إسبانيا: هكذا تشتري الشيكات القطرية الضخمة بعض "شرف" وسُمعة
26-09-2017, 05:33 PM


العملاق الإسباني بريسا (أرشف)



منذ اندلاع أزمة الخليج، وبالتوازي مع تسخير المنصات والشبكات والمواقع وعشرات الصحف في الداخل والخارج، لخدمة واحتضان الخطاب الرسمي والترويج له، لم يغب الإعلام الدولي والأوروبي تحديداً، عن التكتيك القطري في إطار استراتيجية أو دبلوماسية الشيكات المُثقلة بالأصفار باليورو والدولار.

وكان لافتاً في الأشهر القليلة الماضية، حرص الإعلام القطري والموالي، على بعض الصحف والعناوين بعينها، وفي إسبانيا حظيت صحيفة الباييس المعروفة، بحيز كبير ولافت من اهتمام وعناية الخطاب القطري الرسمي، و" المحايد النزيه " مثل المواقع التي تديرها الشبكات المتخصصة في السهر على استمرار دوران طاحونة الخطاب الرسمي القطري، حتى انتهى الأمر به في الأسابيع القليلة الماضية، إلى تقديم الباييس للقارئ القطري والمتابع للمنصات المتفرعة عنه، على أنها بمثابة الصحيفة المتحدث غير الرسمي باسم وزارة الخارجية، بعد دفاعها المستميت عن قطر، وإعلامها وخياراتها السياسية والاستراتيجية، وتأييدها لقناة الجزيرة، وإشادتها بمواقف الدوحة المختلفة، في المحطات الأخيرة التي مرت بها الأزمة.

ورغم أن الواقع مختلف تماماً، ولو أن الباييس لم تمنع نفسها في بعض الأحيان من "الانفتاح" على الدوحة، مثل قبولها بـ "نشر مقال مدفوع الأجر" للسفير الحالي في مدريد، وسفيرها السابق والمُثير للجدل في باريس محمد جهام الكواري - الذي اشتهر بسبب المقالات الصحافية، والكتب مثل "أمراءنا الأعزاء جداً " للصحافيين الفرنسيين الشهيرين جورج مالبرونو، وكريستيان شينوت، واللذين فككا فيه الآلة الجهنمية التي اخترعها السفير لشراء الطبقة السياسية الفرنسية من الوزارات إلى البرلمان، والأحزاب، انتهاءً بالإعلام والصحف، عبر الشيكات والهدايا والرشاوى المختلفة – إلا أن ذلك لا يمنع من النظر في سبب تركيز الدوحة على صحيفة الباييس مثلاً دون العشرات من الصحف الكبرى الأخرى، التي تبنت في أغلبها خطاباً أكثر حياداً في الأزمة الخليجية الأخيرة، وفي أحيان كثيرة أخرى لم تتردد في تسليط الضوء على الأدوار القطرية المشبوهة في دعم الإرهاب والتطرف.

صفقة سرية؟
تظل للباييس مكانتها الخاصة لدى القطريين، لأسباب بدأت في التسرب إلى الإعلام، خاصةً بعد التوقيع رسمياً مساء الإثنين على اتفاقية ربما تُزيل آخر الأوهام عن حياد الباييس، إذ أعلنت صحيفة الباييس خبر التوقيع بين دار الشرق القطرية، المصدرة لصحيفة الشرق اليومية والمجموعة المالكة للصحيفة الإسبانية "بريسا"، وتعرض أغلب الصحف الإسبانية الثلاثاء للخبر وللصفقة، إلا أنه اختفى تماماً عن الإعلام القطري، بما في ذلك عن صفحات الشرق، التي خصصت صفحتها الأولى لتغطية أخبار "غزوة نيويورك" وتتويج الأمير تميم بن حمد بأكاليل الغار والمجد، واختفى خبر هذه الصفقة عن صفحاتها الداخلية الأخرى، بما فيها ملحقها الرياضي، وينطبق الأمر نفسه على الصحف والمواقع القطرية الأخرى، في صمت غريب.

وفي خبرها المنشور قالت الباييس إن صحيفة AS الرياضية الشهيرة في إسبانيا ودار الشرق القطرية وقعتا رسمياً في العاصمة مدريد اتفاقاً فازت بمقتضاه صحيفة الشرق بامتياز إصدار AS بالعربي لتكون "أول صحيفة يومية ومنصة إعلامية عربية رياضية في متناول 400 مليون قارئ في الدول العربية" كما جاء في الخبر.

ورغم أن الخبر يُقدم الصفقة في شكل الإنجاز الخارق، بما أنها ستفتح أمام الصحيفة الرياضية أبواب قرابة نصف مليار قارئ عربي بفضل الشرق، غير المعروفة في العالم العربي، إلا أن المثير في هذا الخبر خلوه من أي تفاصيل مالية ومادية، عن قيمة العقد وشروط الصفقة، وغيرها من التفاصيل التي تُمثل مادةً خصبةً في العادة للإعلام الإسباني والعربي أيضاً، في مقابل التشديد على "حرية العلامة الأم وتمسكها بخطها التحريري في طبعتها القطرية".

مجموعة عملاقة
وقبل أن يتساءل القارئ عن العلاقة بين الباييس وآس الرياضية، والصفقة الجديدة على خلفية الأزمة الخليجية الراهنة، يجب الإشارة إلى أن الصحيفتين الإسبانيتين تشكلان جزءاً من "بريسا" أكبر مجموعة إعلامية إسبانية في الجزيرة الإيبيرية، وفي أمريكا اللاتينية أيضاً، وتملك في إسبانيا مثلاً عشرات الصحف المشهورة مثل الباييس، وفوتورو، وثينكو دياس الاقتصادية، وهافنغتون بوست بالإسبانية، وجميع هذه العناوين تملك مجموعات تابعة في الدول الناطقة بالإسبانية أساساً، وفي الولايات المتحدة، وفي بعض الدول الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا، و في آسيا مثل سنغافورة، وماليزيا، إلى جانب شبكة ضخمة من القنوات التلفزيونية والإذاعية، وأشهرها قنوات تي في إي، وتي في إي 24، وخاصةً شبكات الإذاعات العامة الوطنية، والجهوية عبر مجموعة إذاعات كادينا سير في إسبانيا، وأمريكا اللاتينية.

ولكن القطب الإعلامي للمجموعة، لا يكتمل إلا بالمجموعة التعليمية العملاقة "سانتيانا"، والتي تتجاوز قيمتها 1.5 مليار دولار على الأقل التي تُشكلها الديون والعجز المتراكم ، إلى جانب شهرتها العالمية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، على مستوى التعليم وإدارة المدارس والجامعات والكليات، وبعض مراكز البحث، إلى جانب علاقاتها الخاصة جداً ببعض المنظمات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو.

ولكن ما علاقة العملاق الإعلامي والترفيهي والثقافي الإسباني بالدوحة؟ وما علاقة إصدار صحيفة رياضية بالعربية بالتحولات التي تشهدها منطقة الخليج مثلاً، في مثل هذا الظرف بالذات؟

الشيكات مرة أخرى
إن كل ما تقدم لا يُفهم إلا في سياق العلاقة بين الكاش ماشين القطرية، والسفير الكواري، ودبلوماسية الشيكات الشهيرة، لتطويع مؤسسات دولية مثل بريسا، لخدمة المجموعة الحاكمة في الدوحة، في إطار مخطط واسع جداً انطلق تنفيذه منذ سنوات وتعزز بعد الأزمة الأخيرة، فمجموعة بريسا العملاقة، ورغم ثقلها ووزنها الأوروبي والدولي، إلا أنها عملاق من طين، وصرح مُهدد بالسقوط والترنح في أي لحظة، بسبب تراكم المشاكل المالية الضخمة الناجمة عن سياسة التوسع السريعة للمجموعة قبل الأزمة المالية في 2008، وقبل انهيار المشهد الإعلامي التقليدي، والتحولات الضخمة التي شهدها الإعلام والتواصل بفضل سيطرة الإعلام الجديد، والإلكتروني، وشبكات الإعلام الاجتماعي على المنظومة الإعلامية الدولية.

ولهذه الأسباب مجتمعة، تردت بريسا منذ سنوات في أزمات الديون، وتقليص العمالة، والضغط على الإنفاق، ما اضطرها في 2015 مثلاً إلى التخلي عن 25% من موظفيها، وبيع بعض الأصول الثانوية، في الداخل والخارج مثل صحيفة لوموند الفرنسية، أو الصحف والإذاعات الصغرى أو الجهوية، وفتح رأس المال أمام مستثمرين محليين ودوليين، لضخ سيولة جديدة، وعرض بعض الأصول الكبرى للبيع مثل القطب التعليمي التابع لها "سانتيانا".

مساهمة قطرية مشبوهة
وضمن هذه الاستراتيجية الجديدة، عرضت المجموعة على مستثمرين دوليين الانضمام إلى مجلس إدراتها بما يتلاءم مع حصصهم في رأس مالها، ومن أبرز الذين لبوا نداء رئيس المجموعة الشهيرة، في 2015 عبر آلية استثمارية قطرية مسجلة في لوكسبورغ باسم المجموعة الدولية للإعلام ذات المسؤولية المحدودة، وشركتها التابعة لها المجموعة الدولية للإعلام إل تي دي، المسجلة في جنة ضريبية أخرى لا تقل شهرة عن الأولى، هي جزر سيشيل، ما يضمن لها سرية التحرك التام، والإفلات من أي مساءلات أو تعقيدات محتملة.

وتُمثل هذه الشركة المسجلة في سيشيل تحت عدد 162243 بمسمى المجموعة الدولية للإعلام إل تي دي، أحد أذرع النشاط المالي والإعلامي للأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة، وتُمثل مصالحه المالية في عدد من دول العالم في قطاع الإعلام والاتصال، ويُمثلها في مجلس إدارة الشركة الإسبانية رئيس دار الشرق القطرية، التي تعاقدت على امتياز النسخة العربية من صحيفة آس الرياضية، الشيخ خالد بن ثاني آل ثاني، ممثلاً عن المجموعتين القطريتين المذكورتين.

وحسب تقرير متخصص لصحيفة الكونفيدنسيال الإسبانية في يونيو (حزيران) 2016 بعد الصفقة التي أثارت لغطاً وتساؤلات في إسبانيا، بعد كشف التلاعب الذي تعمدته مجموعة بريسا، بالتغطية على الجنسية الحقيقية لمالكي شركتي المجموعة الدولية للإعلام إل تي دي، وذات المسؤولية المحدودة، فإن الشخص الذي يقف وراء هذه الشبكة الاستثمارية ليس سوى، رجل قطر القوي، غانم بن سلطان الهديفي الكواري رئيس مجموعة استثمار القابضة، ورجل المخابرات الأهم فيها.

ورغم خرق الاستثمار القطري يومها، ميثاق شرف المجموعة الذي يُجرم الاستثمارات المشبوهة القادمة من الجهات أو الهيئات المسجلة في الجنات الضريبية، إلا أن ذلك لم يمنع رئيس مجموعة بريسا المُثير للجدل في إسبانيا خوان لويس سيبريان، من المناورة والإصرار لتمكين القطريين من 8.17% من المجموعة، مقابل ضخ 64 مليون يورو.

وإلى جانب قطر، تضم المجموعة صناديق استثمار وبنوك ومستثمرين آخرين من مختلف دول العالم، تتفاوت سمعتهم بتفاوت نشاطاتهم وانتماءاتهم مثل صندوق الاستثمار الأمريكي أمبير بـ 19% وعائلة بولانكو بـ 17، وتلفونيكا الإسبانية للاتصالات بـ 13%، وصولاً إلى بعض صغار المستثمرين، مثل الإيراني مسعود فرزاد زندي، الذي يملك 2% من أسهم المجموعة، رغم الشبهات الكثيرة التي تحوم حوله وتورطه في خدمة إيران من جهة، وفي تجاوز عقوبات دولية مفروضة على طهران، وعلى جنوب السودان أيضاً بسبب الحرب الأهلية فيها، والاشتباه في تهريبه نفط الدولة الممزقة عبر شركته المسجلة في بنما ستار بتروليوم.

نخر المؤسسات الأوروبية
كان لابد من هذا العرض المالي المطول، قبل العودة إلى صفقة قطر وبريسا الإسبانية، لتبيان كيفية نخر المال القطري لمؤسسة كبرى في أوروبا والعالم، ذلك أن الاستثمار القطري في بريسا، عبر الشرطي القديم منذ 1972 ، والذي عُين في 1996 ، بعد الانقلاب على الأمير الوالد، رئيساً لجهاز أمن الدولة السابق، وأحد أقرب مساعدي أمير قطر السابق، غانم الهديفي الكواري الذي يُشرف على عشرات المشاريع في خدمة العائلة الحاكمة في قطر، مثل مطار حمد الجديد، ومدينة إسباير الرياضية، والمشروع العقاري ذا بيرل في الدوحة، إلى جانب تقديم خدمات للقوات المسلحة، ومترو الدوحة، وقطر للبترول وغيرها، ما يعكس الدور الاستراتيجي الذي يضطلع به أول لواء في تاريخ قطر على رأس الشبكات السرية والعلنية القطرية في الداخل والخارج.

يتعزز هذا الدور الخطير، بفضل شيكات الكواري الآخر، السفير محمد جهام الكواري، التي تهدف ليس إلى تحقيق مكاسب استثمارية ولو بسيطة، وهو ما يؤكده نزيف الخسائر المتواصل لمجموعة بريسا، ولكن لضمان تأييد أو حياد مجموعة مثل بريسا، وأذرعها الإعلامية المختلفة مثل الباييس التي طردت على سبيل المثال أحد أشهر صحافييها وكتاب المقالات فيها بعد صفقة دخول القطريين إلى مجلس إدارة المجموعة بريسا، الصحافي المخضرم ميغيل أنخيل أغيلار، الذي هاجم تخلي المجموعة عن حيادها، وسيطرة المال على صحيفة مثل الباييس وتوجيهها بما يخدم مصالح غير صحافية، بدفع من رئيس بريسا خوان لويس سيبريان.

الفاشي الديمقراطي
وفي هذا الإطار يُمكن التذكير بأن سيبريان، من أبرز الوجوه الصحافية القديمة في إسبانيا في عهد الدكتاتور الراحل فرانكو، وابن أحد كبار المنظرين للفاشية في إسبانيا فيثنت سيبريان، مدير الصحيفة الفرانكية السابقة "إلى الأمام".

وبفضل قربه من فرانكو وضع سيبريان الأب إبنه على رأس قسم الأخبار في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية ففي 1974، قبل أن ينتقل إلى إدارة الباييس، التي أسسها الدكتاتور فرانكو، في 1976 ويُحافظ على منصبه فيها إلى غاية 1988، بعد انقلابه على الفاشية وتنديده بوالده، وبحكم فرانكو، و" تصديه " للمحاولة الانقلابية في 1981 ودفاعه عن الديمقراطية الإسبانية.

ولكن قطر لا تهتم ببريسا، أو الباييس بسبب هذا الماضي الحافل، أو بحثاً عن هدف استراتيجي آخر، لا يقل أهمية عن التي تسعى إلى تحقيقها عبر هذه المناورات، ولعل أهمها وضع اليد على جوهرة المجموعة الإسبانية الحقيقية، القطب التعليمي سانتيانا، الذي يُعتبر رائداً من نوعه في أوروبا، وفي أمريكا اللاتينية بأسرها خاصةً الدول الناطقة بالإسبانية.

ولكن الاهتمام القطري بالتربية والتعليم، وصناعة الكتب الدراسية ونشرها، لا يندرج في إطار مشروع اقتصادي، أو علمي، أو تربوي، بل هو أكبر من ذلك بكثير، خاصةً في هذا الوقت تحديداً، الذي تسعى فيه قطر إلى فوز كواري ثالث بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، في شخص وزير الثقافة السابق حمد بن عبد العزيز الكواري، ضد المترشحة المصرية مشيرة خطاب، في انتظار تصويت أعضاء المنظمة لاختيار مدير عام جديد للمنظمة الأممية في نوفمبر (تشرين الثاني).

الكوراي بالثلاث
وسعياً منها لضمان النجاح لمرشحها في ظل منافسة عربية لها حظوظها الوفيرة خاصةً في ظل الأزمة الحالية وفي ظل الموقف المصري، وغموض مواقف الدول العربية الأخرى، التي تمسكت بمرشحيها مثل العراق، أو التي سحبتهم مثل لبنان بعد تعيين غسان سلامة ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، فإن قطر تسعى عبر بريسا، وذراعها الرائدة والمهيمنة في أمريكا اللاتينية، التي تضم 20 دولة ناطقة بالإسبانية إضافةً إلى دولة أفريقية وحيدة وهي غينيا بيساو، والتي تشكل جميعها كتلة ضخمة من 420 مليون ساكن، سيكون لأصواتها في المنظمة وزن ثقيل جداً.

والأكيد بعد هذه المعطيات أن قطر لا تتحرك في اتجاه بريسا وقطبها التعليمي سانتيانا مثلاً من باب الصدفة، فالعملاق الإسباني، خاصةً في أمريكا اللاتينية، شريك استراتيجي لليونسكو، وأحد أهم الممولين بعد الحكومات والشخصيات الدولية مثل الشيخة موزة المسند، التي تحمل لقب "المبعوث الخاص لليونسكو للتعليم الأساسي والتعليم العالي" منذ 2010، لبرامجها و مشاريعها في أمريكا الجنوبية، وفي هذا السياق مثلاً، سارعت سانتيانا منذ 2015، وبدعم من المستثمرين القطريين، إلى توقيع اتفاقية شراكة مع منظمة اليونسكو لم تكشف تفاصيلها المالية لدعم " التربية والتعليم، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، وتكوين المدرسين وتدريبهم" خاصةً في المناطق الفقيرة، في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، ما يُسلط ضوءاً جديداً على الصناعة القطرية الرائجة منذ سنوات.. توقيع الشيكات الهائلة التي لا تُفارق جيوب رجالها في الداخل والخارج، مثل السفير الشهير الكواري.