أسس ومعالم الفكر المعاصر: البحث عن الإيمان الحق بين الكاثوليكية المسيحية و الإسلام
29-01-2025, 01:40 PM
في فترة ما بين الحربين العالميتين عندما تهاوت المبادئ والقيم انتهت الحال بالمفكرين الذين روعهم انهيار الأخلاق إلى أن يعيدوا النظر في بناء الحقائق كلها، بما في ذلك الأساس الذي يعتمد عليه هذا البناء نفسه، وهو الوجود الإلهي المتعالي و كانت الفلسفة الوجودية هي التعبير النموذجي عن هذه الحركة، فقد قامت بهدم التصورات التقليدية للوجود المتعالي أو الله ونظرت إلى هذا الوجود على أنه موضوع أو تصور عقلي، بل على أنه خاضع لتجربة حية واننا نصل إلى وجوده من خلال فعل الذات، واصبح المطلق بذلك قضية ذاتية، لا جوهرا. لقد مات إله أرسطو المسن المحرك الثابت البارد، ولم يعد يحلو للأجيال الصاعدة أن تمثل دور النادبة في جنازته؛ فالإله الوحيد الذي يمكنها تصوره والقابل للحياة هو القوة الخلاقة الكامنة في قلب كل شيء، فالله موجود حيث يوجد شيء جديد في سبيله إلى الوجود: في إبداع فن من الفنون أو في اكتشاف علمي، أو في حب عذري، أو في ثورة، إن الله هو نقيض القصور.
إنه الله كما يصف نفسه في القرآن الكريم: " هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم"، الحشر-24.
الحقيقة أن مكان الوجود المتعالي كان قد تضاءل بالتدريج في الفلسفة خلال القرنين التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين حتى استحال إلى وجود غير قابل للمعرفة عند سبنسر و كومت(1). وبذلك فقد أصبح الجو مهيأً للالتفات إلى المسيحية من خلال تعميق الوجود الإنساني، وأصبحت الفلسفات الوضعية المادية تشهد بطريقتها الخاصة على أن هناك رسالة روحية للإنسان لا يستطيع تجاهلها، ذلك لأن الإيمان المفقود لا يمكن أن يبقى طويلا بدون بديل ... والفضيلة تنهار سريعا في ديانة بلا إله، و في نزعة صوفية لا تستند إلى ما وراء الطبيعة، نجد مثل هذا الشعور حادا جدا عند (نيتشه) بالرغم من أنه قد اتخذ طريقا شاذا، كما نجد له أيضا نظيرا عند ماركس الذي استبدل الوجود المتعالي بسلطة الطبقة العاملة ومهّد بأفكاره هذه للينين كي يصنع نمرا ورقياً من بنات الأفكار هذه لم يلبث أن انهار بانهيار الاتحاد السوفييتي.
وبالنتيجة فالإنسان لا يقوم وحده إلا ليقيم الشقاء من حوله. توضح الآية الكريمة التالية ذلك ببلاغة وإعجاز: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" طه- 124، 125، 126.
تنطلق الكاثوليكية الوجودية من أن فكر الفيلسوف الملحد غير ملتئم وانه يطلب المدد من شيء آخر، في محاولة لإبراز الوجود المتعالي من خلال هذا النقص، وهي إحدى الخطوات المميزة للفكر الكاثوليكي المعاصر والتي كان الرائد لها "موريس بلونديل". لقد رسمت هذه الحركة رسما دقيقا مأساة الإنسانية الملحدة منذ بداية القرن العشرين ورأت أن المسيحية تموت وأن الكنائس لم تعد تمثل دور العبادة لأحد، بل دورا للطقوس والتبتل والزخرفة والتعزية النفسية المبتذلة من غير أساس جاد عميق أو ارتباط بالحياة الإنسانية ... لقد أصبح الدين خارج الحياة وأصبح يضع الناس خارجها.
من أجل أن تُبعث الحياة في هذه الروحية المحتضرة رأت الكاثوليكية الوجودية أنه من الضروري التركيز على التجربة الدينية مع الله وعلى الفرد المخطئ في مواجهة الله، واشاحت بوجهها عن مناهج العلوم في ميادين ما وراء الطبيعية بداهة لأن العلوم الطبيعية تتعامل مع الطبيعة وليس ما وراءها، فلا يمكنني مثلا استحضار العقل في أنبوب الاختبار. وبالنتيجة فقد صُرف النظر عن البراهين التقليدية التي تتناول وجود الله، وأصبحوا يتناولون وجوده من خلال التجربة الإنسانية الحية.
يلخص القرآن الكريم مأساة الإنسانية هذه في الآيات التالية: "يَا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم. الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك"، الانفطار- 6، 7، ،8 بل ويطلق العنان للعقل كي يتفكر في آيات الله في الآفاق والأنفس ليستدل من خلال التفكر في هذه الآيات على وجوده المتعال، فهذا ممكن في حدود العقل: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد"، فصلت –53. إن الله متعال لا تدركه الأبصار بل تدرك آياته، ومن أكبر آياته هذا الإنسان الشاهد على وجوده، ولا يمكن للإنسان أن يحقق ذاته إلا عندما يتخطى نفسه، والله هو الوحيد القادر على أن يملأ ذلك الفراغ الذي يشعر به الإنسان من داخله ومن حوله.
أما التفكير في ذات الله فقد نهى الإسلام عنه بدلالة قول الرسول (ص): "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله" كما جاء في الحديث المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
هذا بالنسبة للاتجاه الأول الذي سارت فيه الفلسفة المسيحية الكاثوليكية، أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الذي بحثت فيه عن الله من خلال التاريخ، فكل فكر هو فكر من خلال موقف معين، فهناك تفاعل للنقائض (أو ديالكتيك) للتاريخ وهو الحجة الأساس في فلسفة ماركس. فالطبقات المحرومة قد دخلت على مر العصور في صراع مع الطبقات التي قبضت على السلطة، وحدث صراع آخر بين البُنى الاجتماعية الدنيا مع البُنى الفوقية، و صراع النقائض الثوري يمثل القانون الذي يخضع له التاريخ، إن ديالكتيك أو حراك نقائض التاريخ لا يستلزم الإلحاد بالضرورة بل يتسع اتساعا طبيعيا في شبه حراك ديني تتصارع فيه النقائض وتسعى نحو المطلق، أو الله، الذي هو في المحصلة الأخيرة الكمال والجلال والعدل وغاية الغايات الكبرى، و كما يقول باسكال في تصوره لرموز التاريخ وايحاءاته: "يوجد في قلب المحايثة التاريخية دلالات ومؤشرات ترشدنا إلى الوجود المتعالي وذلك من خلال جميع أفعال الإنسان وليس في النبوءات والمعجزات فقط، ومهمتنا أن نصل إلى معنى هذا التاريخ الذي تحركه النعمة الإلهية"، وبمعنى آخر فإن الأرض يرثها أخيرا أولئك الذين يسعون نحو الكمال المطلق أو الله. وليس التاريخ في نهاية الأمر إلا هذا المشروع الجريء الذي يطمع في السيطرة على عالم مشاكس لينشئ في داخله مجموعة حقيقية من الغايات التي تؤدي إلى مملكة الله.
تلخص كل ذلك الآية الكريمة التالية: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (الحج-40).
و: "... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين". البقرة - 251
الاتجاه الثالث الذي سارت فيه الكنيسة باحثة عن المتعالي (أو الله الذي ليس كمثله شيء) هو اتجاه يضع الحدود أمام العلم ويحيله إلى ميدانه الخاص، في محاولة لفرض الإيمان بعيدا عنه تدعيما للامعقولية وغموض الحياة. بعكس الإسلام الذي فتح باب العلم والتفكر على مصراعيه للوصول إلى الله من خلاله، فبدأ الوحي بكلمة اقرأ كررها الوحي الأمين على مسمع خاتم النبيين محمد (ص) ثلاث مرات، ثم تتالت الآيات تحث على العلم وتبين فضل العلماء: " إنما يخشى الله من عباده العلماء" فاطر - آية 28.
و " "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب"، الزمر - آية 9
والحديث الشريف المروي عن أبي الدرداء: "العلماء ورثة الأنبياء"
والحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"
هناك عنصر مشترك يجمع بين هذه المحاور الرئيسية الثلاثة، وهو الحرص على أن ينبثق الوجود المتعالي من نقص في باطن الواقع يسعى نحو الكمال، والشعور بهذا النقص في التجربة الحية للإنسان سواء في وجوده الخاص أومن خلال التاريخ أو عن طريق العلم، أما الزعم باكتفاء الواقع بنفسه أوان الدائرة تقفل في أي وجه من أوجه النشاط الإنساني فهو العدو الذي تحاربه جميع هذه الاتجاهات، إذ أن إقفال دائرة السعي يعني بحد ذاته توقف تقدم التاريخ والعلم والتسامي لدى الإنسان.
كان رائد هذه الحرب ضد الاكتفاء الذاتي من جديد (موريس بلونديل)-(2) الذي كتب يقول: " ليس أكثر إلحاحا من أن ندخل في مناقشة منهجية مع تلك الديانة الحديثة التي تقوم على افتراض القدرة المطلقة الكامنة في الفعل الإنساني وكفايته بذاته" (3) . وقد استحوذت هذه الفكرة على جميع كتاباته وهي أن الإنسان لا يمكن أن يحقق ذاته إلا عندما يتخطى نفسه، وان الله وحده هو القادر على أن يملأ ذلك الفراغ الذي يشعر به الإنسان في داخله ومن حوله.
"هذا الواجب الوجود الأوحد يقف في بداية ونهاية كل الطرق التي يستطيع أن يسلكها الإنسان: في ختام البحث العلمي وفي حب الاستطلاع الذي يدفع بالعقل الإنساني إلى الأمام، في خلاصة العاطفة المخلصة الملتهبة، في ختام الألم والمعاناة، في ختام الفرح والشعور بالجميل، في كل مكان، سواء هبط الإنسان في أعماقه أو صعد إلى قمم التأمل الميتافيزيقي فإن الحاجة نفسها ستحدد الشعور بالله، لا شيء مما عرفته أو تملكه أو فعلته سيكفي نفسه بنفسه، ولا شيء من هذا كله سيكون هباء. سيتعذر عليه أن يكتفي بما وصل إليه، وسيتعذر عليه أيضا أن يلقي به وراء ظهره" (4) ، فالفعل الإنساني معناه أن يضيف الإنسان إلى العالم شيئا من ذاته وان يكون مدفوعا بغاية تحقق له الرضا والاكتفاء التامين ويبرز القصور دوماً بين النية التي تدفع الإنسان إلى الفعل والنتيجة التي يحققها من وراء الفعل ودائما يكون ما نحققه من نتائج أقل مما كنا ننوي تحقيقه بالفعل. هذا القصور بين لا نهائية الإرادة ومحدودية نتائج الأفعال يقودنا عن طريق ديالكتيك (جدل حراكي) تصاعدي للسعي نحو الله الذي يمثل الغاية الخالدة المنطقية الوحيدة في عالم يحيطه العدم، وهو الذي يبرر سعينا الحثيث على الطريق الصاعد نحو سمو ونبل المقاصد.

---------------------------------------------

1. هربرت سبنسر (بالإنجليزية: Herbert Spencer)‏ هو فيلسوف بريطاني (1820 - 1903). مؤلف كتاب " الرجل ضد الدولة" الذي قدم فيه رؤية فلسفية متطرفة في ليبراليتها. كان سبنسر، وليس داروين، هو الذي اوجد مصطلح "البقاء للأصلح ". رغم أن القول ينسب عادة لداروين. وقد ساهم سبنسر في ترسيخ مفهوم الارتقاء، واعطى له أبعادا اجتماعيا، فيما عرف لاحقا ب الدارونية الاجتماعية. وهكذا يعد سبنسر واحدا من مؤسسي علم الاجتماع الحديث إذ يعتبر الأب الثاني لعلم الاجتماع بعد أوجست كونت الفرنسي.
2. موريس بلونديل (1861-1949) فيلسوف فرنسي، تهدف أشهر أعماله، إلى تأسيس العلاقة الصحيحة بين العقل الفلسفي المستقل والمعتقد المسيحي (موافقة العقل للنقل).
3 . موريس بلوندل: الفعل-الطبعة الحديثة، ج1، ص 77.
4 . موريس بلونديل: الفعل - الطبعة القديمة، ألكان، ص344.