الغــــــــــــــــــــــــائب
29-05-2018, 10:54 AM
الـــــــــــــــــغائب

من زمن الطفولة خرج إلى دنياي مرة أخرى...كان يوشك أن يتلاشى من خلايا ذاكرتي و من قاموس أسراري...
لكنه عاد و ظهر إلى الوجود ثانية. فوق جبهته العريضة يمكن للمرء أن يقرأ أبجديات السنين الخوالي و ما تحتويه من غموض و تمرد و وجع...
درسنا في كتاب البلدة سويا. مكث شهرا كاملا في حفظ سورة الفاتحة... يومها زجره معلمنا الضرير :
-إلى متى يأبى رأسك الكبير حفظ السورة يا رشيد؟ .-
أما أنا فكنت أشاكسه باستمرار و أقول :
- بعض الناس يمتلكون رؤوسا كبيرة لا يستفيد منها إلا الحلاق.-
تلك العبارة كانت تثير حفيظة الفتى...فندخل في اشتباك بالأيدي لا ينتهي إلا بتدخل العقلاء.
حين تجنح الشمس للمغيب كنا نسير نحو الوادي الطويل جدا ...يقع خارج البلدة.
رشيد كان يحمل فوق كتفه النحيل رفيقته الأبدية. قصبة طويلة مشدودة إلى خيط و صنارة .
في البداية كنا نتسابق سباحة على طول الجدول و عرضه.و حين يغشانا الإرهاق يرمي صنارته عبر عباب الماء .
وسرعان ما يظفر بصيد وفير من السمك...على يديه تعلمت فنون السباحة و اصطياد الأسماك.
لن أنس مبدأه الراسخ حول هذا الأمر... كان يهمس في أذني دائما:
- اختيارك لنوع القصبة يا سليمان عامل مهم في حسم المعركة مع الأسماك.-
عاد ذلك الغائب إلى الحياة مرة أخرى بعد سنوات من الصمت و التلاشي و النسيان.
لقد ظن الجميع أن يدا بطشت به. أو أن السباع التهمته في بعض الطريق...
لا أحد في البلدة يعرف الحقيقة كاملة.
الحقيقة المؤكدة اليوم أنه عاد إلى البلدة مجددا. أطلق لحية كثيفة على صدره. و ثبت فوق أنفه المعقوف قليلا نظارات سميكة...
سمعت أحدهم يهمس إلى صديقه و قد تملكه الذهول :
-لقد عاد رشيد من أفغانستان. انه يدير إمارة قندهار هناك.-
تملكني الضحك حين سمعت ذلك الهراء. فبين رشيد و السياسة مليون سنة ضوئية...
لكن رجلا آخر خاطب صديقه بصوت سمعه الجميع:
- بلغني أن رشيد بارون كبير من بارونات المخدرات.-
كان يلبس بدلة من الطراز الايطالي الفاخر. و يقود سيارة فارهة من أجود صنف.
رشيد ذلك الولد الطائش الذي كان يتناول سمكة في الغذاء و يطوي بطنه على الجوع ليلا. و يلبس تبانا من القطن الوضيع شتاء و صيفا. ها هو أمامي يقود سيارة باذخة لا يركبها إلا رجال الأعمال...
قال لي يوما و نحن مسترخيين على حافة الجدول :
- سليمان . صديقي العزيز. لقد قررت أن أكون غنيا و ذا شأن.-
تأملت ذلك الصعلوك المستلقي فوق الحصى. كان جائعا و شبه عاري. كنت أستمتع بعد أضلاعه التي توشك أن تقفز من قفصه الصدري.
ثم أرسل بصره المترهل نحو قرص الشمس الذي يثقب السماء.
أخلد إلى صمت طويل جدا ثم أسلم جسده الناحل إلى غفوة جميلة لا يدرك معناها إلا الجوعى و المشردين...في تلك اللحظة قرأت الصدق بين عيني رشيد.
اليوم ملامح الطفولة في رشيد تبدلت. أصبح الجسد غير الجسد. و باتت العيون غير العيون. و صارت البراءة غير البراءة. لكن الابتسامة نفسها هادئة و صادقة ... لم تمزقها أظافر السنوات الطويلة.
رمقني من بعيد و صاح:
-سليمان صديق عمري و رفيق دربي. لا زلت وسيما و لطيفا لولا هذه الصلعة التي بدأت تجتاح رأسك.-
توردت وجنتاي خجلا و تملكني حرج شديد من مزاح رشيد.
عانقني الرجل بحرارة و مودة...
جميل أن يلتقي الصديقان هكذا بعد أن نسج الغياب خيوطه الواهنة بينهما...في سيارته الفارهة جلسنا سويا و روى لي بالتفصيل رحلته الطويلة من حياة المعوزين إلى حياة الأغنياء و الموسرين...
قاطعته فجأة : ها قد أصبحت غنيا أخيرا.
ابتسم في هدوء و انكشف أمامي صف من الأضراس الذهبية...مؤشر قوي على الثراء و الرفاهية.
توقفت السيارة أمام ميناء كبير تزدحم فيه مراكب صيد الأسماك من كل صنف و لون.
قطع علي رشيد خيط تأملاتي و قال:
-أنظر هناك يا سليمان. ذلك هو مصدر ثروتي.-
أرسلت بصري بعيدا. في عرض البحر كان يسبح مركب عملاق في صمت و دعة و خيلاء مثل قلعة رومانية حصينة.
فوق ظهره عشرات البحارة يشتغلون بلا كلل و لا ملل تحت شمس دافئة و سخية....
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 05-06-2018 الساعة 11:18 PM