكشف المجاني على الفقراء كما عمل ضابطا طبيبا في سلاح الخدمات الطبية، وعُرف مهاتير باهتماماته السياسية، فانضم لتنظيم اتحاد الملايو حيث تدرج فيه حتى أصبح عضو المجلس الأعلى لتنظيم اتحاد الملايو الوطني.
فاز بعضوية مجلس الشعب عام 1964 وخسر مقعده بعد خمس سنوات وبدأ ظهور الدكتور مهاتير محمد في الحياة السياسية الماليزية في عام 1970م، وذلك عندما ألف كتابًا بعنوان "معضلة الملايو"، انتقد فيه بشدة شعب الملايو واتهمه بالكسل، والرضا بأن تظل بلاده دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، وكان في ذلك الوقت عضوًا في الحزب الحاكم، والذي يحمل اسم منظمة الملايو القومية المتحدة، وقرر الحزب منع الكتاب من التداول نظرًا للآراء العنيفة التي تضمنها، وأصبح مهاتير محمد في نظر قادة الحزب مجرد شاب متمرد لا بد أن تحظر مؤلفاته.
غير أن مهاتير سرعان ما أقنع قادة الحزب بقدراته، مما يدل على حنكته السياسية؛ فهو لم يغضب ويترك الحزب، وبالفعل صعد نجمه في الحياة السياسية بسرعة، حتى تولى رئاسة وزراء بلاده في عام 1981م، وأتيحت له الفرصة كاملة ليحوِّل أفكاره إلى واقع عملي.
لم يكن مهاتير محمد مجرد رجل سياسة، بل كان أيضًا مفكرًا له كتبه ومؤلفاته، وكان صاحب رؤية لما ينبغي أن تكون عليه بلاده، ولقد استفاد مهاتير من كل ما حققته ماليزيا منذ الاستقلال من نجاحات واستثمرها وجعلها قاعدة لانطلاقته، ولم يرد الدكتور مهاتير أن يكون انطلاقه عشوائيًّا، بل بدأ يبحث في تجارب الدول الأخرى وخاصة الآسيوية، حيث اتسمت سياسته بالاتجاه شرقًا، واستقر اختياره على المعجزة اليابانية، فجعلها أمامه قدوة ومثلاً أعلى.
في نوفمبر2014 كان لمهاتير ما يقوله للعرب:
و في منتدى كوالالمبور للفكر و لحضارة الذي انعقد على مدار أيام ثلاثة في الفترة من 10-13 نوفمبر 2014 تحت عنوان:
“الدولة المدنية رؤية إسلامية”،
كان لمهاتير ما يقوله للعرب كما يلي:
أولاً: لا استقرار بدون تنازلات:
شرح مهاتير محمد هذه النقطة بدقة وقال نحن في ماليزيا بلد متعدد الأعراق والأديان والثقافات وقعنا في حرب أهلية ضربت بعمق أمن واستقرار المجتمع؛ فخلال هذه الاضطرابات والقلاقل لم نستطع أن نضع لبنة فوق أختها فالتنمية في المجتمعات لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام، فكان لزامًا علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المكونات الوطنية دون استثناء، والاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع لكي نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية في البلد وقد نجحنا في ذلك من خلال تبني خطة 2020 لبناء ماليزيا الجديدة، وتحركنا قدما في تحويل ماليزيا إلى بلد صناعي كبير قادر على المنافسة في السوق العالمية بفضل التعايش والتسامح.
ثانيًا: لابد من توجيه اهتمامنا إلى الملفات الحقيقية التي تهم المجتمع:
ركز مهاتير محمد على ضرورة توجيه الجهود والطاقات إلى الملفات الحقيقية التي تمس حياة الشعب ورفاهيته، وهى الفقر والبطالة والجوع والجهل لأن الانشغال بالأيديولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ثقافية وفكرية عليه لن يقود المجتمعات إلا إلى مزيد من الاحتقان والتنازع، فمع الجوع والفقر لا يمكنك أن تطلب من الناس بناء الوعي ونشر الثقافة، وقال: نحن المسلمين صرفنا وقتا و جهدا كبيرا في مصارعة طواحين الهواء من خلال الدخول في معارك تاريخية مثل الصراع بين السنة والشيعة، وغيرها من المعارك القديمة.
ثالثًا: الفتاوى لن تحل مشاكل المسلمين
شرح مهاتير هذه النقطة باستفاضة فقال إن قيادة المجتمعات المسلمة والحركة بها للأمام ينبغي أن لا يخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ؛ فالمجتمعات المسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ أصيبت بالتخلف والجهل، فالعديد من الفقهاء حرموا على الناس استخدام التليفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، وجرموا تجارب عباس بن فرناس في الطيران.
وقال مهاتير إن كلام العديد من الفقهاء “بأن قراءة القرآن كافية لتحقيق النهوض والتقدم!!! أثر سلبًا على المجتمع فقد انخفضت لدينا نسبة العلماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب بل بلغ الأمر في بعض الكتابات الدينية إلى تحريم الانشغال بهذه العلوم؛ وبالتالي أكد مهاتير على أن حركة المجتمع لابد أن تكون جريئة وقوية، وعلى الجميع أن يُدرك أن فتاوى وأراء النخب الدينية ليست دينًا، فنحن نُقدس النص القرآني ولكن من الخطأ تقديس أقوال المفسرين واعتبارها هي الأخرى دينًا واجب الإتباع.
رابعًا: عون الله لا يصيب المُتعصبين
قال مهاتير: “إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم” فنحن المسلمين قسمنا أنفسنا جماعات وطوائف وفرق يقتل بعضها بعضًا بدم بارد، فأصبحت طاقتنا مُهدرة بسبب ثقافة الثأر والانتقام التي يحرص المتعصبون على نشرها في أرجاء الأمة عبر كافة الوسائل وبحماس زائد ثم بعد كل هذا ذلك نطلب من الله أن يرحمنا ويجعل السلام والاستقرار يستوطن أرضنا!!! فذلك ضرب من الخيال في ظل سنن الله التي يخضع لها البشر فلابد من أن نساعد أنفسنا أولا وأن نتجاوز آلام الماضي وننحاز للمستقبل ... فنحن هنا في ماليزيا قررنا أن نعبر للمستقبل وبمشاركة كل المكونات العرقية والدينية والثقافية دون الالتفات لعذابات ومعارك الماضي فنحن أبناء اليوم وأبناء ماليزيا الموحدة نعيش تحت سقف واحد ومن حقنا جميعًا أن نتمتع بخيرات هذا الوطن.
وفي الختام اقترح مهاتير على الشباب العربي فتح قنوات التواصل مع قادة التجربة الماليزية المُبهرة؛ ففي جعبتها أدوية متنوعة قد تصلح لمعالجة أدواء الذاكرة العربية التاريخية والمعاصرة.