مذهب الشك ونقضه بالقرآن
18-01-2018, 09:14 AM
مذهب الشك ونقضه بالقرآن
إبراهيم بن محمد الحقيل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
الشك هو:" تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر".(1)، وقال السمعاني هو:" التردد بين طرفي نقيض".(2)، وقال الرازي هو:" أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات".(3)
ومذهب الشك هو: العماد الذي يتكئ عليه الفكر الغربي المعاصر منذ أن دعا إلى الشك:(الفيلسوف: رينيه ديكارت)؛ إذ يقول": أنا أشك، إذن أنا موجود!!؟".
والشك عند ديكارت هو:" خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية"، وهو: " السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين"، وهو:" وسيلة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة أكثر وضوحاً".(4) حين يقول:
«الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها، فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد، واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها، سواء كانت أحكاماً فرضها الغير من معلمين أو مرشدين، أو من وكّل إليهم أمري، أم أحكاماً فرضها عليّ الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك!!؟".(5).
ولا يستثني ديكارت أي شيء من لزوم الريبة فيه، وإخضاعه لعملية الشك قبل الوثوق به حتى الغيبيات التي لا تدرك بالعقل وحده، ويدل على ذلك قوله:
«إن هناك ثمة أحكاماً كثيرة تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة: موضع الشك».(6).
وأصحاب مذهب الشك يقسمونه إلى قسمين:(7):
الأول: الشك المنهجي، ويصفونه بالمعتدل، ويدّعون أن الغرض منه هو: التوصل إلى الحقائق!!؟، ومن يأخذ بهذا الشك، فهو أقرب إلى الموضوعية من الجامد أو الجاحد.
الثاني: الشك المذهبي أو المعرفي؛ لأنه شك في أصل المعرفة، ويصفونه بالمتطرف: وهذا شك لا غرض منه سوى العبثية؛ لأنه هو في نفسه مذهب فلا ثوابت له، فصاحبه يشك ويشك في أنه يشك!!؟، وهو: مذهب السوفسطائيين.
ومنه:
ما روى محمد بن عيسى النظام، قال: مات ابن لصالح بن عبد القدوس، فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام، وهو غلام حدث كالمتوجع له، فرآه منحرفاً، فقال له أبو الهذيل: لا أعرف لجزعك وجهاً إذا كان الناس عندك كالزرع؟، فقال له صالح: يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه، لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك!!؟، فقال له أبو الهذيل: وما كتاب الشكوك؟، قال: هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان، فقال له النظام: فشك أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت، وإنْ كان قد مات، فشك أيضاً في أنه قد قرأ الكتاب، وإن كان لم يقرأه!!؟.( 8).
والمسوقون للفكر الليبرالي الغربي في العالم الإسلامي يتأسون بالغربيين في ذلك، ويجعلون الشك هو:" الخطوة الأولى للمعرفة، وأنه بدون شك، فلا معرفة، بل الجمود والتقليد والتخلف!!؟"، ولهم مقولات فيه منها:
1-" لذا لا بد للإنسان - ولا يتأتى ذلك له للأسف غالباً إلا في العيش في جو ثقافي فلسفي - أن يشك ولو مرة واحدة".(9).
2-" لقد بلغ التفكير في الإسلام مبلغاً فلسفياً لم تبلغه ثقافة أو حضارة أخرى، حتى إن المسلمين وعلى رأسهم كبار المتكلمين أقروا مبدأ الشك والبحث للوصول إلى اليقين". (10).
3-" مرض ثقافتنا الإسلامية هو: اليقين الأعمى، الشك بما هو حَيرة بين خيارات أو سيناريوهات عدة ممكنة، وبما هو ارتياب في حقيقة واقعة ما، وبما هو إحجام عن إصدار حكم قيمة على فعل ما، وبما هو تساؤل عن المرويات والمعتقدات، وبما هو شك في امتلاك الحقيقة ناهيك عن الحقيقة المطلقة... لا محل له من الإعراب في ثقافتنا الإسلامية المشابهة في هذا الصدد، لثقافات القبائل البدائية التي لا تعرف الشك. كل شيء آت لا ريب فيه. أحكامنا قطعية، حقائقنا بديهيات، ومعارفنا مسلّمات مستغنية عن البرهان. اليقين الأعمى ساد بين النخب منذ انتصار الإسلام الحنبلي".( 11).
بيد أن مذهب الشك هذا قديم وليس حديثاً كما يظن كثير من الناس أن أول من قال به:( ديكارت)، فأهل الكلام من أهل القبلة كان الشك منتشراً فيهم، خاصة المعتزلة، حتى جعلوه واجباً، ونُقل عن أبي هشام الجبائي قوله:
" أول الواجبات هو: الشك لتوقف القصد إلى النظر عليه".(12).
وعقد الجاحظ مبحثاً بعنوان (الشك واليقين) قال فيه:
" وبعد هذا، فاعرف مواضع الشّكّ وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التوقُّف ثمَّ التثبُّت، لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه، ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف".(13).
وقيل لأبي الهذيل:" إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ وأنتَ تكلِّم النظام وقمت، فأحْسَنُ حالاتِك: أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ"، قال:" خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد!!؟".( 14).
بل إن الجاحظ جعل اليقين للعوام، والشك للخواص فقال:
" والعوامُّ أقلُّ شكوكاً من الخواص؛ لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق المجرّد أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي تشتمل على طبقات الشك، وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك وعلى مقادير الأغلب".(15).
وأبو العلاء المعري ورد في شعره ما يدل على أنه وقع في الشك، ومنه قوله:
أما اليقينُ فلا يقينَ وإنما أقصى÷ اجتهادي أن أظُنّ وأحدِسا([16])
وقال أيضاً:
خُلِقْنا لشيءٍ غيرِ بادٍ وإنَّما ÷ نَعيشُ قليلاً ثمّ يُدرِكنا الهُلكُ([17])
وقال أيضاً:
ولا تطيعنّ قوماً ما ديانتهُم ÷ إلا احتيالٌ على أخذ الأتاواتِ
وإنما حمّلَ التوراةَ قارئها ÷ كسبُ الفوائد لا حبُّ التلاواتِ
إنّ الشّرائعَ ألقت بيننا إحَناً ÷ وأودعتَنا أفانينَ العداوات
وهل أبيحت نساءُ القوم عن عرض÷ للعرب إلا بأحكام النبوّاتِ (18)
وقد اضطرب الناس في عقيدته؛ لأن له شعراً مليئاً بالإيمان وتعظيم الله تعالى، وله شعر مغرق في الكفر والإلحاد؛ ولذا نحا بعض الدارسين إلى أنه مر بمراحل وأطوار في حياته، وتنقل بين الشك والجحود واليقين.
قال ابن الجوزي:" وكانت أحواله تدل على اختلاف عقيدته، وقد حكي لنا عن أبي زكريا أنه قال: قال لي المعري: ما الذي تعتقد؟، فقلت في نفسي: اليوم أعرف اعتقاده، فقلت: ما أنا إلا شاك، فقال: هكذا شيخك".( 19).
وقال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني:" قال لي المعري: لم أهج أحداً قط، فقلت له: صدقت إلا الأنبياء عليهم السلام، فتغير وجهه".( 20).
ويذكر أن ذلك كان في أول حياته، ورجع عنه في آخرها واستغفر وتاب، وليس المقام هنا مقام بحث توبته من عدمها ،لكن المقصود أن موجة الشك قد انتابته.
وأبو حامد الغزالي انتابته شكوك قال في وصفها:
" وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديني من أول أمري وريعان عمري: غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي، وحتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصُر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام".(21).
إلى أن قال:" أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا تشكل في تلك الحالة فيها، وثم تستيقظ فتعلم: أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو: حق؟ .... فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس: حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل، فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر".(22).
ويرى بعض الباحثين(23) أن الغزالي هو: أول من أصلّ للشك المنهجي، وحدد مهمته، وأكد وجوبه بقوله:" فمن لم يشك: لم ينظر، ومن لم ينظر: لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة".(24).
والداعون لمنهج ديكارت في الشك يزعمون: أن الشك عند ديكارت يختلف عن الشك الذي كان سائداً قبل عصره، فالشك عند ديكارت هو:" شك مؤقت يقوم على هدم الماضي في سبيل إصلاح ما فسد منه، أو إعادة النظر فيه"، في حين أن الشك عند من سبقه هو:" الشك المطلق".
والصحيح: أن الشك بقسميه المطلق والمعرفي كان موجوداً قبل ديكارت، وكلام الغزالي السابق واضح في أن شكه لم يكن مطلقاً، وإنما كان شكاً معرفياً، وهو أيضاً: ما قرره الجاحظ قبل الغزالي.
وكثير من أبناء المسلمين المنتسبين للفكر والثقافة: أخذتهم موجة الشك الديكارتي وانبهروا بها، وجعلوها الطريق الوحيد للمعرفة!!؟، وكثير منهم: حاول تطبيق هذا المنهج على نصوص الوحي كما فعل:( طه حسين) حين شكك في قصص القرآن وقال في تقرير منهجه:
" أريد أن اصطنع في الأدب العربي هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعاً يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي: أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً". (25).
ثم يقول:" للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن: لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي!!؟". (26).
ومن تأثير مذهب الشك على كثير من المتكلمين: أنهم جعلوا أول واجب على المكلف هو المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر.([27])
ومذهب الشك هذا قد أثر فيمن ينسبون للمدرسة العقلية من المفكرين المسلمين: كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ونحوهم.
يقول محمد عبده:
" فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته: لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي....!!؟.
إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو: النظر والفكر لتحصيل الاعتقاد بالله، لينتقل إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة". (28).
وقال أيضاً:" لا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة، وإنما لا بد أن يصل الإنسان إلى معرفة الله أولاً بعقله، ثم يصل إلى الإيمان بالرسل!!؟".( 29).
يتبع إن شاء الله بمبحث:( نقض مذهب الشك).