هزيمة محمد الفاتح في ڤاسلوي ونصره في الوادي الأبيض
27-06-2021, 11:15 AM


تمرُّد البغدان، وهزيمة ڤاسلوي، وضمُّ القرم، ونصر الوادي الأبيض: (1473-1476)

في بداية عام 1473م أعلن أمير البغدان (مولدوڤا) استيفين الثالث الملقَّب بالعظيم Stephen III, the Great، توقُّفه عن دفع الجزية إلى الدولة العثمانية، وبالتالي الخروج من تبعيَّتها[1][2]، ونظرًا إلى انشغال الجيش العثماني بحرب إيران في ذلك الوقت فقد تطاول استيفين الثالث واقتحم ولاية الإفلاق العثمانيَّة؛ وخلع الأمير الموالي للعثمانيين رادو العادل ووضع في الحكم نبيلًا رومانيًّا مواليًّا له هو باساراب الثالث لايوتا Basarab III Laiotă، ومع ذلك فقد نجحت فرقةٌ عثمانيَّةٌ مكوَّنةٌ من 17 ألف جندي من إعادة رادو إلى حكم الإفلاق في 31 ديسمبر 1473م[3].

تكرَّر التنافس بين البغدان والدولة العثمانية على السيطرة على الإفلاق، وفي النهاية حدث صدامٌ كبيرٌ بين الجيش العثماني بقيادة سليمان باشا، وبين جيش البغدان بقيادة استيفين الثالث، عند قرية ڤاسلوي Vaslui، في 10 يناير 1475م، واستُدرج العثمانيون في كمائن خطرة، ثم كانت الهزيمة الكبيرة التي فقد فيها المسلمون -حسب التقديرات البولنديَّة والرومانيَّة- حوالي 45 ألف جندي[4][5]! قالت مارا برانكوڤِيتش أرملة مراد الثاني: «لم يتعرَّض العثمانيُّون لهزيمةٍ أعظم من هذه»[6]! لم يتوقف الخطر عند هذه الكارثة، ولكن كان من نتيجة المعركة أن سعى ماتياس ملك المجر إلى عقد معاهدة دفاعٍ مشتركٍ مع أمير البغدان، على الرغم من العداء السابق بينهما، وفي هذه المعاهدة طلب استيفين من ملك المجر إطلاق سراح دراكولا أمير الإفلاق السابق[7]، والمحبوس في المجر منذ عام 1462م، وكان الهدف هو استغلاله في السيطرة على الإفلاق، وزيادة الضغط على الدولة العثمانية بعد كارثة ڤاسلوي، وقد وافق ملك المجر على طلب استيفين، وأطلق دراكولا[8].

تأزَّم الموقف بشكلٍ أكبر، خاصَّةً أن هزيمة ڤاسلوي حدثت في الشتاء، وكان لا بُدَّ من الانتظار للصيف حتى ترد الدولة العثمانية بشكلٍ مناسب، ومع أن الجميع كان يتوقَّع أن يُجهِّز الفاتح حملةً لحرب البغدان، إلا أنه على خلاف كلِّ التوقعات جهَّز في صيف 1475 حملةً بحريَّةً لضمِّ شبه جزيرة القرم شمال البحر الأسود! فلماذا تجاهل الفاتح مسألة البغدان وفتح ملفًّا جديدًا يُفْتح للمرَّة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية؟!

الواقع أن منطقة القرم ذات أهميَّةٍ استراتيجيَّةٍ كبرى؛ حيث إنَّها -أوَّلًا- تُمثِّل مخرجًا لكلِّ غرب آسيا وشرق أوروبا على البحر الأسود، وثانيًا لأنَّ القرم عبارةٌ عن نقطة انطلاقٍ عسكريَّةٍ مهمَّة يُمكن منها الوصول إلى ممالك الروس في الشمال الشرقي، وبولندا وليتوانيا في الشمال الغربي، وثالثًا -وهذا مهمٌّ جدًّا- أنَّها تُمثِّل نقطةً متوسِّطةً للتجارة الواسعة التي تنطلق من آسيا إلى أوروبا والعكس، وخاصَّةً بعض مدنها الساحليَّة مثل مدينة كفَّة Caffa.

هذه الأهميَّة الاقتصاديَّة جعلت هذه المنطقة هدفًا للقوى الاستعماريَّة المختلفة على مدار التاريخ، وكانت سيادتها في هذا الوقت مقسَّمة بين ثلاث قوى رئيسة؛ (خريطة رقم 15) هي چنوة، وإمارة تيودورو البيزنطيَّة، وخانية (إمارة) القرم المغوليَّة المسلمة.

بعد انتصار ڤاسلوي أراد استيفين الثالث أمير البغدان استثمار الحدث، واستغلال اضطراب الدولة العثمانية، فأرسل جيشًا من البغدان يهدف إلى السيطرة على القرم[9]، وهي خطوةٌ خطرةٌ ستُؤثِّر على الملاحة في البحر الأسود، وبالتالي على مستقبل الدولة العثمانية، فهنا فكَّر محمد الفاتح بسرعة في توجيه قوَّته إلى القرم ليضرب أكثر من عصفور بحجرٍ واحد! إنه أوَّلًا سيلتقي في القرم مع جيشٍ فرعيٍّ للبغدان فمن المتوقَّع أن يُحقِّق عليه النصر المباشر، وثانيًا سوف يتخلَّص في هذه الحملة من الخطر الچنوي تمامًا؛ وثالثًا سيُوَفِّر نقطة انطلاق مهمَّة جدًّا للشمال، الذي يشمل مملكة بولندا وروسيا، ورابعًا سيُصبح عنده طريق لدخول البغدان من شرقها وشمالها، بالإضافة إلى الطريق الجنوبي، وخامسًا سيُغلِق ملفَّ الدولة البيزنطية تمامًا بعد السيطرة على إمارة تيودورو البيزنطيَّة، وسادسًا، وهو من أهم الأمور، سيفتح ضمُّ القرم بابَ التعاون مع مغول القرم المسلمين، وبالتالي يُمكن الاستعانة بهم في غزو البغدان، وفي الجيوش بشكلٍ عام، وهذا سيُوفِّر طاقةً إسلاميَّةً كبرى يمكن أن تُغيِّر من موازين القوى.

تواصل الفاتح مع مغول القرم الذين رحبوا بقدومه، لوجود اضطراباتٍ في الحكم عندهم جعلتهم فريسةً للسيطرة الچنوية[10][11][12]، وقد اشترط عليهم الفاتح أن يكونوا تابعين للدولة العثمانية، وكذلك اشترط عليهم أخذ كلِّ الموانئ البحرية التابعة لچنوة، وأخيرًا اشترط عليهم أن يمدُّوه بالرجال في حال احتياج الجيش العثماني لذلك، وقد وافق مغول القرم على كلِّ شروط الفاتح، ومِنْ ثَمَّ بدأ التجهيز للحملة[13].

في صيف 1475م تحرَّك أسطولٌ عثمانيٌّ كبيرٌ من إسطنبول بقيادة الصدر الأعظم كديك أحمد باشا[14]، وهو الأسطول الأكبر في تاريخ البحر الأسود حتى هذه اللحظة؛ إذ بلغت عدد سفنه 473 سفينةً (183 سفينة حربيَّة + 290 سفينة نقل)[15]، وبلغ عدد أفراده 20 ألف مقاتل[16]، وهو رقمٌ كبيرٌ بالقياس إلى المهمَّة الموكلة إلى الجيش؛ لأنَّ القوَّات الچنويَّة في هذه المستعمرات قوَّاتٌ رمزيَّةٌ يسيرة، وكذلك قوَّات إمارة تيودورو، بالإضافة إلى تعهُّد نبلاء القرم المسلمين في المساعدة في المهمَّة.

رسا الأسطول العثماني في ميناء كَفَّة في (25 المحرم 880هـ الموافق 1 يونيو 1475م)، وقصفت المدفعيَّةُ العثمانيَّةُ الأسوارَ والمدينة، وفي اليوم الخامس من يونيو سقطت المدينة في يد الجيش العثماني، وكان أحد أيسر الفتوح في تاريخ الدولة، وعلى الفور تحرَّك الأسطول إلى المدن الأخرى في الساحل، فسيطر على كلِّ المرافئ الچنويَّة، بل سقطت إمارة تيودورو بسهولةٍ بعد حصار عاصمتها منكب، وهكذا تمكَّن العثمانيُّون من تحقيق النصر في غضون أيَّامٍ قليلة[17]، وقد ساعد المغول القرميُّون العثمانيِّين في العمليَّات البرِّيَّة[18].

هكذا تحوَّل ساحل القرم إلى لواءٍ عثمانيٍّ مركزه مدينة كفَّة، بل ودخلت خانية القرم في تبعيَّة الدولة العثمانيَّة، وهذا يعني إضافة عددٍ كبيرٍ من المقاطعات الروسية والأوكرانية إلى مساحة الدولة العثمانيَّة، مما يعني زيادة تتجاوز -في حساباتي- 600 ألف كم2 دفعةً واحدة، ويُقدِّرها بعضهم بمليون كم2[19]؛ وأيًّا ما كان الأمر فقد توسَّعت الدولة العثمانية جدًّا بهذه العمليات، ومن الجدير بالذكر أن هذه التوسعات لم تكن لتتحقَّق لو تأخَّر العثمانيون في ضمِّ هذه البقاع عدَّة عقودٍ من الزمن؛ وذلك لنموِّ الإمبراطورية الروسية بعد ذلك، والتي ما كانت لتسمح بهذا التمدُّد لو حدث في زمان قوَّتها، وبهذا يُضاف هذا الفضل الكبير للسلطان محمد الفاتح الذي كان يتميَّز برؤيةٍ مستقبليةٍ باهرة.

بعد هذا الاستقرار قرَّر محمد الفاتح غزو البغدان صيف 1476م. دخل الفاتح البغدان من ناحيتين: من الناحية الشرقية مستغلًّا تحالفه الجديد مع خانات القرم؛ ومن الناحية الجنوبية بحملةٍ همايونيَّةٍ يقودها بنفسه، وقد استطاعت الجيوش الأولى احتلال ميناء أكرمان Akkermanالمهم على ساحل البحر الأسود[20]، بينما توغَّل الفاتح بالجيوش الثانية في أرض البغدان حتى وصل إلى قرية رازبوايني Războieni، ليلتقي مع الجيش البغداني في 26 يوليو 1476م [21].

دارت موقعةٌ من أشرس المواقع في التاريخ العثماني، ومع أنَّ تقديرات الخسارة في الطرفين غير معلومةٍ على وجه الدقَّة؛ لكنَّها كانت في كلِّ الأحوال جسيمةً للغاية[22][23]؛ ثم كتب الله النصر للمسلمين في نهاية اليوم، بل كان النصر حاسمًا لا ريب فيه[24][25]، فقد وصل الأمر إلى انسحاب استيفين الثالث، ليس من أرض المعركة فقط؛ بل من البغدان كلِّها! حيث اضطرَّ الأمير البغداني إلى الهرب إلى بولندا[26].

عُرِفت هذه المعركة بمعركة «الوادي الأبيض «Valea Albă»[27]، وهي تُمثِّل علامةً مهمَّةً في التاريخ البغداني، وقد أعادت للدولة العثمانيَّة هيبتها، وفقد استيفين الثالث الكثير من صورته العظمى عند شعبه، وعند الأوروبيِّين، ومع ذلك لم يسيطر الفاتح على البلد، بل انسحب بجيشه عائدًا لتفشِّي الكوليرا فيه[28]، وإن كان الهدوء قد شمل هذه الجبهة بعد هذه المعركة الكبرى[29].

[1] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 173.
[2] Bolovan, Ioan & Pop, Ioan-Aurel: The Romanians in the 14th–16th centuries from the «Christian Republic» to the «Restoration of Dacia»، History of Romania: Compendium. Romanian Cultural Institute (Center for Transylvanian Studie), Romania, 2005., p. 267.
[3] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., p. 339.
[4] Iorga, Nicolae: Istoria lui Ştefan cel Mare, Bucharest, 1904., p. 130.
[5] Ghyka, Matila: A Documented chronology of Roumanian history from pre-historic times to the present day, Translated from the French: Fernand G. Renier, Anne Cliff, B.H. Blackwell, Oxford, UK, 1941., p. 108.
[6] Demciuc, Vasile M: Domnia lui Ștefan cel Mare - Repere cronologice, Codrul Cosminului (10), 2004., p. 10.
[7] Rezachevici, Constantin: Vlad Țepeș – Chronology and historical bibliography, In: Treptow, Kurt W: Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepe, East European Monographs, Columbia University Press, 1991., p. 261.
[8] Hasan, Mihai Florin: Aspecte ale relaţiilor matrimoniale munteano-maghiare din secolele XIV-XV [Aspects of the Hungarian-Wallachian matrimonial relations of the fourteenth and fifteenth centuries] (in Romanian), Revista Bistriţei, Cumplexul Muzeal Bistrița-Năsăud, București, România, 2013., p. 155.
[9] Eagles, Jonathan: Stephen the Great and Balkan Nationalism: Moldova and Eastern European History, I.B. Tauris, 2014., p. 46.
[10] Milner, Thomas: The Crimea: Its Ancient and Modern History: the Khans, the Sultans, and the Czars, Longman, Brown, Green and Longman, London, 1855.p. 141.
[11] سعد الدين، محمد حسن جان بن محمد التبريزي خواجه: تاج التواريخ في تاريخ آل عثمان، إستانبول، 1862-1863م.صفحة 1/555.
[12] زاده، عاشق باشا: تاريخي، مطبعة عامرة، اسطنبول، 1332هـ=1914م.صفحة 182.
[13] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 الصفحات 1/171، 172.
[14] Dânişmend, İsmail Hâmi: Osmanlı devlet erkânı: Sadr-ı-a'zamlar (vezir-i-a'zamlar), şeyh-ül-islâmlar, kapdan-ı-deryalar, baş-defterdarlar, reı̂s-ül-küttablar, İstanbul, Türkiye Yayınevi, 1971, p. 12.
[15] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/170، 171.
[16] Milner, 1855, p. 141.
[17] أوزتونا، 1988 صفحة 1/171.
[18] Milner, 1855, p. 141.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/169.
[20] فريد، 1981 صفحة 174.
[21] Bolovan & Pop, 2005, p. 243.
[22] Jaques, Tony: Dictionary of Battles and Sieges, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2007., vol. 3, p. 1058.
[23] Rogers, Clifford J. (Editor): The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology, Oxford University Press, New York, USA, 2010.vol. 1, p. 8.
[24] Shaw, Jeffrey M.‏ & Demy, Timothy J.: War and Religion: An Encyclopedia of Faith and Conflict, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., vol. 1, p. 68.
[25] القرماني، 1992 صفحة 3/35.
[26] Eagles, 2014, p. 215.
[27] Shaw, 1976, vol. 1, p. 68.
[28] Eagles, 2014, p. 215.
[29] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 290- 296.