البندقية الأخيـــــرة
12-07-2017, 10:33 PM
البندقــــــــــــــــــية الأخيرة
(واحد..اثنان..واحد..اثنان..) تتقدم الكتيبة الفرنسية بترو و حذر عاليين ،خشية أن يفجأهم الثوار بهجوم ساحق.
في تلك الفلاة المجدبة و المترامية الأطراف من أرض الجزائر السليبة...و تحت قرص الشمس التي كانت ترسل أشعة تشوي الجلود و تحيل أحجار هذا المكان القفر و رماله إلى كتل ملتهبة كأنها قدت من جهنم ..
الأجساد تفور و تتضوع عرقا و الأقدام المتعبة في مسير سرمدي نحو براثن المجهول.. و الأعين الزائغة تتطلع ذاهلة إلى أفق صامت و غامض و مخيف.

أخبارا متضاربة تؤكد أن الثوار المجاهدين أو من يدعوهم الجيش الفرنسي – قطاع الطرق- قد عسكروا في مكان ما من هذه الصحراء الرحيبة والأكيد أن الثوار قد كمنوا استعدادا للمعركة الفاصلة ...
لهذا الغرض جيشت فرنسا هذه الكتيبة التي يبلغ عدد أجنادها العشرات .تعززهم الأسلحة الخفيفة و الأسلحة الثقيلة من مدافع و مصفحات و حاملات جند .
-أووووووووووووه -....صاح أحد الجند متبرما
– إلى متى سوف يتواصل هذا المسير المرهق تحت هذه الشمس اللعينة؟-

قال الرقيب المشرف على الكتيبة و هو يمسح العرق من جبينه
– تحلى بالصبر و الروية يا عسكري ،فهذه الأرض فرنسية و هي تستحق منا الكثير من العناء و الصبر و التضحية-
و سرعان ما نطق جندي آخر - لماذا يختفي أولائك الأقزام و لا يجابهوننا كما يصنع المقاتلون الشرفاء؟؟-
و تصايح الجند من كل أنحاء الكتيبة - الموت للجبناء و السحق للرعاديد –
ابتسم أحد العسكر و كان للتو قد أفرغ جرعة من الماء المثلج في جوفه و قال مزمجرا- أروع ما يتمناه المرء في هذه الفلاة المجدبة حسناء لعوب و قنينة من النبيذ المثلج -
ثم أردف في حزم بعد أن صمت طويلا :
- أتعلمون يا رفاق إنني أستكثر هذه الرصاصة التي في بندقيتي على هؤلاء الأوباش-
– صدقت يا جورج إن الرصاص أثمن من أن يوسد في صدور أولائك الرعاع . و لو كان الأمر بيدي لذبحتهم بسكيني هذا و وفرنا ثمن الرصاص- همس عسكري آخر مؤيدا و قد فرغ من التهام سيجارة خفية.
قال الرقيب مغتبطا للحوار الدائر بين رجاله – لا تنسوا أن الحذر و الاستعداد هما الكفيلان بالظفر بهذه المعركة و استئصال شوكة الأ عادي -
و ما كاد الرقيب يتم كلامه حتى انفجر لغم أرضي سقط له عدد من العسكر جرحى و صرعى...
و دب الرعب في الجنود لهذا الهجوم المفاجئ و شاعت الفوضى بين الصفوف حينا لولا أن الرقيب عمد إلى ضبط الصفوف و تقسيم المهام .و أعطى الإشارة لبدء المعركة و الهجوم...
في هذه اللحظة الحاسمة و المتوترة كانت تسمع طلقات متفرقة من الجانب الآخر.
و في الحين نصبت المدافع و المدرعات، وانتشر الجند في تلك البقاع وسط انفجار الألغام و تساقط القنابل ...و تداعى نفر غير قليل من جنود الكتيبة أرضا ،و ما فتئت المدافع أن أفرغت جام غضبها على الطرف الآخر و صبت نيرانها المستعرة فوق رؤوس الثوار.
بوم...بوم...بوم... استحال هدوء تلك الصحراء الوادعة و المطمئنة إلى دوي و صخب و أدخنة و دماء و آشلاء . تعانقت ألسنة اللهب مع السحاب القرمزي الذي يظلل هذه البقاع المنسية...
كان نصيب الثوار من السلاح شحيح من قبيل أسلحة الصيد أو السيوف أو القنابل اليدوية . و استعرت المعركة بين الطائفتين و حمى وطيسها .و استشرى الجرح و القتل بين صفوف تلك الكتيبة الباغية فإذا عدد الصرعى يتجاوز العشرين...و يستميت الجانبان في القتال إلى أن أوشكت الشمس أن تأوي إلى مخدعها.
لكن ماذا حدث؟...لقد توقف إطلاق النار من جانب الثوار. الشيء الذي جعل جنود الكتيبة في حيرة و ذهول من أمرهم ...
ارتسم على وجوههم المعفرة بالغبار و الأدخنة علامات الإرهاق ممزوجا بالذعر و الارتياب... صاح أحدهم ما وسعه الصياح.
– لا توقفوا النار يا رفاق ،إنها مكيدة يدبرها العدو -
و صاح الرقيب في جنوده موافقا – إياكم أن تنخدعوا أو تتخلوا عن أمكنتكم و أسلحتكم-
و قال ثان و ثالث – إن الظفر و النصر و شيكين و ليستمر إطلاق النار-
و عاودت البنادق و المدافع إطلاق قذائفها الجهنمية و حممها المحرقة و قنابلها الغاضبة ، لتدك الجانب الآخر حيث يقبع الثوار... استمر ذلك الرقيب يحث عساكره على الاستماتة في القتال و يشد من عزائمهم الخائرة و يحيي هممهم المنهارة...لكن الجانب الآخر كان هادئا قد أطبق عليه الصمت فلم تنطلق منه رصاصة أو قذيفة...وهنا تحقق المقاتلون الفرنسيون من النصر و فناء الثوار.
نطق الرقيب أخيرا بنبرة فيها الكثير من الارتياب.
- أهنئكم بالنصر يا رفاق لكن - ... صمت الرجل فجأة و تأمل عسكره بعين فاحصة و تابع – سننطلق إلى الجانب الآخر فورا ولنتسلح جميعا بالحيطة و الحذر فالغدر من شيمة العدو –
تسلل أفراد الكتيبة إلى موضع الثوار و هم حذرون .. توقع الرقيب أن يجد المكان مزدحما بالجثث و مليئا بالأشلاء المتناثرة...
آثار القذائف و دمار القنابل كانا بارزان للعيان .أعمدة الدخان تتصاعد في كل زاوية و النيران لا زالت مشتعلة.
- و لكن أين هي جثثهم البغيضة - زمجر أحدهم و الخوف و الفرق يملآن بدنه السمين.
و صاح جندي آخر و هو يصطنع البسالة اصطناعا .
– ماذا يحدث هنا ؟ هل كنا نقاتل أشباحا ؟-
(ابحث هنا...أنظر هناك..) اكتسح الجند المكان في محاولة يائسة عسى أن يعثروا على أشلاء الثوار ،أو على جثة واحدة ، أو نصف جثة حتى...
أمعنوا في البحث و التقصي. و الذعر يكاد يفتت فرائصهم من مفاجأة غير سارة قد تباغتهم.
لكن الفشل كان مآل مساعيهم .. طاشت عقولهم و جن جنونهم واستولى عليهم غضب شديد... صرخ العسكري جورج في ذعر أرعب رفاقه – يبدو أننا وسط كمين محكم. فلنقاتل بشرف من أجل فرنسا حتى آخر رمق-
و ما كاد الرجل أن يتم كلماته حتى سمعت ضحكات متواصلة...قال جورج .
- انه صوت حضرة الرقيب – و هرول الجند إلى مصدر الصوت و تحلقوا حول الرقيب و هم مشدوهون ...
لقد كان منتصبا كالتمثال يرنو في احترام إلى حفرة متوارية عن الأنظار و في قاعها جثة ملقاة .
كان الثائر صريعا قد غمرت الدماء و جهه ،و قد أمسك بيمناه بندقية عتيقة و بشماله قذيفة .و غير بعيد عنه حفنة من التمر و رغيف خبز يابس قد اعتلاه الغبار.
و الأهم من كل ذلك هي الابتسامة المطمئنة والمتألقة التي ارتسمت على سحنة هذا المقاتل كمثل الأنوار المتبددة وقت الغروب.
التفت الرقيب إلى جنوده و قد غادرته سورة الضحك تلك و قال:
– أتعلمون عدد أفراد الكتيبة التي كانت تقاتلكم؟-
تبادل الجنود نظرات الاستفهام و قد بلغ منهم التعجب مبلغا عظيما.
لم ينتظر الرقيب الإجابة... أردف قائلا و عيناه لم تغادرا جثة الثائر قط
– إن الكتيبة التي كانت تقاتلكم في بسالة و إقدام شديدين تتمثل في هذا المقاتل البطل... هذا المقاتل لوحده –
و بدا الوجوم على و جوه المقاتلين و كأن على رؤوسهم الطير . و تابع الرقيب قائلا – إن قضية يقاتل في سبيلها هذا الرجل بمثل تلك الجسارة و الشجاعة لا بد أن يكون حليفها النجاح و الظفر إن آجلا أو عاجلا –
و في الحين أمر الرقيب بحمل القتلى و إسعاف الجرحى...و انصرف ما تبقى من جند الكتيبة عائدين إلى ثكناتهم ذاهلين.