تحسين العقل
11-05-2020, 07:25 AM
يمكن تشبيه آلية عمل الدماغ بآلية عمل الحاسوب، إذ تقوم العمليات العقلية على نوعين من النشاط، أحدهما يتعلق بمستوى الذكاء أو الطريقة التي (نتفكّر) بها و هذا النشاط يقابله ما يقوم به معالج الحاسوب، و الآخر يتعلق بالمعرفة المخزنة في الذاكرة و إمكانية استخدامها عند اللزوم، أو ما يمكن أن نسميه ب (التذكّر)، يقابل هذا النشاط الآخر المعلومات التي يختزنها الحاسوب على أقراصه الصلبة و المرنة، طبعا مع الأخذ بالاعتبار أن أكثر الحواسب تطورا و تعقيدا لا تستطيع القيام بالأعمال المتنوعة التي يقوم بها دماغ الإنسان، إن تصميم حاسوب يقوم بالأعمال الميكانيكية البحتة فقط التي يقوم بها الإنسان, دون ردود الأفعال العاطفية والإنسانية الأخرى, يعني أن يكون هذا الحاسوب مجهزاً بعدد خيالي من الدارات الالكترونية المتكاملة، وإذا افترضنا أن بناء هذا الحاسوب ممكنا, فإن حجمه سيكون بحجم أكبر القلاع المعروفة.
لقد أشار القرآن الكريم* في أحد عشر (11) آية إلى عمليات العقل المتعلقة بالتفكّر: ففي و صفه لأولي الألباب (العقول الراجحة) جاء مثلا: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىظ° جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَظ°ذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار" آل عمران-191 كما أشار في (11) آية أخرى إلى النشاط الثاني المتعلق بالتذكّر، أو استجلاء المعلومات و المعارف المخزنة في الذاكرة للتعرف على آيات الله في خلقه، و في ذلك جاءت الآية الكريمة التالية مثلا: "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" النحل-13، ثم حث الناس جميعا على استخدام العقل الذي يقوم على هذين النشاطين معا في (22) آية (لاحظ أن 22 هو مجموع 11 لنشاط التفكّر + 11 لنشاط التذكّر)، ففي الإشارة مثلا إلى ذلك، جاء قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" البقرة-164.
لم يكن التمييز بين هذين النوعين من النشاط العقلي بهذه الدقة معروفا، حتى جاءت أعمال عالم النفس (ريمون كاتال- Raymond Cattal) في الستينات من القرن العشرين لتبلور ذلك بتعريف ما أسماه ب "العقل الإبداعي - ‘fluid intelligence’" و يعني القدرة على التفكير، وتحديد الأنماط ، وحل المشكلات وتمييز العلاقات بين الأشياء، و الوصول إلى نتائج مبتكرة، و "العقل المعرفي - crystallized intelligence‘."، و يعني القدرة على استخدام كل المعرفة والخبرة التي تجمعت لدينا بمرور الوقت في ما هو عملي و مفيد، و نعلم الآن أن الذكاء أو المقدرة على التفكر يختلف عن المعارف التي يختزنها العقل، و أن هناك طرقا عديدة لتطوير الذكاء لا علاقة لها بالطرق التقليدية المعروفة لاكتساب المعارف.
يتعلق هذان النمطان من النشاط العقلي بسني عمر الإنسان، فهما يتزايدان عموما منذ الولادة و حتى سن الثلاثين، ثم يأخذ النشاط الإبداعي في التناقص بعد سن الثلاثين، بينما يزداد النشاط المعرفي دوما مع زيادة العمر.
يتحسن النشاط المعرفي من خلال دراسة المعلومات وتعلم الحقائق، إنه نوع النشاط الذي يتم بناؤه من خلال الدراسة للامتحانات في المدرسة مثلا، أو الذي نحصل عليه من تجاربنا الحياتية المتنوعة التي نميز من خلالها بين الخبيث و الطيب من خلال التجربة و الخطأ.
على العكس من ذلك فإن النشاط الإبداعي لا يقوم على جمع الحقائق والبيانات، إنه نوع من النشاط المُلْهِم، فقد يكون للإنسان مخزون معرفي عظيم و يكون شديد الحمق في الآن نفسه، فالقابلية العقلانية القوية للبحث و التمحيص لا علاقة لها بتراكم المعارف البتة، إذ لم يلح على إسحاق نيوتن –واضع أسس الجاذبية الكونية- شيء من ثراء المعرفة في صباه، و لم يعرف بيتهوفن مؤلف السيمفونية العالمية الخامسة كيف يضرب و يقسم الأعداد، أما العالم الفذ آينشتاين الذي دوخ علماء عصره بنظريته النسبية، فقد كان يعاني في صغره من صعوبات في النطق و التعلم و قد رسب في امتحان الدخول إلى الجامعة، واضطر للعمل ككاتب بسيط في مكتب براءات الاختراع في بيرن-سويسرا. لم يؤدِّ تراكم المعرفة إلى الإبداع في يوم من الأيام، و إنما يتحقق الاكتشاف و الإبداع بالفطرة المدركة في حين أن المعرفة تتعكز خلف هذه الفطرة و تحاول أن تنوع من الاكتشافات عن طريقها، إن المعرفة هي خادم الخيال المبدع.
يمكن تحفيز الإبداع بطرق متنوعة، فمثلا تقدم (أندريا كوسزيفسكي- (Andrea Kuszewski ، العالمة و الخبيرة في معالجة السلوك الإنساني، العديد من الاستراتيجيات التي قد تحسن من إمكانية الإبداع، نتناولها بإيجاز في ما يلي:
لا تقف عند حدود المألوف:
علينا أن نتحدى طرائقنا التقليدية في التفكير و أن لا نركن للقديم و المألوف لمجرد التقليد على مبدأ " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىظ° أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىظ° آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ"، علينا تحدي أدمغتنا لتعمل بطرق جديدة و لتقوم بإنشاء سيالات عصبية جديدة تحسن من أدائها، إن استكشاف أكبر قدر ممكن من الأفكار والأنشطة الجديدة هو طريقة جيدة لتحفيز الإبداع.
تخطّى حدود المعقول:
نعلم أنه لبناء عضلات الجسم، علينا أن ندفعها إلى ما وراء مناطق الراحة. الأمر نفسه ينطبق على قدراتنا العقلية، فمن أجل الاستمرار في تحسين العقل، علينا أن ندرب أنفسنا على تخطي الراحة و الاسترخاء و أن نرقى إلى مستوى أعلى من النشاط العقلي، لذلك، و بمجرد أن نتقن شيئًا ما، نصبح بحاجة إلى الانتقال إلى مستوى أكثر تقدمًا من الجهد الذهني للحفاظ على تطور و نمو الدماغ، مثلا لو أتقنت لعبة لشطرنج للمبتدئين فلا تقف عندها، بل انتقل إلى المستويات الأعلى فالأعلى.
استخدم عقلك كله:
لتحقيق أقصى نمو عصبي، نحتاج إلى استخدام أدمغتنا بكامل تفاصيلها. نعلم أن الفص الأيسر من الدماغ يهتم بالمحاكمة المنطقية للأحداث، في حين أن الفص الأيمن ينشغل بالحكمة و الأدب، فإذا اعتمدنا إستراتيجية واحدة تتعلق باختصاص أحد الفصين، سواء كان ذلك المنطق أو الحكمة أو أية مهارة عقلية أخرى، مهملين تخصص الفص الآخر فإن الأخير سيزوي و يضمر و لن نحصل على الفائدة الكاملة من الدماغ، لذا علينا تنويع انشغالنا بنشاطات مختلفة. من الناحية العملية، هذا يعني أنه إذا كنت مرتاحًا للرسم وكتابة الشعر، فيجب أن تحاول دراسة العلوم، وبالعكس، و إذا كانت الرياضيات محط اهتمامك ، فحاول أن تجرب ترتيب الزهور أو النجارة في أوقات فراغك.
إما أن تستعمل دماغك أو أنك ستخسره:
تتشابه أدمغتنا وعضلاتنا في أن كليهما يضمران ثم يتوقفان عن العمل إذا لم نستخدمهما باستمرار، لذلك فإن التكنولوجيا التي وفرتها الحضارة المعاصرة و بالرغم من فوائدها الجمّة جعلت عقولنا تركن إلى الراحة فأصبحنا نستعمل الحواسيب مثلا لحل المشاكل الرياضية حتى أبسطها كعمليات الجمع و الطرح و الضرب،. لتجاوز الخمول العقلي الذي أورثتنا التكنولوجيا الحديثة إياه حاول القيام بالعمليات الحسابية البسيطة يدويا، أو التخلص من توجيه سيارتك عبر الأقمار الصناعية مستخدما خارطة قديمة الطراز مثلا ...
كن اجتماعيا:
إن طبيعة العلاقات بين البشر من أهم الأسباب التي تورثنا الذكاء و الدهاء و المكر و التعاطف الاجتماعي باستخدام حصة كبيرة من قوة الدماغ، مما يؤدي إلى تحسين أدائه، كما أن قضاء الوقت مع الآخرين يؤدي إلى تبادل الأفكار و إبداع طرائق جديدة في التفكير، فالتنشئة الاجتماعية يمكن أن تحسن وظائف الدماغ بطرق متنوعة.
حافظ على نشاطك البدني:
تشير كثير من الدراسات إلى أن النشاط البدني أمر حيوي و هام لنمو الدماغ، و التقليل من خطر الإصابة بأمراض الدماغ التنكسية مثل مرض الزهايمر. تلخص ذلك القاعدة الذهبية التي تقول: "العقل السليم في الجسم السليم".
لقد ابتلي العقل العربي في العصور المتأخرة بآفة البعد عن النشاطين العقليين كليهما، فلا معارف تكتسب و تخزن في دوائر للمعارف، و لا إبداع و تجديد، بل وقوف على الأطلال و تغني بمنجزات الأجداد و العصور الغابرة، ناسين أن الأجداد كانوا من أمة اقرأ، و من الذين يتفكرون و يتذكرون، و أن هناك العديد من النظريات والأفكار حول ما يمكن عمله لتكون الحياة أكثر عالمية و إثارة وإشباعًا.

_______________
* عدد الآيات المشار إليها أعلاه مستخرج من برنامج إحصاء القرآن الكريم للمهندس عبد الدائم الكحيل، يمكن تنزيل هذا البرنامج من الشبكة العنكبوتية مجانا.
التعديل الأخير تم بواسطة طارق زينة ; 11-05-2020 الساعة 07:27 AM