الناس والمصحف
21-03-2015, 01:46 PM
الناس والمصحف

بقلم : محمد سلامي
موقع البيان الإسلامي


في زمن الإحتلال الفرنسي للجزائر سُمح للطلبة بتلقي العلوم التقنية كالكهرباء والهندسة والطب، ومُنعوا من تخصّصات معيّنة مثل التاريخ والحقوق والفلسفة، وفي الوقت الذي حوصرت فيه اللغة العربية والعلوم الشرعية إلى درجة المنع والتجريم كان حفظ القرآن مسموحا به ولا يعاني أهله أيّة مضايقات.

وكان من عادة الناشطين الوطنيين أن يقوموا بتوعية الناس بحقوقهم السياسية وتحفيظ الشباب الأناشيد الوطنية الممنوعة آنذاك، فإذا رأوا من يخشون شرّه تظاهروا بحفظ القرآن خوفا من انكشاف أمرهم.

إن الكفار هم الكفار يُبغضون دين الله ويعادونه، (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: 217)، والقرآن هو القرآن برسمه القديم، والحِفظ هو نفسه دِقّةً وضبطا، والتلاوة هي نفسها تجويدا وتغنّيا، فلماذا لم يستنكروه؟ بل صار وسيلة للتخفّي إلى يومنا هذا!

سؤال كبير ولا شك.

فلا مناص من الإعتراف بأن المتّهمين هم الذين يتبنّون القرآن كمبنى ورسمٍ دون معناه، فهم لا يفعّلونه في حياتهم لجهلهم بمحتواه أو مع علمهم وإصرارهم، فمهما قرأوا من الآيات ـ وإن كانت تنزل مباشرة على ما يعيشونه ـ إلا أنهم لا يذكرونها ولا يعملون بها ولا يفقهون أنها تعنيهم، كأنها تعني أقواما سابقين هلكوا في الدهر، فلم يتأثروا بالقرآن ولم يصنعهم القرآن، بل بات وسيلة لكسب لقمة العيش وتشييع الموتى وما يشبه ذلك.

عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ. (رواه البخاري ومسلم).

أما الكفار اليوم فيحترمون المصحف، لا لاقترابهم من الإسلام، ولكن لأن حاملي القرآن رضوا بأصناف من كفر العدو ولم يعُد في نظرهم عدوًّا للإسلام، فلا داعي لإخفاء المصاحف، بينما يُخفون الأناشيد التحريضية.

وفي نفس السياق يسأل البعض مستنكرا: لماذا يسمح الغرب في بلاده ببناء المساجد ولا تسمحون أنتم ببناء الكنائس في بلادكم؟ وأجاب البعض بأن الإسلام دين الحق ولا نقبل نحن الباطل في بلادنا، وأن الغرب علماني وليس نصرانيا ولهذا لا يمنع المساجد، وهذا لإقرارهم جميعا بالدين العلماني، واعتقادهم أن ما يسمح به من غيبيات وشعائر تعبدية وأخلاق هو نفسه الإسلام الكامل، ولذلك يشيّدون معابد العلمانية دون حرج.

والحق هو أن تلك المساجد لو كانت مساجد حقا ما تركها النصارى ولا العلمانيون، فأهلها لا يقصدون بالأذان والقرآن معناه، وبقدر مخالفتهم للواقع الجاهلي تتغير نظرة الجاهليين إليهم وموقفهم منهم.

فهذا عضو في الكونجرس الأمريكي يُقسم على المصحف، يضحكون عليهم ليركبوا ظهورهم، وهل ضرّ أبا جهل أن يحلف له المسلم بالله وحده على أن ينصره ويخدم دينه؟!

قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) (القلم: 51)، وعن محمد بن إسحاق قال: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ أَوَّل مَنْ جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسمعهُموه؟ فقال عبد الله بن مَسْعُودٍ: أَنَا، قَالُوا: إِنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنَ الْقَوْمِ إِنْ أَرَادُوهُ، فَقَالَ: دَعُونِي، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَمْنَعُنِي، قَالَ: فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضُّحَى، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، حَتَّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) - رافعا بها صوته - (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ)، قَالَ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَأُ فِيهَا، قَالَ: وَتَأَمَّلُوا وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا يَقُولُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ! ثم قالوا: انه ليتلو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ أَثَّرُوا بِوَجْهِهِ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي خَشِينَا عَلَيْكَ! قَالَ: مَا كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن! لَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنَّهُمْ غَدًا بِمِثْلِهَا، قَالُوا: لا، حَسْبُكَ، فَقَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ.

هذا يوم كان الذكر مفعّلا، أما أن يكون مجرد تراتيل فلا عليهم أن يخشعوا كما تخشع مادام لا يضر بواقعهم الجاهلي، مثل محاضرة في التوحيد ليس فيها إلا فضل ذكر لا إله إلا الله! حيث يتحول أصل الدين إلى أذكار.

فماذا يغني الحرص على وضع المصحف أعلى الخزانة حتى لا يعلوه كتاب؟ وماذا تغني العناية بتحلية المصاحف وتطريزها وتذهيبها حيث الزخرفة تكلّف من المال والوقت أكثر من الكتابة؟ حتى صار كلام رب العزة الذي خاطب به عباده آمرا وناهيا زخارف على الجدران لا تُقرأ أصلا.

وكما نشاهد فمدارس تحفيظ القرآن لا تسعى لتخريج فقهاء باحثين ودعاة ناصحين وإنما تُكدّس حفَظة فقط، فالهدف يقتصر على تكوين قرّاء وحفَظة لإمامة الناس في صلاة التراويح، إذ لا يمكنهم أن يكونوا مُفتين، وهم عادةً من الفاشلين في التعليم الحكومي، ولا يمكنهم تولّي القضاء لأنه لا حاجة إليهم أصلا في هذا الميدان.

والإسلام أيضا ليس بحاجة اليوم إلى نُسخ ناطقة من المصحف أو من صحيح البخاري، فضلا عن نسخ من الجزرية أو البيقونية، وإنما هو بحاجة إلى دعاة يذبّون عن عقيدته ويحسنون عرضَها، ويسبرون غَور الجاهلية فيضربونها في مَقاتلها، ولذلك تسعى الدولة العلمانية إلى تفريخ المزيد من تلك النسخ البشرية التي تعتبر الكفر التقليدي والمعاصر مباحات أو قربات إلى الله سبحانه وتعالى، وتجنّدها لصالحها، فتكون لها نِعم الظهير عن قناعة.

ومن برامج العلمانيين الخبيثة تركيزهم على رواية ورش عن نافع وعملهم على إحياء الخط الكوفي، وهذا بهدف حصر لغة خاصة بالدين، وإبعاد القرآن ولغته وخطه عن الحياة اليومية التي تُستعمل فيها لغة معاصرة، وإيجاد حاجز بين لغة القرآن واللغة المستعملة في حياة الإنسان، وهذا له أثره الكارثيّ على الأجيال القادمة إن استمرت الحال على ما هي عليه، فهذه الخطة كفيلة بأن تَحُول بين الناس والتقدم نحو الإسلام في البلاد التي تجري فيها، والعلمانية تبحث عن ثغرات ونقاط ضعف في المجتمعات فتتسلل منها أو تزيدها اتساعا بإمكانياتها المادية وتترك الأمر للوقت ليفعل فعلته.

فالقوم يتشبثون اليوم بقراءة وخط لا يطيقه الناس ويلزمهم ترجمته، وهذا بهدف تعسير القرآن وإيجاد فجوة واسعة وهوّة سحيقة بين لغة الصلاة ولغة الحياة من علوم وآداب وإعلام، ضمن مشروع عزل الإسلام عن الحياة.

إن كيفية نطق الحروف في قراءة نافع تختلف عن العربية المكتوبة اليوم التي وُضعت قواعد إملائها وفق قراءة عاصم، ولهذا ظن الكثير من الناس أن قراءة نافع غير فصيحة فتركوها كنوع من المقاومة الصامتة، وهم معذورون في ذلك لأنهم لم يألفوا تلك اللغة إلا كلغة عامّية، ولأنها تعزلهم عن سائر بلاد العالم التي يقرأ أهلها بقراءة عاصم نتيجة لظروف تاريخية، في وقتٍ تقرّب وسائل الإتصال الحديثة بين الشعوب، إضافة إلى يقينهم من أن الذي يعمل على فرض قراءة نافع لم يكن يوما يبتغي الخير لدين الله، كأقلّ ما يقال عنه.

وإن كانت قراءة نافع قراءة صحيحة فهي ليست واجبة وإلا لوجبت القراءات كلها، وإن قيل أنها قراءة الإمام مالك كحق يراد به الباطل، فهل الخط الكوفي مُنزل من عند الله أو من مذهب مالك ليتمسكوا به؟

لقد كانت لغة المغاربة المكتوبة في القرون الماضية تستعمل الخط الكوفي وطريقة نطق حروف قراءة نافع، أما اليوم فالعربية تكتب وتنطق وفق قراءة عاصم وخط النسخ.

والخط الكوفي يضفي على القرآن ولغته الصبغة التقليدية البالية، وهذا أشدّ ما ينفر الناس منه اليوم، ويعطي لأعدائه الحجة في وصمه بالرجعية والتخلف ومنافاة روح العصر، وكل هذا يؤدي إلى تحييد القرآن وعزل الإسلام أكثر فأكثر عن حياة الناس بمرور الوقت.

لنعلم أنها سياسةٌ مكمّلة للسياسة القائمة على حصر اللغة العربية في القرآن فقط، وإحلالِ اللغات الأجنبية محلَّها في شتى ميادين الحياة، موازاة مع تغليب العامية على الفصحى، ولم يكتفوا بذلك بل بحثوا عن عربية قديمة نطقا وكتابة لجعلها لغةً خاصة بالقرآن وعلومه، وكل هذا يؤدي آليا إلى احتكار طائفة من الناس لما تسميه العلمانية بالتعليم الديني، عوضَ أن يكون فقه الشريعة مشاعا بين الناس.

وهذا أشبه بمن يعيد الكتب المقدسة عند النصارى إلى اللاتينية القديمة وما قبل ظهور الطباعة، فهل يرضى النصارى بهذا يا ترى؟ وقد كان الرهبان في ذلك العصر يحتكرون تلك الكتب، وهذا الذي سهّل عليهم تحريفها.

كما تنهج الدولة العلمانية سياسة الإغراق في التفاصيل واختلاق الإهتمامات الجانبية لإبعاد الناس عن الهدف الحقيقي الكبير، فبدلا من إتقان الفهم والعمل بالقرآن تُوجِّه الناس إلى إتقان تلاوته وكفى، ثم الإبداع في فن التجويد، وتضخيم أحكام التجويد على حساب أحكام القرآن، مثل العكوف على مصطلح الحديث وعلم الإسناد والجرح والتعديل باعتباره هدفا بحد ذاته، إضافة إلى تجويد الأحاديث والتغنّي بها كما بتنا نسمع.

وهكذا نرى الإحتياط والتشدد في مخارج الحروف إلى حد الوسوسة، والمبالغة في القلقلة والغُنّة وغيرها، ولا يفعلون ذلك مع المعاني، إذ بات الإهتمام منصبّا على مخارج الحروف دون فقه القرآن، مع العلم أن الله عز وجل لم يكلف العرب فضلا عن غيرهم من النطق إلا ما قدروا عليه.

وأنتج لنا هذا من يرى العيب كلّ العيب إن أخطأ في الآية مرة أو استدل يوما بحديث ضعيف، ولا يرى عيبا إن أخطأ في أصل الدين كله.

إن قراءة القرآن ليست هدفا ذاتيا وإنما لتحصيل شيء آخر:

إيمان يزيد إخلاصا، كما قال معاذ بن جبل: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.

وعلم يهدي الطريق اعتقادا وعملا، كما قال عبد الله بن مسعود: إِذَا أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ فَأَثِيرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. والتثوير هو البحث عن تفسيره.

وقال أيضا: أنزِلَ القُرآنُ لِيُعملَ به فاتّخَذتُم دراستَه عملاً، وسيَأتي قومٌ يُثقّفونهُ تثقيفَ الغناء، لَيسُوا بخيارِكم.

فالدراسة وسيلة للعمل، وليست هي العمل بذاته، فما بالك بمجرد التغنّي بالقرآن؟

عن عوف بن مالك أنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا أَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يُرْفَعَ)، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: أَيُرْفَعُ الْعِلْمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ، وَقَدْ عَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ)، ثُمَّ ذَكَرَ ضَلَالَةَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا مَا عِنْدَهُمَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (رواه أحمد).

لقد استُحفظت هذه الأمة كتاب الله فضيّعته، كما فعلت أمم من قبلها، فالقوم اليوم يؤمنون بآية: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 4)، بينما يكفرون بهذه الآيات ومثيلاتها: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة: 44)، (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى: 10).

كان الصحابة رضي الله عنهم يحفظون آيات بهدف العلم والعمل بها، فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. (رواه أحمد).

وقومنا بعد مُضيّ العمر وشرخ الشباب في الحفظ والإعادة تجاوزوا ذلك إلى التنافس في القراءات العشر، ولو سألت أحدهم عن دينه لوجدته لا يختلف عن أي مشرك، ويعتبر نفسه خير الناس مغترًّا بحفظ القرآن ومتمثلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) (رواه البخاري)، ويظن أنه صاحب القرآن الذي ورد في شأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأُهَا) (رواه الترمذي وابن حبان).

إن من يجهل أحكام الفرائض والحلال والحرام والمعاملات الضرورية لا يجوز له تقديمُ حفظ ِالقرآن، فما بالك إن كان يجهل الإسلام من الكفر ويقع فيه بعفوية تامة؟ فتمرّ حياته في الحفظ والمراجعة وهو غارق في الكفر، ولا تأثير للقرآن في حياته، إذ نراه ناصرا ومتبعا لكتب الطاغوت، بل إن حافظ القرآن أشدُّ إصرارا على الكفر لجهله المركّب.

وبعد أن ضيّعوا دين التوحيد جعلوا حفظ القرآن سبيل الجنة، كم مليون حسنة دخلت الرصيد لترجيح الموازين يوم الحساب؟! وذهب بعضهم إلى إحصاء عدد الحروف المقروءة مع مضاعفة العدد عشر مرات، للحصول على نتيجة الحسنات، طبقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) (رواه الترمذي).

نعم، قراءة القرآن عبادة لله، لكن القرآن قبل ذلك هو خطاب الله لعباده، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْه.

ومن المعلوم أن كل من يقرأ كتابا يبحث عن شيءٍ ما بعد القراءة، فلا نتصور قوما عقلاء وصلتهم قوانين وتعليمات وأوامر ونواهٍ ممن يدينون له بالخضوع فكتبوها بخط جميل، وحفظوها عن ظهر قلب وعلّقوها على الجدران، وانتظروا منه الأجر دون أن يأتمروا بأوامره أو ينتهوا عن نواهيه.

والذين يجعلون شعارهم: كم حزبا تحفظ؟ نظرتُهم إلى القرآن نظرة الكَمّ، فغايتهم بلوغ الكم المرادِ حفظه، ليبقى أحدهم طول حياته يكرّره لا سيما مع ضعف اللغة، ثم ما الفائدة المرجوة من حفظ رقم الآية ومكان الآية من الصفحة والقراءة المرتّبة عكسيا من آخر السورة إلى أوّلها وإجراء المسابقات حول هذه الأشياء؟!

وكادوا يحصرون القرآن في الرُّقى والتعاويذ وغَلَوْا كثيرا في هذا الشأن، وينصحون به في عيادات الطب النفسي كوسيلة لارتخاء الأعصاب وتهدئة النفوس المرهقة بضنك العيش جرّاء البعد عن الله، كما قال عبد الله بن عباس: (ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى، ثُمَّ تَلَا: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه: 123)، والقرآن قبل ذلك شفاء من الشك والجهل والإستكبار عن الحق وغيرها من أمراض القلب، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57).

واتخذوه للتراويح حيث تمتلىء المساجد للإستماع للتلاوات الندية، وجعلوه للجنائز أيضا، حتى بِتنا زمانا نفرح لسماع القرآن ثلاثة أيام عند موت أكابرهم الذين هجروا كتاب الله طول حياتهم وأقاموا فينا كُتبا تخالفه.

وسمحوا له بافتتاح جلسات البرلمان، حيث يتسلل الشيخ مثل الذئب ليتلوَ على المشرّعين سورة الفاتحة، وبمجرد أن تنتهي مهمته ينسلّ بخِفّة اللص في صورة مخزية، ليقف الحاضرون بعدها احتراما وتقديرا لمعزوفة النشيد الوطني منصِتين إليها في خشوع، ثم يتفرّغون لتشريع ما يحلو لهم ويفرضوا على زوجته وبناته ما يشاؤون غير آبهين بالقرآن وما فيه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا) (رواه أحمد)، وقد عدّ منهم السلف قرّاءَ المعطّلة والجهمية وأهل الأهواء، فما بالك بهؤلاء الذين لم يتغلب كفر إلا وقفوا إلى جانبه؟ وقد عهدناهم مؤمنين بالجبت والطاغوت، يقولون لأعداء الله: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلُف قوم من بعد ستين سنة (أضاعوا الصلاةَ واتّبعوا الشهوات فسوف يَلقَونَ غَيًّا)، ثم يكون قوم يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر)، قال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكّل به، والمؤمن يؤمن به. (رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي).

وعن جندب بن عبد الله قال: كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْيَانًا حَزَاوِرَةَ فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَنَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ. (رواه ابن ماجه والطبراني وسنده صحيح)، مع أن حفظ القرآن كان أسهل عليهم منا.

وليس المشكل اليوم في أن الإيمان جاء بعد القرآن، لكن ما نراه هو قرآن بلا إسلام، بل توظيف للقرآن في خدمة الكفر بأطيافه.

وعن جابر بن عبد الله قال: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا فِيهِ قَوْمٌ يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ، قَالَ: (اقْرَأوا الْقُرْآنَ، وَابْتَغُوا بِهِ اللَّهَ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَهُ إِقَامَةَ الْقِدْحِ (أي: السهم) يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ) (رواه أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة).

تأمّل تصوير الحديث حالَهم وحرصهم الشديد على تقويم تلاوتهم، إذ ترى التركيز على استقامة النطق إلى درجة المبالغة في ذلك دون أن يتجاوز القرآن الترقوة لينفذ إلى القلب، ومن كان همّه يقتصر على المظهر دون المخبر تكون غايته دنيوية يتعجّل الأجر المادّي أو المعنوي في الدنيا قبل الآخرة.

ويوم كان القرآن مفعّلا كان القرّاء ملوكا وقضاة وقادة طيلة قرون من تاريخ المسلمين، عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمرَ بعُسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) (رواه مسلم)، فهل رفع حفظ القرآن قرّاء اليوم؟ بل رضوا بمقام التابع لا المتبوع.

فليس هؤلاء بأصحاب القرآن الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ) (رواه مسلم)، لأن الله عز وجل قال: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر: 48)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) (رواه مسلم)، فلا القرآن يشفع لحافظه المشرك، ولا النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للمستنِّ بسنته وهو مشرك.

ولا ينزّل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ) (رواه البخاري).

أو قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (رواه مسلم).

أو قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ (قل هو الله أحد) حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة) (رواه أحمد).

بل هم على خطى الذين قال الله عنهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5).

وعلى خطى الذي قال الله عنه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176).

قد يقال: هل تريدون أن ننسى القرآن؟ نقول: لو نسينا القرآن لما بقي دين، والحفظ بحد ذاته ليس مشكلة، ولكن المشكلة هي التفرغ للحفظ ونسيان أصل الدين، وهذا أسوأ أشكال هجر القرآن، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30)، لأنه هجر للإسلام كله وهدم لدين التوحيد، حتى وإن كانوا يتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار.

لذلك وجب القول: علينا بالتوحيد قبل التجويد.
التعديل الأخير تم بواسطة اسماعيل ناصر ; 21-03-2015 الساعة 01:53 PM