نحن والعام الهجري الجديد
11-09-2018, 01:01 PM



تَمُرُّ بنا ذكرى الهجرة في مطلع العام الهجري، فتوقظ في نفَرٍ منا الشُّعور بالعزَّة، والأملَ بالفرجِ والنَّصر والتقدُّم.

تَمرُّ بنا ذكرى الهجرة فتذكِّرنا بقيام دولة الإسلام الأُولى، التي كانت برئاسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الدَّولة القائمة على التقوى، الدَّاعيةُ إلى التوحيد والعمل الصالح، والصَّبْرِ والثبات على الحق.

هذه الذِّكرى التي تُذكِّرنا بأننا أُمَّة واحدة؛ {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

نعم، إنَّنا أمة واحدة، مهما تعدَّدَت الأجناس، ومهما تباعدت البلدان، وتذكِّرنا هذه الذِّكرى بـ"هُوِيَّتنا" التي تقوم على العقيدة والتميُّز بين الأمم.

ومن أهمِّ عناصر هويَّة أمَّتِنا التأريخ الهجري، هذا التأريخ الذي اقترَحَه أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب المُلْهَم -رضي الله عنه- وأقرَّه عليه كلُّ الصحابة، وجعله مرتبطًا بهجرة الرسول، ولَم يَجْعله مرتبطًا بولادته ولا بوفاته ولا بِبَعْثتِه، هذا التأريخ الذي كان السِّجلَّ الذي ضمَّ بطولاتِ أجدادنا، وأحداثَ أمَّتِنا ومعاركَها المظفَّرة. إنَّ علينا أن نُحافظ على هذا التأريخ الهجري، ونَحُولَ دون محاولات طمْسِه التي يبذلها ناسٌ مُغْرِضون.


إن ذكرى الهجرة من أعظم الذكريات في تاريخنا، بل إنَّها الأعظم.


يقول الأستاذ أحمد حسن الزيَّات: "فأما هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي قصيدة من قصائد البطولة القدسيَّة، لا يَفْتُر عن إنشادِها الدَّهرُ، واستقرَّت في مسامع الأجيال مثلًا مضروبًا لقوَّاد الإنسانيَّة، يلهمهم الصَّبْرَ على مكاره الرَّأي، والاستمساك في مزالق الفتنة، والاستبسالَ في مواقف المِحْنة، والاستشهادَ في سبيل المبدأ، والاعتقادَ الصَّادق بفَوْز الفكرة"(1).

لقد صبَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار في مكَّة، وصابَرَ مُمْتثلاً أمر ربِّه حيث قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].

ثم أُذِن له بالهجرة، فهاجر وغادر مكَّة التي كان يُحبُّها حبًّا جَمًّا، وودَّعها بِهذه الجملة المؤثِّرة عندما وقف على الحَزْوَرة، وخاطب مكَّة: «والله، إنَّكِ لأحَبُّ البلاد إلى الله، وأحبُّ البلاد إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجْتُ».

أيُّها السادة القراء:

لِنَجعل يومَ بداية العام يومَ مُحاسبة لنا، نُحاسب فيه أنفسنا، ونسألها: هل قُمْنا فيما مضى من عمرنا بِما أوجب الله علينا؟ وهل انتهينا عمَّا حرم الله؟ وهل عملنا لِنُصرة أمتنا التي تتعرَّض اليوم لأضخم غزْوٍ في تاريخنا؟ وهل ربَّيْنا أولادنا من بنين وبنات على مواجهة هذا الواقع؟ وتبَنِّي مبادئ الإسلام الذي أنزله الله؟ هل تُبْنا إلى الله مما كسبَتْ أيدينا؟

يا سادتي:

هل تعلمون أننا جميعًا قد كبرنا اليوم سنة، وأننا اقترَبْنا من النهاية المحتومة الَّتِي تنتظرنا سنة؟
إنَّ علينا أن نُخطِّط للعام المقبل؛ عسى أن نكون فيه خيْرًا مِمَّا كنا عليه في العام المنصرم.
علينا أن نتذكَّر المسئولية بين يدي الله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93].

ولْنَتذكر أن أعمالنا سنُواجَه بِها في ذاك اليوم العصيب: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].

ألا فلْتَنطلِق الأقلامُ مذكِّرة بحادثة الهجرة الشريفة وبِدُروسها.

ألا فلنُنْفِق مِمَّا آتانا الله في مساعدة إخواننا المعذَّبين المقهورين.

ولْنَقْتدِ بالمستوى الرائع الذي كان يوم الهجرة من التعاون والكرم والإيثار، فقد كانت الْمُؤاخاة بين المسلمين حقيقة ملموسة، جعلَتْ "سعد بن الربيع" الأنصاريَّ يقول لأخيه "عبد الرحمن بن عوف": "إنِّي أكثر الأنصار مالًا، وأريد أن أَقْسم لك نصف مالِي، وتعالَ فانظر أيَّ زوجتَيَّ هَويتَ نزلْتُ لك عنها، فإذا حلَّت تزوَّجْتَها". فقال له عبد الرحمن بن عوف: "بارك الله لك في مالك وأهلك، دلُّوني على السوق".

إنَّنا بحاجة إلى أن نُحْيِي هذه الأخوَّة العظيمة.

وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.

د: محمد بن لطفي الصباغ

(1) وحي الرسالة (1/114).