الدجــــــاجة
21-07-2017, 06:50 PM
الدجــــــــــــــــــ ـاجة
نفثت المدخنة أولى كتل الدخان الحالكة...ايذانا بانبلاج يوم آخر و جديد...
تتوسط المدخنة معملا عتيقا من بقايا عهد الاستعمار. في أيام الأعياد الوطنية.. يقف الشيخ محمود وسط حشود القرويين ليرسل على أسماعهم هذه الكلمات الرنانة .و التي يحفظها الجميع :
( بين جدران هذا المصنع الشاحب. كان أجناد فرنسا يستنطقون الثوار. لا يليق بنا أن ننسى أولائك الصناديد. فعلى أشلائهم نحيا اليوم تحت هذه الشمس الحانية).
تقاطر القرويون على المصنع ...فجلهم يلتمس الرزق بين أسواره السامقة.
هذا المعمل فتح منازل كثيرة و احتضن العديد من الشباب العاطل عن العمل...
( هذا المصنع غنيمة حرب من الاستعمار) هكذا كان الشيخ محمود يجهر بها بين الحين و الآخر.
انسلخ النهار بطيئا كخطوات السلحفاة..
سرننننننننننننننننننننن..صدحت أجراس المصنع ايذانا بانتهاء العمل...خرج سليمان مكدودا و خائر القوى...
لقد حمل اليوم فوق كتفيه حديدة عملاقة و هو يتحدى بقية الرفاق...
لكنه وجد ألم تلك الحمولة الفظيعة في عظام الكتف...لعن الحديدة و المصنع و الرفاق معا...
استوقفه فجأة مشهد دجاجة كثيرة اللحم و هي تتجول في خيلاء وسط حقل العمة الكفيفة "أم جمال"...
تردد الفتى قليلا...يداه لم تتعودا السطو على أملاك الآخرين...
( صحن باذخ من شربة الدجاج..مممممممممم) حدث نفسه قليلا و تمثل له الصحن أمام عينيه كأنه شريط سينمائي...
تسور سياج الحقل دون تردد. وفي طرفة عين كانت الدجاجة تتدلى بين ذراعيه مستسلمة و راضخة...
(سليمان سرق الدجاجة..سليمان سرق الدجاجة..سليمان سرق الدجاجة) .
صاح صبي من فوق أحد السطوح...و سرعان ما تكاثر الصبية و الأولاد و هم يجرون في أثر الفتى السارق..اجتاح الخبر كل شبر من القرية كما تجتاح الشعلة كومة من القش...
ذات يوم همس سليمان في أذن الشيخ محمود :
( لقد ضقت ذرعا بهذه القرية و أهلها..فالجميع يبغضني و يقدحني بكلمة سارق)...
أجابه الشيخ بهدوء شديد:
( أنصحك بالخروج من القرية لبعض الوقت...عسى أن ينسى الناس تلك الحادثة)...
و خرج الفتى تحت سقف الليل الداجي..اختار قرية بعيدة و لبث هناك يتكسب بين الحقول.و قد استبد به الندم على ما أقترفه في حق العمة "أم جمال"..
لكن الأيام تتصرم في غفلة من سليمان.
وقع في غرام أرملة حسناء. تزوجا و شيدا بيتا من القش و الطين و أنجبا كوكبة من الصبيان. و عاشا سعيدين رغم أنياب الفاقة البغيضة.
وهاهو قد أصبح كهلا يودع مباهج الشباب و يستقبل صرامة المستقبل المجهول...عاوده الحنين الى مسقط رأسه...الى قريته و أهله و صحبه...
تذكر فعلته القديمة و انقبض قلبه حتى كاد أن يقفز من بين أضالعه.
ثم طمأن نفسه قائلا:
( عشرون سنة كافية لأن ينسى الجميع تلك الحادثة)...استجمع ما بقي لديه من عزم و سار ميمما شطر القرية....
(آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه. أين النافورة الكبيرة التي كانت تتوسط القرية) هتف ذاهلا...
لقد اختفت النافورة و اندثر منزل الشيخ محمود و تلاشى المصنع و نبتت في مكانه عمارات باسقة تعانق السحاب...خاطب سليمان نفسه كما المجنون :
( أصبحت الأرض غير الأرض و السماء غير السماء و الخبز غير الخبز و الناس غير الناس )...
لكنه لم يقطع خيوط الأمل و راح يفتش عن بيته القديم ...
لم يفلح رغم كثرة المحاولات.و لمح كوكبة من الأولاد يلعبون الكرة...
سأل كبيرهم :
( ألا تعرف أين يقع بيت سليمان ابن سالم العطار؟؟؟؟) . تلكأ الصبي قليلا و هو يتفرس ملامح السائل...
ثم أجاب بسؤال :
( سيدي هل تعني منزل سارق الدجاجة؟؟؟؟)...
جحظت عينا سليمان و استسلم لذهول عميق. ثم غادر القرية و هو يهذي بكلام غير مفهوم...
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 21-07-2017 الساعة 06:54 PM