أغرب الأصوات التي نسمعها
28-04-2015, 07:22 PM
ديفيد روبسون
صحفي علمي




هل تسمع الأشياء ذاتها التي أسمعها؟ على الأرجح لا. فالخدع السمعية تظهر أن للناس آراء متباينة جداً فيما يتعلق بما يصل لآذانهم، كما يقول ديفيد روبسون.
سألت الباحثة صوفي ميكنغز جمهورها في قبو إحدى الحانات شمالي لندن: "تعلمون أنه طلب منكم أن تكونوا مهذبين وألا تقاطعوا أحدا؟ حسناً، بإمكانكم مقاطعتي لو رغبتم، فالأمر ليس مهما طالما أنني لا أسمعكم".
كانت ميكنغز تمزح معهم، فهي تعاني من الصمم التام، وكانت تجد صعوبة كبيرة في إدراك ما يدور حولها من حديث الناس بين بعضهم البعض. كان موضوع خطابها عن السمع والأشياء الغريبة التي تصل إلى آذاننا وتستقر في أذهاننا.
ولتوضيح ما تقصد، قامت ميكنغز ببعض الخدع السمعية والتي تعتبر من أغرب الأصوات التي سمعتها في حياتي. ما لفت انتباهي هو السهولة التي تنجح فيها الأصوات الغريبة والمبتكرة في أن تجعل الجمهور ينقسم بشأنها بدرجة كبيرة.
ومثل الضجة التي أثارها فستان اختلف الناس كثيرا حول ألوانه الحقيقية في الفترة الأخيرة، تتحدى المقاطع الصوتية التي أذاعتها ميكنغز للجمهور الافتراضات التي نكونها بشأن الطريقة التي يدرك بها كل واحد منا العالم من حوله.
لطالما قيل لنا ألا نصدق كل ما نرى، لكنني لم أكن أعرف أن حاسة السمع يمكن أيضا أن تكون بهذا القدر من الخداع. بعد أن غادرت تلك الحانة ووصلت إلى محطة قطارات "كينغز كروس" في لندن حيث الضجيج من حولي، بدأت اتساءل كم مما أسمعه هو مجرد أصوات تصنعها دماغي؟ إن الطريقة التي أسمع بها الأشياء من حولي لن تعود كما كانت من قبل.
وبدافع رغبتي لمعرفة المزيد، التقيت بميكنغز في مختبرها في جامعة "يونيفرسيتي كوليدج لندن" بعد ذلك بأسبوعين، حيث شرحت لي المزيد عما قالته في كلمتها، وعما تقوم به في هذا المجال.
على الرغم من التشجيع الذي لاقته من الأساتذة والمحاضرين الذين افترضوا خاطئين أنها ستكون سعيدة بكونها صماء، كانت ميكنغز مترددة في البداية بشأن الإقدام على دراسة علم الأعصاب السمعية. وأخيراً أقنعها أحد الأساتذة بالفوائد الجمة لتخصصها في هذا المجال.



تقول ميكنغز: "لقد امتحدني، وقال لي: قد تحصلين على تجربة جديدة وأصيلة حول الطريقة التي يسمع بها الناس الأشياء من حولهم. فوافقت وقلت لنفسي: فعلاً، ربما أكون كذلك."
اليوم تتركز دراستها على الطريقة التي نتعامل بها مع الضجيج خلال حضورنا الحفلات الصاخبة. لقد تبين أنه حتى عندما نكون منخرطين في محادثة ما، تراقب أدمغتنا في ذات الوقت ما يصدر من أصوات حولنا للمساعدة في أن تكون محادثتنا في أكثر اللحظات هدوءاً.
وتعكف ميكنغز حالياً على إجراء مسح للأدمغة لتتعرف على كيفية قيامنا بعمل جسدي ما بدون أن نصمت عن الكلام.
هذا الاهتمام بالغموض الذي يحيط بكيفية تعامل الدماغ مع الأصوات المعقدة كان سبب إلقائها كلمة عن الخدع السمعية في فعالية يطلق عليها اسم "عرض علمي"، وهي بمثابة ليلة كوميدية خاصة بالعلماء والباحثين يتحدثون فيها عن أبحاثهم أمام الحضور، والتي قالت خلالها: "الناس لا يدركون أن الصوت الذي أسمعه ليس هو ذات الصوت الذي تسمعه أنت."
كان المثال الأول الذي ضربته ميكنغز هو ما يعرف بـ"مفارقة النغمة الثلاثية" أو ترايتون بارادوكس، والتي يمكن أن تبدو أنها بسيطة لكنها مخادعة، فهي تظهر المبدأ الذي نشير إليه بطريقة جميلة.
مفارقة النغمة الثلاثية
يمكنك سماع أربع نغمات. وفي كل نغمة، تسأل الحضور: هل هذه النغمة تتجه صعودا أم هبوطا؟ وعندما أسمعت الحضور مقطعاً صوتياً في عتمة الغرفة التي تستضيف ذلك الحدث، وطلبت منهم أن يرفعوا أيديهم إذا سمعوا النغمة ترتفع أو تنخفض، انقسم الجمهور فيما بينهم إلى فريقين متساويين تقريبا. الموسيقيون على وجه التحديد كانوا واضحين في القول إنهم عرفوا الاتجاه الذي تذهب إليه النغمات صعوداً أو هبوطاً.



وكان من المقلق حقاً أن تكتشف أن الشخص الذي يجلس بجانبك لم يكن يسمع الشيء ذاته. تقول ميكنغز: "إنه أمر مثير للقلق لأننا نريد أن نشعر بأننا جميعاً نسمع الشيء ذاته، وننظر إلى العالم بالطريقة ذاتها."
في الواقع، لا توجد إجابة صحيحة. كل نغمة هي عبارة عن تشكيلة مركبة من عدة نغمات أنتجت عن طريق الكمبيوتر، وفصلت عن بعضها البعض بما يطلق عليه في عالم المسويقى اسم "أوكتاف" وهو الفاصل بين النغمات الموسيقية بنصف الذبذبة أو ضعفها، لذا من المستحيل القول إنه إذا كانت النغمة التي ستتلوها تقع أعلى أو أسفل السلم الموسيقي.
لا يحب الدماغ أن يعيش حالة من الشك، لذا فهو يقوم بالتأكد. ومن الغريب، طبقا لدراسة نشرتها ديانا دويتش، أستاذة علم النفس بجامعة كاليفورنيا، أن تجاوبنا يعتمد على لهجتنا أو على لغتنا. فالناس في كاليفورنيا على سبيل المثال يتوصلون إلى نتائج معاكسة لما يتوصل إليه الناس في انجلترا.
لهذا السبب، تعتقد دويتش أن أنماط الكلام التي تعلمناها في طفولتنا يمكنها أن تشكل بطريقة ما الكيفية التي يرسم بها الدماغ النغمات الموسيقية. وفي هذا السياق توصلت دويتش إلى أن الكلمات المكررة تبدو كأنها غناء، مستحضرة بذلك العلاقة القديمة بين الموسيقى واللغة.
خداع النغمة المتصاعدة
ما الذي سمعته؟ كثير من الناس يسمعون النغمة ترتفع وترتفع. في الحقيقة، يجري الأمر على شكل دورات متتالية من النغمات. فالنغمات التي ترتفع من جديد تبدأ عندما تنتهي النغمات السابقة.



ومن ناحية أخرى، يشبه الأمر أيضا ذلك العامود أو المصباح الجانبي الذي تجده غالبا خارج محال الحلاقة أو داخلها في بعض الدول، والذي يكون مخططا باللونين الأحمر والأبيض. يدور ذلك المصباح باستمرار، فتظهر الخطوط البيضاء والحمراء كأنها ترتفع باستمرار إلى الأعلى. ويمثل ذلك المعادل البصري السمعي لحركة مستمرة إلى الأبد.
كريستوفر نولان استخدم نفس الخدعة في فيلم The Dark Knight ليخلق الانطباع بأن الدوران في جهاز خاص بالرجل الوطواط في زيادة مستمرة. وكما تشير ميكنغز، فقد استخدمت خدعة مشابهة - عن طريق السلم الموسيقي - لإظهار السلم الطويل الذي لا ينتهي في فيلم "ماريو 64".
خلال حديثنا، وجهتني ميكنغز إلى الموقع الشخصي لأستاذة علم النفس، ديانا دويتش، والذي يعتبر مصدراً مهما لثروة كبيرة من المعلومات عن الأصوات التي تؤثر في الناس بشكل مختلف، وتؤدي إلى انقسامهم تجاه حقيقة ما يسمعون.
خداع الكلمات
ماذا سمعت؟ بالنسبة لي يبدو واضحا أن صوتا أنثويا يردد (لا سبيل) إلى النسيان. لكن مستمعين آخرين تباينوا فيما قالوا إنهم سمعوه. وكان من بين ما قالوا إنهم سمعوه كلمات تبدو غامضة حينما نسمعها بشكل غير واضح، وهي كلمات متشابهة، ومتقاربة جدا في طريقة لفظها.



هذا يوضح الطريقة التي من خلالها تتحكم توقعاتنا في تشكيل ما يستقر في أذهاننا، كما تقول دويتش. نحن نتوقع أن نسمع كلمات بعينها، ولذا تقرأ أدمغتنا الأشياء الغامضة وتحولها إلى شيء يسهل معرفته. قوة التوقع هذه تذكرنا بالإحراج الذي نشعر به عندما يتمتم أحدهم بملاحظة أو تعليق، ونبدأ نحن في محاولة تفسير ما سمعناه.
خذ مثالاً آخر للأصوات التي ينقسم الناس في تفسيرها:
الخداع متعدد المستويات
توصلت دويتش إلى أن من يستعملون اليد اليمنى في الأكل والكتابة يسمعون أصواتا ذات نغمات عالية في آذانهم اليمنى، بينما يسمع الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى تلك النغمات في الأذن اليسرى، أو بكلتا أذنيهم في ذات الوقت.
إنه مثال صارخ على أن الفروقات الصغيرة في نسيج الدماغ يمكن أن تغير وتبدل ما يصل إلى أذهاننا من معرفة، بينما نكون في جهل تام بحقيقة أن شعورنا يختلف عن شعور الشخص الجالس إلى جوارنا.
هذه الأخطاء هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة: قدرة الدماغ على تشكيل وتنقية حواسنا وإدراكنا للأشياء تساعدنا عادة في التعرف على العالم من حولنا، لدرجة أنه يمكننا على سبيل المثال أن نسمع كلمة "توقف" عندما نكون وسط ضجيج السيارات.
بدون تلك التنقية، لم يكن بإمكان ميكنغز نفسها أن تستعمل طريقة قراءة الشفاه لتعزيز ما يصل إليها عن طريق جهاز السمع الذي تضعه في أذنيها. وتضيف ميكنغز: "البحث الذي أقوم به جعلني أشعر بتقدير أكبر لأذناي، لأن دماغي يقوم بعمل مدهش في تحليل ما يصل إليه عن طريق الأذن، وتحويله إلى أشياء ذات معنى".
وتعتقد ميكنغز أن الخدع يمكن أن تجعلنا أكثر تفهما لهذه الأمور الغريبة. وتقول: "فقط عندما تسمع هذه الأشياء الغريبة، فإنك تدرك فجأة أنك تقوم بشيء معقد وحساس."