أسس ومعالم الفكر المعاصر: منطلقات وتوجهات
02-12-2024, 10:52 AM
لقد وضع الإنسان، الذي جعل من نفسه منتجاً وحارسا لأسلحة الدمار الشامل، الحضارة الإنسانية بماضيها وحاضرها على شفا جرف من الجحيم قد تقع فيه في أية لحظة نتيجة قرار خاطئ يمكن أن يتخذه أحدهم هنا أوهناك. لقد أصبح بمقدور البشرية أن تدمر نفسها بنفسها وأن تدمر كل ما على سطح الأرض، وأصبح لزاما عليها أن تقرر فيما إذا كانت ترغب بالاستمرار في الحياة.
لا شك أن التطور التقني الهائل الذي قدمته وسائل التواصل والاتصال والمعلوماتية قد جعل العالم قرية واحدة وأصبح كل فرد من أفراد هذه القرية مسؤولا عن العالم من حوله بحسب موقعه وامكاناته، بل إن الإنسان اليوم على عتبة اكتشافات ستضعه أمام آفاق لا حدود لها ليس على الأرض فحسب بل على كواكب أخرى واعدة في مجموعتنا الشمسية وربما في الكون كله مستقبلا.
هذا ما قدمه العلم والتكنولوجيا للناس حتى بداية القرن الحادي والعشرين، لكنه لم يقدم حلولا لمشكلات الإنسان الوجودية الكبرى في الاختيار والحرية والهدف.
وهكذا فقد أصبح العالم بكل ما فيه من فوضى وآمال، ومظاهر للعنف والانحراف والتناقضات والتطلع نحو المستقبل يلقي في وجه الفلسفة بكثير من التحديات والنُذر يستحيل تجاهلها، كيف لا والفلسفة هي الحكمة التي تحاول أن تعطي للوجود الإنساني معناه وقيمته، فإذا قُدّر للإنسانية الاستمرار في الوجود فلن يكون ذلك لأنها سبق أن وجدت، بل لأنها قد قررت لوجودها أن يستمر. أضف إلى ذلك أن قيام الحربين العالميتين وما تلاهما من حرب باردة بين القطبين البارزين في العالم: الاتحاد السوفييتي والحلفاء الغربيون بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، قد ترك أثرا واضحا في تكوين وتطور الفلسفة المعاصرة، لقد كانت النتيجة أن تهاوى وهم رخاء الرأسمالية اللا محدود و دعوى الديمقراطية الهشة التي أصبحت حكرا بين أصحاب النفوذ والأموال يداولونها بينهم ووهم المثالية الطيبة التي تصورت عالما حالما ورديا كل شيء يجري فيه بعدل وانتظام دون تدخل من قبل الإنسان، هذه النزعات التلفيقية واجهتها امتحانات قاسية في قلب الحياة نفسها فانقلبت الليبرالية العقلية إلى نزعة فاشية عدمية، وتحول المذهب التفاؤلي إلى وجودية مأساوية، حتى الفلسفات القديمة اضطرت إلى إدخال تجديدات على فكرها لمواجهة الواقع الجديد.
وهكذا فقد أضحى الأساس في نشأة التفكير المعاصر قائما على مرتكزين: إفلاس التزمت الديني، وافلاس التزمت العلمي وأصبح البحث عن طريق ثالث هو ليس بالمثالي ولا بالمادي سمة ثابتة للتفكير في عصر الإمبريالية.
و في الحالتين بدا العقل و كأنه النسيج الذي يصنع منه العالم، وبدا أن الوعي مركز مطلق للخلق: لخلق الواقع المادي وقوانينه و كذلك لخلق القيم الأخلاقية بكل ما تتضمنه من التزام، لكن ما يعوز الفلسفات التي تدور في فلك هذين القطبين هو الحياة الواقعية للإنسان، سواء أكان واقعا اجتماعيا أو تاريخيا، أو واقعا شخصيا في حياته الذاتية الخاصة، لقد حاولت اللا أدرية فتح طريق ثالث بين المثالية والمادية لتوفر تعايشا سلميا بين العلم والدين بوضع حاجز ترقيعي بينهما فباءت محاولتها بالفشل لقيامها على تفتيت الحياة الواقعية والشخصية للإنسان عندما قذفت بالعلم خارج حدود التاريخ الواقعي الذي حقق العلم بمنجزاته فيه الكثير، لكن العلم تحول تدريجيا ابتداء من غاليلي حتى ديكارت بل وحتى آخر المكتشفات العلمية في القرن التاسع عشر إلى ساحر يقدم لنا المعرفة الوحيدة الممكنة التي تزود الإنسان بتفسير لوجوده الخاص، واصبح الإيمان بالتقدم الذي لا حدود له والقائم على التزايد المستمر للمعرفة العلمية عقيدة راسخة لا تقبل النقاش، هذه العقيدة تقوم على المسلمات التالية:
- كل معرفة علمية تمثل نسخة مطابقة لواقع من وقائع الطبيعة لذا فإن الحقائق الأساسية في العلم لا تقبل النقاش وبالتالي فإن تقدم المعرفة يجب أن يقوم على تراكم مستمر في الحصيلة العلمية.
- كل الوقائع الطبيعية والإنسانية قابلة للكشف عنها عن طريق منهج واحد تقدم لنا العلوم الفيزيائية والرياضية نموذجا فريدا له.
- يترتب على ذلك أن جميع المشكلات بما في ذلك المشكلات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية تجد حلا لها عن طريق هذا المنهج.
لكن ما إن حل الربع الأول من القرن العشرين حتى تحطم هذا التصور العقيم للعلم وذلك بأن شهدت الفيزياء ثورتين قلبتا كل المفاهيم التقليدية فيها رأسا على عقب، أولاهما النظرية النسبية التي غيرت المفاهيم عن الزمان والمكان وضمتهما معا في بعد طبيعي واحد وبينت أنهما وجهان لعملة واحدة أسمتها الزمكان، ولم يعد الزمان بعدا مطلقا يسري بمعدل واحد في جميع أرجاء الكون كما تخيله نيوتن، بل بعداً طبيعيا يتعرض للتمدد أو الانكماش تبعا لسرعة المرجع الذي يقاس بالنسبة له. أما الثورة الثانية فقد كانت القاضية على كل مفاهيمنا عن الواقع الذي كاد أن يكون وهما في عالم الدقائق المكونة للذرة حيث تتمتع هذه الدقائق بصفات الطاقة والمادة معاً، لقد أصبح من الواضح أن التوفيق بين نتائج الميكانيك الكمومي الذي يدرس الدقائق داخل الذرة والمفاهيم التقليدية التي تدرس (الواقع) من خلال القوانين الفيزيائية التقليدية وتعتبره أساسا في تكوين الوعي والإدراك يتطلب إعادة تعريف لما نعنيه بكل من الواقعية والموضوعية. يقول العالم بول لانجفان(1) :
"من الضروري أن يعاد النظر في أكثر الأفكار رسوخا وشيوعا ... لأن الأفكار التي كنا نستخدمها في التعبير عن وجود الأشياء المألوفة كانت صادرة عن معالجة بالية قديمة لها"
لقد أدى القول بالحتمية المطلقة في العلم إلى فقدان العلم لطابعه الإنساني وأصبحنا أمام نوع من القدرية الدينية في العلم، وأصبح العلم أمام تحدٍ جديد للخروج من انطوائه المرتعد إلى عالم جديد من اللامعقول.
أما عدم اليقين الذي قدمته اللا أدرية فإنه قد مات و عفا عليه الزمن، ولم يقدم أية إجابة عن تساؤلات الإنسان واماله، بل تركه ريشة في مهب رياح عاتية تعصف به في كل اتجاه، ولم يكن غريبا أن تقوم ابتداء من عصر النهضة حتى الثورة الفرنسية حركات انقضاض ضد الحكومة الدينية وضد الدين المتزمت الذي كان يحمي الحق الإلهي للملوك ويحافظ على سلطان الملكية المطلقة في مجتمع قائم على الإقطاع في الأرض، والذي انقلب أحيانا إلى إقطاع مزعوم في السماء عندما كان كهان الكنيسة في العصور الوسطى يبيعون أراض في الجنة لمن يملك المال بموجب ما أسموه بصكوك الغفران، ويقطعون ألسنة من يعارضهم القول أو يحرقونهم أحياء، وقضي كذلك على التزمت الذي قدمه اللاهوت، من خلال التفاسير الساذجة لرجال الدين البسطاء، فقد اختفت فكرة الخلق بمعناها الحرفي الأسطوري والتي أدانها تماما التصور العلمي للعالم. لقد ركزت الفلسفة المعاصرة على تفهّم الدور الذي تقوم به معرفتنا للطبيعة والتاريخ الخاص بأفعال الإنسان وما يستلزمه ذلك من تحمله للمسؤولية من جهة وضرورة تمتعه بالحرية من جهة أخرى، متخذة موضوعها من الوجود الواقعي وتفاعلاته مع الإنسان.
وهكذا انتهى تصور العالم الذي يخلو من حضور الإنسان، وقد ظهر ذلك بوضوح على يد (ادموند هوسرل) في ألمانيا، الذي أثرت أفكاره تأثيرا بعيدا في الفلسفة المعاصرة:
______________________
(1) : بول لانجفان (بالفرنسية: Paul Langevin)‏ ـ (ولد في باريس في 23 يناير 1872 وتوفي فيها في 19 ديسمبر 1946) هو عالم فيزياء فرنسي يرجع إليه الفضل في وضع "ديناميكيات لانجفان" و"معادلة لانجفان" التفاضلية.