موعد مع الخريف
28-05-2018, 01:02 AM
لم تكن تحفل قط إن صنفوها في زمرة البغايا وبائعات الهوى...ما يعنيها الآن أنها تشتغل هذه الحرفة البغيضة إلى قلبها عسى أن تظفر بالمال الذي يتيح لها العيش دون أن تتكفف هذا العالم المتخم بالذئاب الجائعة...
إنها تزاول تلك الحرفة التي تعرف بأنها أقدم مهنة في تاريخ البشرية.
تسللت الشمس إلى غرفتها الرطبة و بثت في أرجاءها الضيقة شيئا يشبه الدفء . بزوغ الشمس يعني لصفاء انقراض ذلك الأمس و ما فيه من ضجر و سآمة ..و انطلاق يوم جديد تعلم جيدا أنه لن يحمل أي جديد...
لكن إن غيب الغيم ذلك القرص النحاسي الذي يثقب قبة السماء. تشعر المرأة بجبال من القتامة تطبق على قلبها العليل.
ألقت صفاء نظرة مطولة على تلك المرآة المثبتة في صدر الجدار...نظرة هي أداةضرورية من الأدوات اللازمة في مهنتها .
الأناقة هي المفتاح الأوحد إلى قلوب أولائك الذكور المكدسين عند بابها ...
هنا أمام هذا الإطار الفضي تقف هذه الأنثى و تطيل الوقوف كأنها في صلاة مقدسة داخل محراب.
غمست أناملها بخفة وسط ملحمة من الأصباغ و العطور و المساحيق....هي بطبعها فائقة الجمال إذ لم يكن وجهها الفاتن و لا شفتاها المكتنزتان و لا شعرها السرمدي في حاجة كبيرة إلى الزينة ...و إنما هي لمسات هنا و هناك فتمسي صفاء بدرا مكتمل النمو و وردة فيحاء تنتظر القطاف.
(تبا..تبا..تبا..) تمتمت صفاء في صوت خفيض و وجع و هي ترنو في اهتمام إلى شعرها الذهبي..هناك في العمق نبتت شعرة بيضاء لم تكن منتظرة . نغصت على صاحبتنا رواءها و هدوءها. ..
تلك الشعرة نذير شؤم لإنها أول الطريق نحو الكهولة و الخريف و الفناء...لم تحفل كثيرا بالأمر .لمسة سحرية من تلك الأصباغ وحدها كفيلة بإبادة هذه الشعرة و إرسالها إلى الجحيم.
ابتسمت المرأة أخيرا. لقد استعادت كامل بريقها و رونقها ،و اندفعت الأنوثة اندفاعا لتزيح غيوم الخريف عن ملامحها الآسرة مثلما تندفع الدماء النقية في الشرايين السقيمة لتحمل إليها النشاط و الغذاء و التفاؤل...
ارتدت صفاء أجمل فساتينها . كان أحمر اللون أخاذا يفيض حسنا و بهاءا...
صفاء تنفر من هذا العمل المنتن و كثيرا ما تحدث نفسها لو أن هذه الأنوثة الطاغية كانت ملكا لزوج يحبها و تحبه وسط عش دافئ .بعيدا عن هذه الدار الآثمة و بعيدا عن تلك الذئاب الجارحة التي تصول و تجول في كل مكان.
و تتزاحم الأدمع فجأة في مقلتيها. إن ذلك الحلم ليس لمثلها أن تفكر فيه و لا أن تتذوق حلاوته ما دامت قد سلكت طريق الرذيلة...
و أسلمت تفكيرها إلى سراديب الذكريات القاحلة و تذكرت في شجون يوم أن عشقت ذلك السافل، كان ذلك منذ عقد من الزمن تقريبا....
لقد و عدها بالزواج...و افترس أنوثتها في حين غفلة ،و فر هاربا بدون سابق إنذار.. .و تركها لمصير قاتم لا يزال ينهش أحلامها إلى غاية اليوم ...
فرت ذات ليل حالك و شديد البرودة، و رمت بها قدماها في هذه الدار الواسعة ، هنا حيث تغتال أنوثة الصبايا مرات عديدة آناء الليل و أطراف النهار...لقد كانت حياتها بحق قصيدة حزن لا تكاد أبياتها تنتهي.
(طق..طق..طق..) طرق باهت على باب غرفتها ... كانت الأنوار الحمراء شاحبة على غير العادة، أطلت رئيسة الدار برأسها الضخم الكريه... ثم تقهقرت قليلا إلى الخلف و دفعت بطيف بشري تسلل في هدوء إلى الغرفة ...زبون صباحي لا يبدو عليه النزق و الطيش. كان شابا فارع الطول و أنيق الهندام...
و دون أن ينبس بكلمة راح يقتلع حذاءه حريصا على ألا يحدث جلبة.. و بحركة خبيرة فكت صفاء أزرار فستانها..نزع الشاب معطفه الثقيل..أزاحت صاحبتنا غطاء السرير. استدارت نحوه و استدار نحوها...
تلاقت أعينهما لأول مرة..في ذهول شديد صاحا سويا و في نفس الوقت (ماااااااااااااااااااااااااذا ؟) ...كانت تلك الــ - ماذا- طويلة جدا مثل مسلسل تركي تافه. و في الوقت نفسه كانت تحمل في طياتها ألما دفينا..
جحظت أعينهما و تداعى كل منهما على أقرب مقعد... كأن قضيبا كهربائيا مس جلديهما...
مواجهة كانت ستكون جميلة لو كانت في غير هذا المكان الآثم و بين هذه الجدران الشاحبة و المقززة .
كانت مواجهة صادمة جدا جمعت صفاء بحبيبها الأول....