رجع من المستحيل
16-06-2017, 04:22 PM
رجع من المستحيل

اختلف مع زوجته مرة أخرى...من جدال تافه إلى نقاش حاد و ارتفعت الأصوات. و تبادلا الشتائم و السباب أكثر مما مضى.
و كادت الشحناء أن تنفلت إلى تشابك بالأيدي و النعال...
- أنت وقحة و سليطة اللسان –
- و أنت شخص لا يأبه لأمور البيت كما يصنع الرجال العظام-
أوشك أن يلطمها على وجهها لولا بقية من الرزانة و ضبط النفس ..كانت بذيئة و سليطة اللسان حقا.
تزوجا منذ عقد من الزمن أو يزيد. لقد كانت تلك الزوجة من اقتراح والدته.
التقيا في مستشفى المدينة حينما ذهب لعلاج والدته من مرض الربو..كانت هي الممرضة التي سهرت على تمريض والدته.
أعجبت الوالدة بتلك الممرضة الظريفة و همست في سمع ولدها ذات صباح :
- عزيزي رامي الممرضة سعاد ملاك لطيف نزل من السماء-
صمتت الأم و هي تتفحص ملامح ولدها و أردفت:
- لها الفضل في شفائي يا رامي...أتمنى من أعماق القلب أن تكون زوجتك و رفيقة دربك –
تورم وجه رامي و أطرق قليلا ثم قبل رأس والدته و قال في هدوء:
- الرأي لك يا أماه –
لم يكن رامي ليصطدم أمام رغبة أمه..لقد كانت المرأة العجوز أحب الناس إلى قلبه.
و تم الزفاف و شهدت المدينة عرسا منقطع النظير..و شاءت المنية أن تختطف الوالدة بعد صراع طويل مع مرض الربو البغيض..
لكن رامي شعر أن الخلافات بينه و بين زوجه أصبحت واقعا حتميا في السنوات الأخيرة...و تبرم من هذه الحياة البغيضة أخيرا.
أصبح يرى في هذا البيت مقبرة لأحلامه و آماله و مصدرا لأوجاعه و انكساراته..و بين الفينة و الأخرى يهمس بينه و بين نفسه :
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أماه سامحك الله. اختيارك بدد سعادتي و زرع اليأس بين أضلعي-
سحب الباب بشدة وراءه (بااااااااااااااااااااااااااااف ) و غادر البيت مغاضبا...
كانت تلك سيرته دائما حين يدب الخلاف بينه و بين سعاد. يمم شطر الحديقة الفسيحة..
الحديقة تقع خارج المدينة و تعود إلى الحقبة الاستعمارية.
فقط في هذا المكان يستطيع رامي أن يسترد بعض توازنه و هدوءه...خيم الليل فجأة و ساد الظلام في رحاب الحديقة الفيحاء.
هنا بين هذه الأشجار الوارفة يتخلص رامي من قشور اليأس و يستعيد شيئا من الأمل المفقود..
المصابيح كانت ترسل أضواء شاحبة على غير العادة...و اجتاح نسيم منعش فضاءات المكان. وحمل معه شيئا من عبق الياسمين و شقائق النعمان...
أوقد رامي سيجارة "مارلبورو " و أسلم خياله للذكريات .
قارن بين سعاد الممرضة الرقيقة و الجميلة منذ سنوات طويلة جدا.
و سعاد الزوجة المتوحشة و الصارمة منذ لحظات قليلة.
صدمته تلك المقارنة القاسية. و راح يلتهم السجائر بنهم غير معهود و شعر أن سعادته أصبحت رهنا بين أصابع تلك الزوجة المتمردة...
و أحس رامي أن شيئا قرص قدمه اليمنى بقوة. و شعر أن سيخا ملتهبا اخترق شرايين جسده الهزيل...
و تحرك في مخيلته شريط سريع يشبه شريط السينما..شاهد ملامح والدته الطيبة ثم شاهد سعاد في مئزر الممرضة و شاهد و شاهد ....
و فجأة أطبقت غشاوة بيضاء على ناظريه و فقد توازنه و خر مغشيا عليه فوق الإسفلت..
نور ساطع داعب جفنيه الجميلين...
فتح بصره بصعوبة بالغة...كانت الأضواء منتشرة في كل مكان.
استطاع رامي أن يرصد ملامح امرأة تنتحب بحرقة و ألم.
تلك المرأة هي سعاد. و سرعان ما أمسكت عن النحيب و قد أشرق وجهها بفرحة عارمة و هتفت :
- حبيبي رامي نحمد الله على سلامتك –
أجال رامي بصره في أرجاء الحجرة الوسيعة و استنتج أخيرا أنه فوق سرير المستشفى.
كان مرهقا و متعبا و أحس بألم شديد في مفاصله.
مسحت سعاد وجهه بضمادات رطبة و هي تقول :
- أربعة أيام كاملة و أنت في غيبوبة . لقد رجعت من بعيد يا حبيبي –
خاطب رامي زوجته بصوت خفيض جدا :
- ماذا حدث لي يا سعاد؟ -
قالت الزوجة و العبرات تتلألأ في مآقيها :
- السم كان قويا و لولا لطف الأقدار لكانت الكارثة -