قصة قصيرة : كان بكاؤك فى الحلم مريراً
08-02-2018, 08:58 AM


قصة قصيرة بعنوان : كان بكاؤك فى الحلم مريراً


تأليف : يوري كازاكوف
ترجمة : د . أحمد الخميسي
________________


كان يوماً من أيام الصيف الدافئةإلى جنب بيتنا، وقفتُ مع صديقى نتبادل الحديث، بينما تمشيتَ أنت قربنا، وسط أعشاب وزهور تطول كتفيك. وحيناً كنتَ تقعد القرفصاء لحظة، ترنو إلى صنوبرة دقيقة، أو عود عشب، وقد لانت على وجهك نصف بسمة لا تفارقه، نصف بسمة لم تفصح عن مكنونها، حاولتُ كثيراً أن أدرك مغزاها، لكن بلا جدوى.

وبين وقت وآخر، كان كلبنا "تشيف" يركض نحونا، فلما أتعبه الجرى بين أحراش التوت توقف بين ذراعيك وقد حاد عن مواجهتك قليلا، ثم شب بكتفيه نحوك كذئب، شاخصاً إليك بعينين قهوائيتى اللون، متوسلاً إليك وهو يلوى رقبته بجهد أن ترمقه بنظرة رقيقة. وكان ـ إذا تطلعتَ إليه ـ يجثو فى الحال على قائمتيه الأماميتين، ويهز ذيله القصير فى الهواء وهو ينبح نباحاً مكتوماً. ولا أدرى لماذا كنتَ تتهيب "تشيف"، فحين وقف قبالتك، درتَ من حوله بحذر، واتجهتَ إلىَّ، وأحطتَ ركبتى بذراعيك، ثم رفعتَ رأسك متطلعاً نحوى بعينين زرقاوين تعكسان السماء، وتمتمتَ برقة وفرحة كأنك وصلت لتوك من مكان بعيد: "بابا".
وحين التفت يداك الصغيرتان حول ساقى شعرت بعذوبة من الألم تغمرنى.
وبدا أن صديقى قد ارتجف لأنك طوقتنى هكذا فجأة، فانقطع عن الحديث بغتة، ومد يده وداعب بأصابعه شعر رأسك المهوش، وتأملك برهة..

الآن، لن يرمقك ذاك الصديق بنظرته الحانية، ولن يخاطبك أبداً، لأنه لم يعد موجوداً فى هذه الدنيا بعد، أنت أيضاً لن تتذكره بطبيعة الحال، كما أنك لن تتذكر أشياء أخرى كثيرة. لقد أطلق النار على نفسه فى نهاية الخريف عند بدايات سقوط الثلوج الأولى.. ترى هل شاهدها؟. هل ألقى نظرة من خلال زجاج الشرفة على المنطقة التى امتدت أمامه وقد أصابها الصمم فجأة؟ أم أنه أطلق النار على نفسه قبل ذلك.. فى المساء؟. وهل تساقطت الثلوج فى اليوم السابق لما جرى، أم أن الأرض كانت سوداء حين هبط من قطار الضواحى، واتخذ طريقه إلى بيته كماض إلى ساحة إعدامه؟.
حقاً، ألا يسوقنا هبوط الثلوج الأولى إلى روح السكينة ومزاج الكآبة؟، ويسلمنا إلى وجوم شوارد الأفكار المتأنية الراكدة؟
متى؟ فى أية دقيقة؟ تملكته تلك الفكرة المؤسفة، المروعة، ثم راحت تطارده؟ الأغلب أن ذلك الخاطر قد طرأ له منذ زمن بعيد. أكثر من مرة صارحنى بالوحشة التى تنتابه مع بداية الربيع ونهاية الخريف، حينما يكون وحده بداره الريفية، فينزع إلى وضع حد لكل شىء، دفعة واحدة بإطلاق النار على نفسه.. ولكن من الذى لا تفلت منه مثل هذه الأحاديث لحظة الوحشة؟
لقد اعتصرته ليال مرهقة، لم يذق فيها طعم النوم، وقد بدا له طيلة الوقت أن أحداً يتسلل إلى البيت، يشيع فيه أنفاس البرودة، مبتغياً أن يسلبه لبه. كان الموت قد اندس إليه.
رجانى ذات يوم: أستحلفك بالله أن تعطينى بعض الطلقات النارية لقد استنفدت ما كان عندى، ويخيل لى أن أحداً يجوس فى البيت ليلاً.. بينما يسود البيت هدوء مطبق كأنى بين المدافن.. أتفهم قصدى؟ الآن.. هل ستعطينى؟
أعطيته ست طلقات، وقلت له ضاحكاً: لعلها تكفيك.

كان لا يكف عن العمل المتصل، الدءوب، وكانت حياته المتقدة بالنشاط، تجعلنى أشعر بالتقصير دائماً. وكنت إذا زرته فى أى وقت تجده مشغولاً بعمله، فإن كان الوقت صيفاً تدخل إلى بيته من ناحية الشرفة، وترفع رأسك متجهاً ببصرك إلى علية البيت، نحو النافذة المفتوحة، ثم تنادى دون زعيق: "ميتيا". وسرعان ما يوافيك صوته: "آها". ويلوح وجهه فى النافذة، ويظل دقيقة كاملة يتأملك بنظرة غائبة وراء ضباب، ثم تبدو على وجهه بسمة واهنة ويشير بيده النحيفة قائلاً: "الآن"، ويهبط من الدور العلوى إلى الدور الأرضى حيث تمتد شرفة البيت، ويطل عليك مرتدياً "البلوفر" السميك، وتحس أنه يتنفس بهدوء وعمق خاص عقب فترة طويلة من العمل، فترمقه ببهجة بل وبغبطة، كما تحس وأنت تنظر إلى فرس قوى مفعم بالحيوية، تتبادل قوائمه طرق الأرض بنفاد صبره، ليطلقوا له العنان فيعدو.
كان يقول لى، إذا أصابنى مرض أو انتابنى اكتئاب:
ـ ما هذا؟ لماذا تنساق لنفسك هكذا؟ اتخذنى مثالا.. فأنا لا أكف عن السباحة فى نهر "ياسنوشكا" حتى فى أواخر الخريف، فلماذا أجدك راقداً أو جالساً هكذا طيلة الوقت؟. انهض وقم ببعض التمرينات الرياضية..

فى منتصف شهر أكتوبر التقيت به للمرة الأخيرة. وكان يوماً مشمساً بديعاً، جاءنى أنيقاً للغاية كعادته دوماً، معتمراً غطاء رأس من وبر منفوش، لكن شيئاً فى وجهه كان منكسراً وحزيناً. ومع ذلك، فقد تدفقت أحاديثنا فى البداية بصورة حية، وخضنا فى نقاش لا أذكر باعثه عن البوذية، وتكلمنا فى أن الوقت قد حان بالفعل للبدء فى كتابة الروايات الكبيرة، وأن السعادة الوحيدة الممكنة تتمثل فى العمل اليومى وحده، وهو أمر يصبح مستطاعاً فقط حين تعكف على كتابة عمل كبير.
رافقته وهو ينصرف.
وفجأة نشج بالبكاء، وأشاح بوجهه عنى. وبعد أن هدأ قليلاً غمغم قائلاً:
ـ حينما كنت هكذا، مثل طفلك آليوشا، بدا لى أن السماء عالية هذا العلو، زرقاء هذه الزرقة لكنها جعلت تبهت فيما بعد، لكن ذلك بسبب تقدمى فى السن.. أليس كذلك؟ فهذه الشمس هى ذاتها التى كانت تشرق فيما مضى.. ألست محقاً؟ هل تدرى أنى أخشى "أبرامتسيفا"
! #خشى
! أخشى تلك الضاحية، فكلما عشت بها أكثر زاد تعلقى بها، ولكن.. أليس من الإثم أن يتعلق الإنسان بمكان واحد إلى هذه الدرجة؟ لقد رفعت "آليوشا" على كتفيك.. ألم تفعل؟ أنا أيضا حملتُ أطفالى صغاراً، وحين اشتد عودهم ركبت الدراجات معهم رافقتهم، قاصدين ما يعجبنا من أمكنة فى الغابة الواسعة، وكنت أحادثهم طوال الوقت، أكلمهم عن "أبرامتسيفا"، وعن أرض "رادانيجسكى"
، متمنياً أن يتيموا بهذه الأرض، فهى إن شئت الحقيقة موطنهم، وأرضهم الأم!
ويبدو أن نبات الخردل البازغ عند حواشى الطريق قد استرعى انتباهه بشدة، فغير مجرى الحديث قائلاً:
ـ آه.. انظر إلى هناك، انظر.. أى خردل أبيض سيظهر عما قريب!
وطفق يُسر إلىَّ بمشاريع عمله التى أعدها للشتاء. وكانت السماء زرقاء إلى درجة مذهلة، وضاءت أوراق الخردل البيض بلون شمسى، ذهبى كثيف. توادعنا بمودة خاصة، وإحساس حميم بالصداقة.
* * *

بعد ذلك بثلاثة أسابيع، عند شاطىء البحر فى "جاجرى"
، تقصف رعد السماء، ودوى، وكأنه يقصدنى، وكأن الطلقة الليلية التى دوت فى "أبرامتسيفا" قد حلقت فى سماء روسيا كلها، ودوّمت حتى أدركتنى عند شاطىء البحر. حينذاك ـ تماماً كما يعرض الآن وأنا أكتب هذه الصفحات ـ كان الموج يلطم الشاطىء، والبحر يزفر فى الظلمة رائحته من الأعماق، وهناك بعيداً ناحية اليمين، التفت تدور مع قوس الخليج سلسلة من الفوانيس المتلألئة المنيرة.
كنتَ أنتَ قد بلغتَ الخامسة، جلستَ إلى جانبى عند الشاطىء المعتم قرب وجيب الأمواج التى غيبتها الظلمة، ننصت إلى وشوشتها وإلى طقطقة الحصى البليل وهو يثب مع جزر الموج المنحسر، ولا أدرى فيمَ كنتَ تفكر، كنتَ جالساً صامتاً، لا أعرف لماذا. أما أنا، فقد خيل لى أننى أمضى هناك.. فى "أبرامتسيفا"، أمشى من محطة القطار قاصداً بيته، ولكن عبر طريق آخر غير الذى كنت أقطعه عادة، وتلاشى البحر من أمامى وتبددت جبال الليل من حولى، وقدرتُ فى الظلمة ـ من الأنوار التى تضىء بعيداً ـ موقع البيوت القليلة. سرت فى طريق مرصوف بقطع الزلط، كسته الثلوج الأولى. وحين التفت خلفى شاهدت آثار قدميى، سوداء، مطبوعة بدقة على ثلج منطفىء البياض، وتحركت متجهاً يساراً، وأخذت أخطو بمحاذاة بحيرة كابية المياه، وإن كانت حوافها منيرة. ووجدتنى أتوغل فى عتمة من أشجار الشربين، واستدرت إلى الناحية اليمنى فواجهنى درب مسدود، حدقت قبالى مباشرة، وشاهدت داره الريفية المحمية بأشجار الشربين نوافذها مضاءة.
ولكن.. متى وقع ذلك؟ مساء.. أم ليلاً.. متى؟
تمنيتُ ـ لا أدرى لماذا ـ أن تحل باكورة الفجر الخفيف لليل نوفمبر. أنه أوانها فيه ترقب تباشير الصبح من الثلج الذى يزداد بياضاً، والشجر الذى يتحدد ويبرز من لجة الغبشة الشاملة.
ها أنا أصل إلى بيته المطوق بسور دائرى وأفتح الباب الخشبى الصغير بالسور، ثم أرتقى درجات السلم، لأقف فى الشرفة الفسيحة، وأرى...
سألنى ذات يوم: "أسمع.. هل تعتبر طلقات الرش ذخيرة قوية؟ أقصد إذا أطلقتها من مسافة قريبة؟".
أجبته: "بالطبع! فلو أنك ـ من على بعد نصف متر ـ صوبت على شجرة حور صغيرة، ولنقل أن ساقها بعرض ساعد اليد، فإن طلقة الرش ستجز الشجرة كحد الموسى".
مازالت تعذبنى إلى الآن ذات الفكرة: ما الذى كنت سأفعله، لو أننى شاهدته حينذاك وهو جالس فى الشرفة والبندقية مرتكزة إلى الأرض بين قدميه وفوهتها نحو وجهه، بينما إصبع إحدى قدميه على زنادها؟. ترى هل كنت سأحطم الباب على الفور وأكسر الزجاج وأنا أصرخ بكل صوتى إلى أبعد مدى فى المنطقة؟ أم أننى كنت سأحول بصرى عنه من شدة الرعب ممسكاً أنفاسى، على أمل أنه إذا لم يحس بوجودى فربما يعيد النظر ـ من تلقاء نفسه ـ فيما قرره؟ فينحى البندقية جانباً، وبحذر يؤمن بإبهامه زنادها وأخيراً يتنفس الصعداء، يتنفس بعمق.. بعمق كأنه يفيق من كابوس، ثم يهدأ.. وينتعل خفيه..؟
ولو أننى كسرت الباب مهشماً زجاجه واندفعت صوبه صارخاً.. أكان سيلقى بالبندقية جانباً ويثب نحوى سعيداً؟ أم أنه على العكس كان سيعجل بالضغط بإصبع قدمه على الزناد وهو يحدجنى بعينين ميتتين تنطقان بالكراهية؟
إلى الآن مازالت روحى تحلق صوب بيته فى تلك الليلة، تحوم باذلة أقصى قدرة متلهفة على التوحد بروحه، ماضية وراء كل حركة يقوم بها، معتصرة كل جهدها لتخمن ما يدور برأسه.. ولكن بلا جدوى، فتئوب إلىَّ من جديد لقد بلغ داره الريفية فى وقت متأخر من المساء، فماذا فعل فى الساعات الأخيرة من عمره؟ لعله ـ قبل كل شىء ـ قد بدل ملابسه، وعلق بذلته فى الصوان، علقها لا كيفما اتفق، بل على نحو مرتب كما اعتاد.. ثم خرج بعد ذلك ليأتى بحطب لتسخين المدفأة.. وتناول تفاحة ليأكلها. لكن هل استولى عليه ذلك القرار المهلك فى الحال؟ لا أظن. فكيف لمن اتخذ قراراً بالانتحار أن يهتم بتسخين المدفأة وأكل تفاحة؟ كلا.. إنه يتراجع عن تسخين المدفأة بغتة، ويستلقى راقداً، وفى تلك اللحظة على الأرجح يتخذ قراره.
ترى ما هى الصور التى تراءت له؟ هل استغرقته ذكرياته فى الدقائق الأخيرة؟ أم أنه لم يستسلم لها وشرع يعد نفسه فحسب لما قرر الإقدام عليه؟ هل بكى؟ أم نهض واقفاً، واستحم، ارتدى ملابس داخلية نظيفة، وكانت البندقية معلقة على الجدار، رفعها من مكانها، وأحس وهو يحملها بثقلها البارد وجمود الماسورتين الفولاذيتين، ورقد بيت الطلقات بطواعية فى راحة يده اليسرى، وتحت ضغط إبهام يده اليمنى تحرك لسان الترباس ببطء نحو اليمين، وانقصمت البندقية إلى نصفين، وعند موضع القصم كشفت عن فتحتى الماسورتين.. وانزلقت رصاصة واحدة فى إحدى الماسورتين، انزلقت بنعومة ويسر. الرصاص الذى أعطيته له. أضاء النور فى أرجاء الدار كلها، وأضاء نور الشرفة، جلس على مقعد وخلع خفه من قدمه اليمنى، ثم فك أمان الزناد، فكه بطقة رنت فى الصمت المطبق، وأولج طرف البندقية فى فمه، ضغط عليها بأسنانه فأحس ملمس الماسورتين وطعمهما المعدنى، البارد، الزلق..
ترى هل خلع فى الحال خفه بعد أن جلس على المقعد؟ أم أنه ظل واقفاً طيلة الليل لاصقاً جبينه بالزجاج الغائم من الدمع والشهيق؟ أم أنه قام بجولة أخيرة فى قطعة الأرض الصغيرة الملتفة حول الدار، مودعاً الأشجار، ونهر "ياسنوشكا"، والسماء، ومقعده الخاص فى الحمام العزيز المبنى خارج الدار؟ ترى هل سقط إصبع قدمه على الزناد فوراً؟ أم أنه لقلة خبرته أخطأ الزناد، وظل بعد ذلك لفترة طويلة يلتقط أنفاسه وهو يمسح عرقه البارد.. ثم راح يستجمع قواه مرة أخرى متأهباً لمحاولة ثانية؟ هل أغمض عينيه حينما أطلق النار؟ أم أنه تطلع إلى شىء ما بعينين مفتوحتين على وسعهما حتى ومضة العقل الأخيرة؟

ليس الضعف، لا، لكنها الصلابة، والقدرة العظيمة على الحياة هى ما يحتاجه المرء ليبتر حياته بتراً بتلك الطريقة. لكن ما الذى دفعه إلى ذلك؟ ماذا؟ أفكر فلا أجد إجابة. هل انطوت حياته الحافلة بالعمل والحيوية على عذاب لم أكن أعلم به؟ وإن كان، فهل المعذبون من حولنا قلة؟ كلا.. لا يلجأ الإنسان إلى الرصاص لذلك السبب. هل كان محتماً عليه منذ الميلاد ذلك القضاء المميت؟ وهل حقاً أن كل إنسان موسوم بقدر لا نراه، يوجه مجرى حياتنا منذ البداية وإلى النهاية؟
وجاست روحى فى ظلمة.
* * *

كان يوماً من أيام الصيف الدافئة كما قلتُ من قبل، وكان لا يزال حياً بيننا، وكان يوماً مشمساً ساطعاً، يوماً مديداً.. مديداً، من أيام الصيف التى نتذكرها بعد انقضاء سنوات فتبدو لنا أياماً بلا نهاية. ودَّعنى فى ذلك اليوم، ومرة أخرى داعب بأصابعه شعر رأسك، ومست شفتاه ـ من بين شاربه وذقنه ـ جبينك، مسته برقة، ودغدغتْك قبلتُه فأُغرقتَ فى ضحك سعيد. وانصرف "ميتيا" قاصداً داره.
وانطلقنا، أنا وأنت، وأخذت معى تفاحة كبيرة للطريق، وبدأنا رحلتنا التى تمتعنا منذ الصباح بتخيل مسراتها المقبلة. وعندما رأى "تشيف" أننا نستعد للحركة، ركض مقترباً منا ثم جرى على الفور أمامنا يسبقنا وكاد أن يوقعك على قدميك، ففرد أذنيه فى الهواء ترتجفان رجفة جناحى فراشة، ثم وثب عالياً إلى الأمام، وتوارى عن أعيننا بعيداً فى الغابة.
ياه.. يا له من طريق امتد أمامنا طويلاً، كيلو متراً بأكمله تقريباً، مضمراً لنا المتع الحلوة، ورغم أنك مشيت فى هذه السكة من قبل، ووطأتها أكثر من مرة، فتعرفت إلى بعض جوانبها، لكن.. هل أن وقتاً يشبه وقتاً آخر؟ وهل أن ساعة من الزمان تشبه الأخرى؟ ففى سيرنا، غامت الدنيا تارة وتارة أخرى أشمست، مرة تشبعت بالندى، ومرة تلبدت سماؤها كلها بالسحب، وحيناً آخر زأرت مدحرجة رعدها، فهطل رذاذها، وانعقدت خيوط الماء الدقيقة الجارية خرزات تنتظم عقوداً على الفروع الجافة النحيلة لشجر الشربين، وغسل الماء حذاءك الأحمر فالتمع بلطف، وأعتمت أرض الممشى بلون زيتى غامق منطفىء، ودفعة كانت الريح تهب فتدمدم أشجار الحور، وتغمغم قمم البتولا والشربين، طوراً كانت صباحاً، وطوراً آخر منتصف نهار، وقتاً برداً، ووقتاً حراً، لم يكن هناك يوم واحد يماثل الآخر، ولا ساعة، ولا شجيرة.. لا شىء.
فى ذلك اليوم، كانت السماء زرقاء صافية، زرقة هادئة شاحبة، ليست تلك الزرقة النفاذة التى تسيل جداول صوب أعيننا فى أوائل الربيع، أو تلك التى ترجف أرواحنا حين تنفذ من فرجة فى السحب المنخفضة عند أواخر الخريف. وكنتَ فى ذلك اليوم مرتدياً فانلة ليمونية، وسروالاً أحمر، قدماك فى صندل بنى، يطل منه جورب أصفر. وكانت ركبتاك مخدوشتين، وقد بدت ذراعاك بيضاوين، وقدماك أيضاً، وكتفاك.. أما عيناك الواسعتان، الرماديتان بزرقة، المحاطتان بالنمش الدقيق، فقد ازدادتا زرقة وإعتاماً لا أدرى لماذا.
تركنا مدخل البيت خلف ظهرينا، وسرنا نحو الباب الخلفى الصغير. سرنا أول الأمر فى الممر الضيق الذى غارت بقع الظلال فى أرضه ملاصقة لقطع الشمس، وكنا نتخطى جذور شجر الشربين، فتنثنى أوراق الجذوع مرنة تحت أقدامنا. وفجأة توقفت فى مكانك كأنما تسمرت ورحتَ تتطلع إلى ما حولك، وعلى الفور أدركتُ أنك تبحث عن العصا.. العصا التى لم تكن تتصور بدونها أية نزهة. وبحثتُ فى الممر حتى وجدت لك عوداً من شجرة جوز فقصمته، وناولتك نصفه: العصا. وغضضتَ بصرك فرحاً لأننى خمنتُ أمنيتك، وأخذتَ العصا منى ومددت الخطو أمامى وأنت تلامس بطرفها جذوع الأشجار الداخلة إلى أرض الممر، وأوراق السرخس الطالعة ملتفة كآلة الكمان ورطبة من الظلال.
أحنيتُ رأسى أتابعك ببصرى، وكنت ألمح قدميك الصغيرتين وهما تتبادلان الخطو إلى الأمام، وكنت أرى رقبتك النحيلة وخصلات شعرك الفضى التى كست رقبتك من الخلف، وذؤابة شعرك المنفوشة، وحاولت أن أستعيد صورتى وأنا صغير، فتألبت علىَّ الذكريات على الفور.. لكن.. مهما تكن صورى المستعادة من أبعد فترات الطفولة، كنتُ كيفما تذكرت نفسى أرانى أكبر منك وأنت تمشى الآن إلى جوارى.
مشينا حتى انفسح أمام بصرنا فجأة خلاء واسع عن يسارنا، كاشفاً تحته عن واد صغير، ترقرق فيه نهر "ياسنوشكا"، وانبعثت من المروج الساخنة رائحةً دافئةً مستفيضةً فى روح الغابة التى طوقتنا من كل ناحية..
رددتُ بصورة تلقائية مطلع أغنية للأطفال:
ـ "آليوشا.. رجله بدرى..".
واستجبتَ ببساطة فى الحال:
ـ "ماشيه على السكة تجرى".
وأدركتُ وأنا أرى ارتعاشة أذنيك الشفافتين أنك ابتسمت.
لقد سعيتُ أنا أيضاً، فى وقت مضى، مثلك الآن هكذا، فى بحبوحة من الزمن، وكان صيف حينذاك، وكانت الشمس حامية، والنسيم يدفع أمامه شذى كرائحة هذه المروج.. كان ذلك بإحدى المناطق فى ضواحى موسكو. وكنتُ أقف فى حقل واسع انقسم الناس فيه إلى قسمين، فوقفت جماعة منهم عند طرف حقل، حيث امتدت خلفه فى العمق غابة ليست كثيفة من أشجار البتولا، وتألفت تلك الجماعة من النسوة والأطفال وحدهم، وكانت غالبية النساء يبكين وهن يجففن دموعهن بمناديل الرأس الحمراء. وفى الطرف المواجه لنا من الحقل وقف فريق من الرجال صفاً واحداً لاح خلفهم مرتفع لمزلقان سكة حديدية، وبدت فوق المزلقان عربات شحن بنية داكنة من قطار انطلقت صفارته وتصاعد أمامه دخانه الأسود عالياً بعيداً.. وكانت حفنة من الرجال بالقمصان العسكرية يروحون ويجيئون بيننا وبين صف الواقفين..
كانت أمى تبكى مع النساء، وتجفف دمعها الجارى، وكانت تزر ـ طوال الوقت ـ عينيها ضعيفتى البصر وتسألنى: "يا ابنى.. هل ترى أباك؟ هل لمحته؟ قل لى أين يقف. على الأقل أشر لى فى أية ناحية هو..". قلت لها: "نعم.. أنى أراه يا أمى"، وبالفعل كنت قد شاهدته هناك بين الرجال فى الجانب الأيمن من الصف، ورآنا هو الآخر فابتسم، وكان يلوح لنا بيده من وقت لآخر، لكنى لم أدرك ما الذى يمنعه من التقدم للقائنا، أو يمنعنا نحن من المضى إليه.
وشعرتُ بغتة بتيار من القلق يسرى بيننا، وأمسكتْ بضعة من الأولاد والبنات بربطات صغيرة، وشرعوا وهم مترددون، يعدون عبر المروج الواسعة إلى الطرف الآخر من الحقل. وبتعجل دفعت أمى إلىَّ بربطة ثقيلة من الملابس والمعلبات، ولكزتنى، وصوتها المرتفع يلاحقنى: "أسرع إلى أبيك يا ابنى واعطه الربطة، قبله وقل له أننا ننتظر عودته". وكانت الوقفة الطويلة فى الحر قد أرهقتنى، فسعدت بتلك المهمة وجريتُ مع الأولاد الآخرين..
وتلألأت ركب الأطفال العارية بضوء الشمس المتقطع وأنا أعدو بينهم فى الحقل، وكانت البهجة تخز قلبى لأن أبى ـ أخيراً ـ سيضمنى إلى صدره، ويرفعنى بذراعيه ليقبلنى، ولأننى سأستمع من جديد إلى صوته، وأنشق رائحة دخانه الهادئة. لم أكن قد رأيت أبى منذ زمن بعيد، بعيد، حتى أن ذكرياتى القليلة عنه كانت كأنما اكتست بغلالة من الرماد الرقيق، وأصبحت إحساساً بالشفقة على نفسى، لأننى وحيد من دون كفيه الغليظتين، الخشنتين، وحيد من دون صوته، ونظراته التى كان يلقيها على نفسه فى المرآة. كنت أعدو وأنا أتخطف النظر تارة إلى الأرض التى تجرى من بين قدمىَّ، وتارة إلى وجه أبى الذى ميزتُ فيه شامة صدغه.. واتضح لى وجه أبى وقد حطت عليه التعاسة فجأة، ولاحظت أنه كلما قلت المسافة بينى وبين الصف، زاد قلق الرجال الواقفين هناك ومن بينهم أبى..
انتهى الممر الضيق، وخرجنا من الباب الخشبى الصغير إلى الغابة الواسعة، واستدرنا يميناً صوب البناء الدائرى ذى القبة الخرسانية، وكان جارنا قد شرع يبنيه فى وقت ما لكنه لم يتمه، فانسحب اللون الرمادى على البناء بأكمله، بقبته، وأعمدته، وطوقته أشجار الحور والشربين متشابكة ملتفة، وكنتَ لمدة طويلة تستمتع بتقليب النظر فيها، بانبهار..
عن يسارنا، ترقرقت مياه نهر "ياسنوشكا" خيوطاً فوق الحصى، ولم نكن قد رأينا النهر بعد، فقد وارته عنا شجيرات الجوز الكثيفة وأحراش التوت، لكننا كنا نعلم أن هذا الممشى الذى يقودنا إلى البناء ذى القبة سيمضى بنا إلى نقرة صغيرة معتمة من مياه النهر، تدور فيها وريقات الشجر، ببطء شديد.
من الفرجات فى أعالى الشجر، صبت الشمس علينا أشعتها، متقطعة، فى أعمدة رأسية تقريباً.. وتوهجتْ من ضوء الشمس خيوط عصائر الأشجار متموجة كالعسل على ألحية الشجر، وتناثرت هنا وهناك، حبات فراولة حمراء كقطرات من الدم.. وتزاحمت ترف من حولنا هويشات الباعوض الخفيف، وتنادت طيور حجبتها كثافة الأوراق فى الأشجار، ولاح واختفى فى شعاع شمس سنجاب فر من شجرة لأخرى، وتأرجح الفرع الذى تركه السنجاب من لحظة مهتزاً، وطابت روح سلامية فى كل شىء حولنا.
ـ آليوشا.. انظر: سنجاب. أتراه؟ إنه يتطلع إليك.
ورفعتَ بصرك لتنظر السنجاب، وأخذتَ تحدق إليه، وأفلتَّ عصاتك من يدك، وكنت دوماً تتركها تسقط من يدك إذا استرعى انتباهك شىء ما. ظللت تُتْبعُ السنجاب بصرك حتى احتجب تماماً، وحينئذ تذكرتَ عصاتك فالتقطتها وانطلقتَ فى السكة من جديد.
من أمامنا، طلع علينا "تشيف" بوثبة عالية فى الهواء كأنه سيرتفع طائراً، وتوقف ورنا إلينا مدة بعينيه العميقتين المسحوبتين كعينى الغزال مستفهماً: هل يواصل ركضه إلى الأمام؟ أم أننا سنرجع فى الاتجاه العكسى، أو نحيد عن الطريق؟ وأشرتُ له دون أن أنبس بحرف إلى الاتجاه الذى سنمشى فيه، فاستشف الإشارة واندفع راكضاً فى الطريق. وبعد دقيقة تناهى إلينا نباحه المتهيج يتردد من مكان ثابت لا يتحرك من عنده. إذن فلم يكن "تشيف" يطارد صيداً، لكنه عثر على شىء ما، ولهذا يدعونا لنوافيه بسرعة.
قلت لك: أسمعت؟ عزيزنا "تشيف" وجد شيئاً وينادينا.
ورفعتك لأحملك على ذراعى، حتى أجنبك أشواك الشربين ولكى نصل أسرع إلى "تشيف". ورحنا ندنو من مكان النباح أقرب فأقرب حتى انتهينا إلى شجرة بتولا ضخمة بديعة، كانت تنهض منعزلة فى مرج صغير غشته طحالب صفراء، وحادة الخضرة، وليلكية، وأسفل الشجرة شاهدنا "تشيف" وهو يحاوط قنفذاً ولم يكن ينبح فحسب، بل كان يهر بصوت مكتوم وحار وهو يغص بتأوهاته. وأدهشتنى مرة أخرى حاسة "تشيف"، فأنىّ له وهو يركض فى الممشى أن يحس من على بعد ثلاثين متراً عن الممشى بوجود قنفذ تحت تلك الشجرة؟
اشتد نباح "تشيف" حين رأى أننا وصلنا إليه، ورأيتُ الطحالب المحدقة بالقنفذ وقد داستها أقدام "تشيف" من كل ناحية. أنزلتك إلى الأرض، وشرعتُ أشد "تشيف" من الطوق المحيط برقبته لأبعده عن القنفذ.. وجلسنا القرفصاء أمام القنفذ المحاصر.
قلت لك: هذا هو القنفد. كرر: ..قن.. فذ.
ورددتَ: قنفذ. ثم لامسته بطرف عصاتك.
وانتفش القنفذ وقفز من مكانه، فسحبتَ عصاتك بسرعة وفقدتَ توازنك واقعاً على الطحالب.
قلت لك: لا تخف. ولكن لا داعى لأن تلمسه. انظر.. كيف تقلص القنفذ مثل الكرة ونشر شوكه، لكنه حالما تغادر المكان سيخرج بوزه ويجرى على أشغاله، فهو مثلك يتنزه، بل إن النزهة ضرورية، لأنه ينام الشتاء بأكمله.. الثلوج تسوقه إلى النعاس فينام. هل تذكر الشتاء الماضى؟ أتذكر كيف كنت تجلس فى زلاقتك الخشبية ونحن نجرها بك على الثلوج؟
لم تجبنى على سؤالى، لكنك ابتسمت فحسب، بسمتك الغامضة. يا إلهى.. ما الذى كان بوسعى ألا أعطيه، لكى أدرك فقط، سر بسمتك المبهمة تلك؟ حين تبتسمها وأنت وحدك.. أو عندما تسمعنى بينما أخاطبك؟ أتراك تعى شيئاً أهم وأعمق من كل ما عرفته وخبرته أنا فى الدنيا؟
وتذكرتُ يوم ذهبتُ لأتلقاك من مستشفى الولادة، وكنتَ حينذاك ربطة متماسكة وملفوفة بإحكام، مجرد لفة تناولتها من الممرضة وخيل لى أنها ثقيلة إلى حد ما. ولم أكن قد بلغت باب السيارة بعد، حين شعرت أن داخل تلك اللفة جسماً دافئاً وحياً، أحسست ذلك رغم أن وجهك كان مستوراً بقماشة رقيقة ولم أكن قد شعرت بأنفاسك بعد. فى البيت حررناك من القماط فور وصولنا، وتوقعتُ مما يكتب ويشاع عن المواليد أن أرى وجهاً صغيراً أحمر اللون، لا يبين فيه ملمح من التجاعيد، لكنى لم أبصر لا حمرة ولا تجاعيد. كان وجهك صافياً ومضيئاً، وتحركتْ متدافعة قدماك ويداك الدقيقة بشكل مذهل، وفتحتَ عينيك الواسعتين، فبان لونهما السماوى الضارب إلى الرمادى، فتحتهما وتطلعت إلينا بأهمية. كنت آية واضحة بأكملك، لولا الشريط الطبى الملصق بسرتك.
سرعان ما قمطوك من جديد، وأطعموك، وأرقدوك لتنام. وانتقلنا جميعاً إلى المطبخ فجلسنا هناك، وانهمكت النساء وهن يشربن الشاى فى ثرثرة بهيجة بشأن القماش الذى يفرش تحت الطفل، وأفضل الطرق لتعقيم لبن الرضاعة، وإعداد الحمام، وغير ذلك. ولم تقر لى جلسة، فكنت أنهض من وقت لآخر وأتوجه إلى غرفتك، أجلس بجوار سريرك وأتملى وجهك طويلاً. فى المرة الثالثة أو الرابعة عندما قصدتُ غرفتك وجلستُ قربك، رأيتك فجأة تبتسم أثناء نومك ووجهك يختلج..
ما معنى بسمتك تلك؟ أهى من أحلام طافت بعينيك؟ لكن أية أحلام كان لك أن تراها؟ وأى شىء كان لك أن تعرفه؟ وكيف للأحلام أن تراودك؟ إلى أين ساقتك أفكارك حينذاك؟ أو كانت لك أفكار؟ لم تكن بسمتك فقط، إنما ضاء وجهك كاملاً بتعبير رفيع عن أرقى درجة من المعرفة، وشفتْ فوقه سحابات رقيقة وهو يصير كل لحظة إلى وجه آخر، غير ما كانه، ومع ذلك لم ينطفىء ولم يتحول انسجامه العام لحظة.
فى أوقات صحوك، سواء أكنتَ تبكى أم تضحك، أم تتطلع صامتاً إلى اللعب المعلقة إلى حافة سريرك، لم يكن وجهك فى تلك الأثناء يستنير بذلك التعبير الذى استفاض فيه وأنت نائم فأذهلنى وجعلنى أمسك أنفاسى مفكراً: ما الذى يحدث لك؟
فيما بعد، قالت لى أمى: "يبتسم الوليد هكذا، لأن الملائكة تلاطفه".
والآن، ونحن جالسان القرفصاء نتأمل القنفذ، أجبتنى عن سؤالى ببسمتك المبهمة، لم تقل شيئاً، وهكذا لم أعرف إن كنتَ تذكر ذلك الشتاء أم أنك لا تذكره؟ وكان شتاؤك الأول الذى انصرم فى "أبرامتسيفا" شتاءاً جميلاً، تساقطت ثلوجه وفيرة أثناء الليل، وأضاءت شمسه فى النهار بلون وردى مشع، حتى صارت سماؤه وردية، واكتست أشجار البتولا وبرة من قطرات الندى، تجمدت نقطاً ثلجية. وكنا نخرج بك لتستنشق هواء الثلوج النقى، فتنتعل حذاءك الشتوى، وترتدى معطفاً من الفرو سميكاً إلى درجة أن يديك فى قفازيك السميكين كانتا تتباعدان عن جانبيك فى الهواء. وكان لابد، إذا جلست فى الزلاقة، من أن تأخذ معك عصا تمسكها فى يدك طوال الفسحة، ولذلك أسندنا إلى مدخل البيت عدة عصى مختلفة الطول، وكنتَ فى كل مرة نخرجك للفسحة تختار عصا أخرى غير السابقة. كنا نخرج بك من بوابة البيت ومن هناك تبدأ فسحتك المبهجة وتشرع بعصاتك فى رسم الخطوط فوق الثلج، وتناغى نفسك، وتناغى السماء والطيور والشجر، وتناغى حتى هسهسة الثلج المتكسر تحت حديد زلاقتك وتحت أقدامنا. وكان كل ما حولك ينصت إليك، ويفهم غمغماتك، وحدنا نحن لم نكن نفهم ما تقوله، لأنك لم تكن قد تعلمتَ الكلام بعد، وإن كنت تترنم بمختلف الألحان، وكانت كل لا.. لا.. لاتك، وبا.. با.. تك، وفا.. فا.. فاتك تسر إلينا شيئاً واحداً: أنك سعيد. ثم لزمتَ الصمت، فتطلعنا حولنا ورأينا عصاتك واقعة خلفك، هناك بعيداً، فبدت سوداء فوق الثلوج البيضاء، وأنت تغط فى النوم وقد باعدتَ ما بين ذراعيك بينما اشتعل خداك المشدودان حمرة من البرد. وكنا نجر الزلاقة وأنت نائم ساعة وساعتين فلا تصحو أو تفيق، وحتى بعد أن نصل إلى البيت، كنت تواصل إغفاءك العميق بينما نخلع عنك حذاءك، وملابسك، نفك أزرار ألبستك، ونحررك من الأربطة، ونرقدك فى سريرك وأنت لا تزال نائماً.
حينما أشبعت بصرك من القنفذ، نهضنا وعدنا إلى السير فى الممشى من جديد، وسرعان ما بلغنا البناء ذا القبة، وحالما شاهدتَ القبة توقفتَ مكانك ولفظتَ بسرور كعادتك:
ـ قبة.. حو.. وة.. كبـ.. يـ.. لة.
تطلعتَ مدة إلى القبة "الحلوة الكبيرة" من على مسافة، ورددت بنفس النبرة المندهشة "قبة.. كبـ.. يـ.. لة" وكأنها المرة الأولى التى تراها. اقتربنا منها، فَرحتَ تطرق أعمدتها واحداً بعد الآخر بعصاتك، ثم غضضتَ الطرف ناظراً إلى حضن النقرة الصغيرة تحتنا، وفى الحال مددتُ لك يدى، وشرعنا ويدى بيدك ننحدر إلى أسفل الجرف، وحين وصلنا إلى الماء بدا سطح النقرة الصغيرة ثابتاً لا يضطرب، وعلى مرمى البصر ضحل النهر وتناهى إلينا من هناك خرير الماء فى الحصى، ولم يكن جريان الماء مرئياً إلا إذا راقبنا لبرهة ورقة شجر وهى تسبح وتتحرك ببطء إلى الأمام حيث ضحل النهر، ببطء حركة عقرب الدقائق فى الساعة.
بجانب الماء رقدت شجرة شربين مكسورة، جلستُ عليها وأخذت أدخن. كنتُ أعرف أنى سأمكث هنا إلى أن تمتلىء أنت غبطة وحبوراً من كافة متع النقرة الصغيرة. أفلتّ العصا من يدك واقتربتَ من أفضل موقع يناسبك فى الشجرة، ذلك الممتد داخل الماء مباشرة، وانحنيتَ راقداً عليه بمقدمة صدرك، وصرتَ تحدق فى الماء. من الغريب أنك فى الصيف لم تكن تميل إلى اللهو باللعب المألوفة، لكنك همت بتفحص الأشياء بالغة الدقة، وكان بوسعك أن تظل ـ إلى ما لا نهاية ـ منشغلاً بزحزحة حبة رمل صغيرة فوق راحتك، أو ورقة شربين ضئيلة أو فتيتة من عشب، وكانت كسرة من طلاء الجدار بالبيت لا تزيد عن مليمتر تكشطها بأظفرك جديرة بأن تسلمك لمتعة التأمل طويلاً. وكان عالم النحل والفراش والباعوض يشغلك أكثر بكثير من عالم القطط والكلاب والأبقار والغربان والسناجب والطيور. أى كون، لا نهاية له، تفتح لك فى قاع النقرة الصغيرة وأنت راقد على الشجرة يكاد وجهك يلامس الماء متملياً كل ما فى القاع؟ وكم من حبات رمل دقيقة وصغيرة استكنت هناك، وكم من حصى تباينت ظلال لونه، وأى زغب أخضر رقيق كسا الحصى الكبير، وكم من الأسماك خليقة لتوها، دقيقة، شفافة الجسم، كانت تسكن مكانها تماماً بلا حراك، وتارة أخرى تثب فجأة فى الهواء ناثرة الماء معها، وكم من دقائق لا ترى إلا بالميكرسكوب كانت مرئية لعينيك وحدهما؟
بعد دقيقة قلتَ لى:
ـ الأسماك.. تسبح.
قلتُ لك وأنا أقترب لأجلس بجوارك:
ـ آها.. إذن لم ترحل الأسماك بعد إلى النهر الكبير؟ يا لها من أسماك صغيرة لعلها مخلوقة لتوها، فهى ضئيلة للغاية..
ووافقتنى بسرور:
ـ ـصـ.. ـغيـ.. لة.. جداً.
كان الماء فى النقرة الصغيرة شفافاً، إلى درجة أنه لم يكن لِيُرى لولا صورة السماء المنعكسة عليه مع أعالى الشجر. دليتَ رأسك مقترباً من الماء وكمشتَ حفنة من حصى القاع، فارتفعتْ قليلاً من النقرة سحابة من عكارة دقيقة، وظلتْ معلقة هنيهة مكانها ثم هبطتْ، وحينذاك فككتَ قبضتك عن الحصى الذى كمشته فاهتزتْ صورة الشجرة على سطح الماء. وحين اعتدلتَ رافعاً نصفك العلوى من على الشجرة، ونهضتَ بسرعة، أدركتُ أنك تذكرتَ لعبتك المفضلة التى آن أوانها: رشق الماء بالأحجار.. ومرة أخرى، رجعتُ إلى جلستى الأولى، وتخيرتَ أنت حجراً كبيراً، وقلبته فى راحتك، تتأمله بحب من مختلف جوانبه واقتربت من الماء ثم قذفت الحجر إلى وسط الدوامة، واندفعت نافورة الماء إلى أعلى بخيوط الهواء المتموج، واصطك الحجر مكتوم الصوت بقاع الحفرة، وانداحت الدوائر فى الماء.. ووقفتَ مستمتعاً بصورة الماء المضطرب، وبانتثاره، وبصوت الحجر المكتوم، وبقبقة الماء، إلى أن هدأ كل شىء، فتناولت حجراً آخر، كما فعلتَ من قبل، تأملته، ثم ألقيت به..
رحتَ ترمى حجراً إثر حجر، وقد أبهجتك رؤية الرذاذ المتطاير واندياح الدوائر، وكانت الدنيا ساكنة من حولنا ونضرة، لم تصل إلى أسماعنا ضوضاء القطارات، لم تحلق فوقنا طائرة، لم يعبر قربنا أحد، ولم يرنا إنسان. فقط "تشيف" كان يبرز من وقت لآخر، من هذه الناحية أو تلك وقد تدلى لسانه، ولكنه عند طرطشة الماء كان يجرى بعيداً إلى النهر، فيلعق المياه منه بصوت مسموع، ومن هناك يتطلع إلينا مستفهماً، ثم يعدو مختفياً فى الغابة..
استقرت باعوضة على كتفك، لكنك لم تنتبه إليها مدة طويلة، وأخيراً هششتَها بيدك وأنت تقطب وجهك مقترباً منى، وقلت لى:
ـ الباعوضة.. قلصتنى..
حككت لك كتفك، ونفخت فيها، وربت عليها، وقلت لك:
ـ والآن.. ماذا تنوى؟ هل ستواصل رمى الأحجار؟ أم نمضى إلى الأمام؟
وقلتَ مقرراً: نمشى إلى الأمام. حينذاك حملتك على ذراعىّ وخضت بك نهر "ياسنوشكا". كان علينا أن نعبر الوادى الضيق المشبع بالندى، الذى بدت فيه تيجان البقول البيضاء المتكاثفة كأنها رغوة كست الوادى منصهرة تحت حرارة الشمس متموجة فى خطوط غمرها النحل بطنين سعيد.. ارتفع الممر إلى أعلى بين شجر الشربين والجوز، وعلا وسط أشجار البتولا والبلوط، إلى أن انتهى عند مرج واسع تحده من اليمين غابة،، ومن اليسار حقل متموج. طلعنا المرج إلى فوق حتى بلغنا ذروته، فبان الأفق البعيد، ولاح فوق مدينة "زاجورسك" ـ التى لا نراها ـ ضباب رقيق، تبينا منه بصعوبة أعمدة الاستقبال التلفزيونية. كان واضحاً أن الحصاد قد بدأ فى المرج، إذ كان الدريس ملقى أكواماً فوق الأرض والنسيم يهب مفعماً برائحته الضعيفة.
جلسنا فى موضع لم تُحصد أعشابه وزهوره بعد، فطالتْ كتفىّ وأنا جالس على الأرض، ومشيتَ أنت تخوض برأسك بين الأعشاب والزهور، لا يظلك شىء سوى السماء، وتذكرتُ التفاحة، فأخرجتها من جيبى ودعكتها فى العشب حتى لمعت، أعطيتها لك، فتناولتها بيديك الاثنتين، وقضمتَها على الفور، وبدا أثر القضمة فى التفاحة كأثر قدم السنجاب.
من حولنا امتدت أرض "رادنيجسكى، واحدة من أعرق الأراضى الروسية، إحدى المدن الهادئة التى دخلت فى نطاق مدينة موسكو. وعند طرف الحقل حلقتْ عالياً حدأتان. حلقتا ببطء وانسياب فى مدار متكرر. لم يبق لنا شىء من ذلك الماضى، تبدل كل شىء، الأشجار والغابات، بل والأرض نفسها، واندثرت المدينة القديمة "رودينيج" وكأنها لم تكن، لم يبق منها سوى الذكريات، هى كل ما تبقى لنا، وهاتان الحدأتان اللتان تحلقان فى الدوائر، كأنما منذ ألف عام.. ولعل نهر "ياسنوشكا" مازال يتدفق فى نفس المجرى القديم..
فرغتَ من أكل التفاحة، لكن كان واضحاً أنك سارح فى عالم آخر.. أدركتُ ذلك. كما لاحظتُ أنك لمحت الحدأتين وأتبعتهما بصرك طويلاً. طارت بعض الفراشات فوقك، البعض منها شده لون سروالك الأحمر فحاولتْ الوقوف عليه، ولكنها كانت تحلق مرتفعة فى الحال، وبصرك لا يفارق طيرانها البهيج.
تكلمتَ معى باقتضاب، وكان بادياً على عينيك ووجهك أنك تفكر طوال الوقت فى شىء ما. يا إلهى، كم تمنيتُ أن أكون أنتَ ولو لدقيقة واحدة، لأعرف فيم تفكر.. لقد تغيرتَ وأصبحتَ إنساناً!
كان عالمنا مباركاً سعيداً، لم تنفجر فيه قنبلة، لم تحترق مدنه وأشجاره، لم يتجمد فيه الأطفال من البرد القارس، ولم يدوّم فيه ذباب الموتى فوق جثثهم الملقاة على الطريق، ولم يسيروا فى ثياب بالية تشغى بالقمل، ولم يعيشوا فى الخرابات وكأنهم وحوش. الآن أيضاً انهمرت دموع الطفولة وسالت، لكن لسبب آخر تماماً.. تماماً. أليس ذلك من الغبطة؟ أم ماذا؟ أليس من السعادة؟ أم لماذا؟.
التفتُ حولى مرة ثانية وأنا أفكر: لعل أحداً غيرنا لم يشاهد هذا اليوم، وهذه السحب التى تتمهل فوقنا فى هذه اللحظة، والنهر الجارى تحتنا فى وسط الغابة، والحصى الذى ألقته يداك ومازال راقداً فى القاع وخيوط الماء الصافى تلتف من حوله، وهذا الهواء الحقلى والممشى الأبيض الذى وطأناه فى الحقل بين جدارين من الشوفان الذى بدا كأنما قد جرت عليه خيوط زرقاء وفضية من الجليد، لعل أحداً غيرنا لم يشاهد القرية الصغيرة الواقعة بعيداً والأفق يرتجف من خلفها. سيظل هذا اليوم فى وجدانى إلى الأبد، مثل أيام أخرى مضيئة فى حياتى، لكن هل ستتذكر أنتَ هذا اليوم؟ فتتجه ببصرك ـ يوماً ما فيما بعد ـ محدقاً بعمق إلى ذلك الماضى البعيد؟ فتحس أن السنوات التى انصرمت لم تنصرم، وترتد من جديد طفلاً صغيراً تجرى بين زهور تطال كتفيك فتطير الفراشات فزعة منك؟ أمن المعقول، أمن المعقول أنك لن تتذكر نفسك، ولن تتذكرنى؟ أحقاً أنك لن تتذكر هذه الشمس الحارة التى تلفح كتفيك؟ وسوف تنسى تماماً مذاق هذا اليوم الصيفى الطويل وصوته الذى لا يشبه الحقيقة فى شىء؟ أين ينطمر كل هذا؟ وبأى قانون غريب ينقطع ويتوارى فى عتمة العدم؟ أين تنطوى أسعد الفترات الباهرة عند بداية الحياة؟ وأرق لحظات الطفولة؟
ضربتُ كفاً بكف من يأسى، لأن الزمن الذى يولد فيه الإنسان، أعظم الأزمنة، يستتر ويضيع منا فى الظلمة. وها أنت قد عرفتَ الكثير، واكتسبتَ ملامحك الشخصية الخاصة بك، وصارت لك عاداتك، وتعلمت الكلام، وأصبحتَ تفهم اللغة أفضل مما تتكلمها، وأضحى لديك ما "تحبه"، وما "لا تحبه". واسأل أى إنسان، سيقول لك الجميع إنهم يتذكرون أنفسهم من عند السنة الخامسة أو السادسة من أعمارهم، وماذا عما قبل ذلك؟ أم ترانا لا ننسى شيئاً؟ فيتردد علينا ريق الأيام الأولى والطفولة الباكرة ومضاً خاطفاً؟ ألم يحدث لكل منا تقريباً أن يرى شيئاً مألوفاً وعادياً كبركة مياة فى الطرقات الخريفية، أو يستمع إلى صوت من الأصوات، أو يشم رائحة ما فيرتجف مذهولاً من خاطر مكهرب: لقد شاهدت ذلك من قبل، لقد وقع فيما مضى، لقد عشت ذلك، أين؟ ومتى؟ هل جرى ذلك فى حياتى هذه؟ أم فى حياة أخرى؟ ويضنى كل منا نفسه لكى يتذكر، ولكى يستعيد ومضة مما مضى، بلا جدوى..
حان ميعاد نومة الظهيرة، رجعنا إلى البيت وكان "تشيف" قد سبقنا إلى هناك، ودعس لنفسه موضعاً فى العشب المتكاثف بجوار البيت ومط جسده غافياً ويده ترتجف من وقت لآخر. عم الهدوء أركان البيت، وفاض ضوء الشمس من النوافذ على الأرض قطعاً مربعة منيرة. وفى غرفتك، بينما رحتُ أخلع عنك ثيابك وألبسك "البي’اما"، كنتَ قد تذكرتَ كل ما رأيته فى الصباح وسردته علىّ. فى ختام كلامنا، تثاءبتَ بقوة مرتين. أرقدتك فى فراشك وقصدتُ غرفتى، ولعلك رحتَ فى النعاس من قبل خروجى من عندك.
جلستُ عند نافذة مفتوحة، وأخذتُ أدخن وأنا أفكر فيك. وتصورت سنواتك المقبلة، ومن الغريب أننى لم أود أن أراك كبيراً تحلق ذقنك وتدخن السجائر وتغازل البنات، ولكنى تمنيت لو أراك أطول زمن ممكن ـ لا صغيراً كما كنتَ حينذاك فى ذلك الصيف ـ لكن وأنت فى العاشرة من عمرك تقريباً. أى تجوال وتطواف كنا سنقوم به معاً.. وحينها ما الذى كنا لن نهتم به؟
رجعتُ إلى الحاضر، ومرة أخرى فكرتُ واجماً فى أنك أكثر حكمة منى، وأنك تدرك أمراً ما أمراً أدركتُه أنا أيضاً فى زمن ما، لكنى الآن لا أذكره.. فقد نسيته. وفكرتُ فى أن هذا الكون الشاسع بكل ما به، مخلوق لكى نرنو إليه بعينى الطفولة، وأن: "هذه المملكة الإلهية ملكك أنت". ليست جديدة هذه الكلمات، فلقد قيلت منذ زمن بعيد، وإذن فقد أحسوا منذ ألف عام مضت بالتفوق المبهم للأطفال علينا.. فما الذى أعلاهم علينا؟ أهى البراءة؟ أم شىء آخر؟ أهى معرفة رهيفة من نوع خاص؟ معرفة تتلاشى مع تقدم العمر؟
انقضت أكثر من ساعة وأنا جالس أفكر. تزحزحت الشمس من مكانها بصورة ملحوظة، واستطالت الظلال فى الأرض حين شرعتَ تبكى.
فركتُ السيجارة فى المطفأة وقصدتُ غرفتك معتقداً أنك بحاجة لشىء ما. كنتَ نائماً تبكى وركبتاك مضمومتين إلى صدرك ودموعك التى همتْ بغزارة قد غمرت وسادتك. كان بكاؤك فى الحلم مريراً. استيقظتَ. كنتَ تنشج يائساً من دون أمل. لم تكن تبكى بهذه الصورة وأنت مستيقظ، وكنت ببساطة ـ إذا أصابتك رضوض أو ركبت رأسك نزوة ـ تجهش بصوت مرتفع. لكنك الآن كنتَ تبكى كأنما تنعى أمراً ما يودعك مفارقاً للأبد. وكانت أنفاسك مختنقة من النحيب، صوتك أيضاً كان مختلفاً.
ليست الأحلام إلا انعكاساً مشوشاً للواقع، ولكن إن كان الأمر على هذا النحو فأى واقع تراءى لك فى أحلامك؟ وما الذى أبصرته سوى نظراتنا المحبة والرقيقة؟ سوى ابتساماتنا، وألعابك الصغيرة، والشمس والقمر والنجوم؟ وما الذى سمعته عدا خرير المياه، وحفيف الأشجار، وزقزقة الطيور، وصوت المطر المهنهن فوق سقف البيت وأغانى المهد؟ ما الذى أمكنك أن تعرفه من هذه الدنيا سوى هناءة الحياة اللينة؟ فلماذا يكون بكاؤك فى الحلم مريراً إلى هذا الحد؟ وأنت لم تعان شيئاً، ولم تندم على ماض، ولم يكن يلوح لك رعب الموت؟ ما الذى حلمت به؟ أم أن أرواحنا تجزع فى الطفولة خشية الآلام المقبلة؟
أخذتُ أنبهك بحذر لتفيق، وأنا أربت على كتفك، وأمر بيدى على شعر رأسك. وهززتُ يدك برفق قائلاً: "اصح يا بنى، يا حبيبى، قم يا آليوشا، قم يا حبيبى". واستيقظتَ فجلستَ على الفور فى سريرك وأنت تمد ذراعيك نحوى. ورفعتك وضممتك إلى صدرى بقوة، متعمداً أن أكرر ما أقوله بصوت نشط: "ما بك؟ ماذا جرى لك؟ لقد كان حلماً لا أكثر.. انظر.. أية شمس؟" أزحتُ الستائر جانباً عن النافذة، فامتلأت غرفتك بالنور، ولكنك واصلتَ البكاء وأنت تدفن وجهك فى صدرى وتشد أنفاسك المتقطعة وقد تشبثت أصابعك برقبتى بقوة حتى آلمتنى..
قلتُ لك: "الآن سوف نتغدى.. انظر.. آها.. ما هذا الطائر الذى يحلق هناك؟ وأين يا ترى القط "فاسا" الأبيض المنفوش؟ آليوشا؟ إيه.. آليوشا يا حبيبى.. لا تخف.. لقد انقضى ذلك.. ترى من يمشى هناك؟ أهى ماما؟". قلتُ لك كل ما عن لى من كلمات علّنى أشغلك عما بك.
ورأيتك تهدأ بالتدريج، وكان فمك لا يزال مشدوداً متشنجاً مما عانيته، إلا أن ابتسامة بدأت تلوح على وجهك، وأخيراً أشرق محياك، ونّور حين سقط بصرك على الإبريق الخزفى الصغير المعلق فى مسمار عند النافذة، وكنتَ شديد التعلق به، فنطقتَ برقة مستمتعاً بلفظ الكلمة فحسب: ا.. بريـ.. ق.
لم تمط جسمك نحوه، ولم تحاول أن تقبض عليه بيدك، كما يختطف الأطفال عادة ألعابهم المفضلة، واكتفيتَ بالنظر إليه بعينيك اللتين غسلتهما الدموع، فبدتا نقيتين بصورة خاصة، وبهدوء تمليتَ الإبريق وطلاءه المزخرف..
غسلتُ لك وجهك، وأحطتُ رقبتك بفوطة ورقية، ثم أجلستك إلى المائدة.. وبدا لى فجأة أن شيئاً ما قد طرأ عليك، إذ أنك لم تدق بقدمك أطراف المنضدة، بل ولم تبتسم، ولم تقل لى كالعادة: "بسرعة عاوز آكل"، لكنك أخذتَ تحدق صامتاً إلىَّ بنظرة ثاقبة وجدية. ودهمنى إحساس بأنك تفارقنى، وأن روحك التى اندغمت فى روحى حتى هذه اللحظة تنأى الآن عنى، وأنها سوف تنأى ـ أبعد فأبعد ـ مع كل سنة تنقضى، وأنك الآن لم تعد أنا، ولم تعد استمرارى، كما أن روحى لن تلحق بك بعد الآن، أبداً. إنك ترحل إلى الأبد.
ورأيتُ فى نظرتك العميقة التى لم تعد طفولية روحك التى تهجرنى وهى تتطلع إلىَّ مُعَذَبةً، رأيتها تودعنى إلى الأبد. واندفعتُ إليك، محاولاً أن أظل بقربك على الأقل، ولكنى أدركت أننى غير قادر على اللحاق بك، فحياتى تشدنى بقوة إلى طريقى السابق بينما تمضى أنت ـ من هذه الحياة ـ إلى طريقك الخاص. وشملنى يأس لا يوصف، وغمرنى ألم لا حَدَّ له، ومع ذلك، فقد تردد فى صدرى صوت أمل واهن فى أن روحينا ستتحدان، فى وقت ما مرة أخرى، بحيث لا تنفصلان بعدها أبداً. نعم.. لكن متى وأين سيكون ذلك؟
بصعوبة بالغة أمسكت نفسى عن البكاء يا أخى وابنى الحبيب..
ولم يكن عمرك فى ذلك الصيف يزيد عن العام ونصف العام

التعديل الأخير تم بواسطة sabrina88 ; 08-02-2018 الساعة 09:05 AM