أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الظاهراتية
03-12-2024, 08:57 AM
تقوم الفلسفة الظاهراتية (Phenomenological philosophy) التي أسس لها هوسرل1 على نظرة وتقييم جديدين لما حملته العلوم من دلالة بالنسبة لوجود الإنسان ، وتمثل نقدا موجها ضد التصور المادي والنفعي للعلم لإعادة النظر في الأسس التي قامت عليها المادية الآلية2 من جهة والمثالية المتعالية3 والمناقضة لها تماما من جهة أخرى.
ولكي نستبعد التفسير الشكي اللا أدري واللا معقول للعلم ينبهنا هوسرل إلى أنه حين يتحدث عن أزمة فإنه لا يقصد بذلك أن يشكك في فعالية وقيمة الحقيقة العلمية ومستقبل العلوم بل قصد على العكس من ذلك مهاجمة النزعة الشكيّة التي قد يؤدي إليها تصور معين للعلم- لا العلم نفسه- وهو التصور الذي قام عليه المذهب الوضعي وجرد العلم من كل دلالة إنسانية.
إن ما طرأ من مستجدات علمية في مطلع القرن العشرين هو الذي جعل إعادة النظر في الأفكار البديهية التي كانت تقوم عليها العلوم أمرا محتما، فقد حطمت الهندسات اللا إقليدية والنظرية النسبية لآينشتاين ونظريات الميكانيك الكمومي التصورات التقليدية لعلم الفيزياء حول الزمان والمكان والتي اعتبرها كل من ديكارت و كنط صورة أولية وضرورية للإدراك الحسي، واصطدم المبدأ القديم للحتمية باستحالة تحديد مكان الجسم وسرعته في آن واحد في عالم الجزيئات الدقيقة المكونة للذرة كالإلكترون، ولم يعد بالإمكان أن نضرب صفحا عن حضور الإنسان و عن تدخل وعيه في مجريات التجارب الواقعية، كل هذا أصبح يدعونا إلى التفكير في معنى واقعية العالم وواقعية الصورة الذهنية التي نكونها عنه، بل يدعونا أكثر إلى التفكير في معنى الحقيقة، فلن ننظر إلى الأفكار على أنها حقائق أبدية صادقة دائما تنطبق على بناءات في الواقع بل سترتبط بالحركة التي ولدتها وستتوقف على المقتضيات العملية التي تعايشنا معها و دفعتنا إلى التفكير فيها. إن الحقيقة ليست واقعا محددا يقبع خارج ذواتنا، بل هي علاقة جدلية بين الوعي والفعل.
إن تقدم العلوم وتقدم التاريخ نفسه قد أظهرتا أننا لا نستطيع أن نسقط من حسابنا وجود الإنسان لجهة المسؤولية الكبرى التي يحملها في هضم التصور العلمي للعالم وفي استمرار التاريخ.
يذكرنا هوسرل في هذا الصدد أن الهندسة باعتبارها علم تحويل موارد الطبيعة إلى منتجات ومنشآت تسخر في خدمة الإنسان بالطريقة المثلى قامت واتخذت معناها على أساس من الواقع والإمكانات المتاحة، لكن الأفعال التي قام بها الإنسان في هذا المجال ومبادراته وجميع المقتضيات العملية التي أوجدت تلك الأفكار والمناهج التأسيسية الأولى للهندسة التي دعت إليها الحاجة المادية في الأصل ونتجت عن تفاعل الإنسان مع بيئته قد طواها النسيان بعد مرور القرون عليها ولم تعد تظهر إلى السطح. أما التصور الآلي للطبيعة الذي بدأ مع غاليليو في القرن السادس عشر وسيطر على العقول لثلاثة قرون لاحقة فقد أسقط من حسابه أولا الطبيعة الحسية لموضوع المعرفة كما أسقط ثانيا المبادرة التي تقوم بها الذات العارفة، وهو تجريد مزدوج أدى إلى فقر مزدوج للعلم.
هذا المنهج القائم على حذف الإنسان والغاء حضوره يمكن أن يؤدي استخدامه إلى نتائج إيجابية في علوم الطبيعة لكنه لا بد أن ينتهي إلى الإفلاس في مجال العلوم الإنسانية.
لقد مثّل ديكارت 4 قبل هوسرل مصدر تيارين فلسفيين كبيرين أقام كل منهما المعرفة مرة على أساس وجود موضوع بلا كيفية محسوسة وأخرى على وجود ذات بلا فعالية: في الطريق الأول سار الفيلسوف سبينوزا، و في الثاني الفيلسوف لوك، الأول هو طريق المذهب العقلي المجرد، والثاني هو طريق التجريبية السلبية، وقد مُسخ وجود الذات الإنسانية في هاتين النظريتين، وأصبح ينظر إليها إما على أنها ممر لعبور أفعال بلا فاعل، صادرة عن روح مطلقة ومحكومة بقوانينها الخاصة، واما على أنها مرآة أو قطعة رخوة من الشمع تسجل على صفحتها تسجيلا سلبيا الآثار والانطباعات الآتية لها من العالم الفيزيائي.
هاجم هوسرل هذه النظرة التي تحول فيها العقل إلى جزء من الطبيعة وحاول من جانبه تحديد العلاقة بين الفكر والموضوع فقال: "لا تتحدد العلاقة بين الموضوع والفكر عن طريق القول بالانعكاسات الذاتية بل عن طريق دلالة الموضوع ووجوده".
وهكذا فإن فلسفة الظواهريات عند هوسرل قد أتاحت لنا التخلص من كل تصور آلي مصدره نظرية الانعكاسات، ولم يعد الإنسان مجرد جزء أو منطقة في الطبيعة لا يربطه بها إلا روابط سببية.
وعلى هذا النحو غيّر علم النفس من منهجه تغييرا جوهريا، فلم تعد مهمته قائمة في أن يجعل من كل من الحالات النفسية سواء كانت صورة حسية أو انفعالا أو رغبة، أن يجعل منها حلقة في سلسلة طبيعية تربط العلة بالمعلول بل أصبحت قائمة في الفهم، أي في توضيح العلاقة الإنسانية الفعالة بالحدث وبإظهار الدور والمسؤولية الإنسانية بالحدث وبأن الإنسان هو مصدر كل سلوكه وليس ظاهرة تتصف بالسلبية. فالإنسان ليس موضوعا بل ذاتاً تمثل مصدرا للمبادرة والمسؤولية.
والحق أن جوهر فلسفة الظواهريات قائم في الكشف عن غموض طبيعة الوعي الإنساني واظهار أن الحياة الشعورية ليست قطاعا من الطبيعة الفيزيائية لأنها تحوي على المبادرة والمسؤولية الأخلاقية، فالغضب والخوف مثلا لا يمران في الوعي كما تمر الغيمة في السماء، والجبن والشجاعة لا يمكن أن يكونا قد نقشا في طبيعة الإنسان كما يرتبط الوزن بكمية من الخضار أو الفواكه، إنهما يتوقفان على الإنسان نفسه بدرجات مختلفة وفقا لظروفه وتجاربه مثل حياته الماضية والوسط الذي يعيش فيه حاليا، وسواء ترك الإنسان نفسه فريسة لإدمان المخدرات أو ارتفع فوق الأحداث حتى يصل إلى درجة البطولة، فإن كل هذا يتوقف عليه ويتحمل مسؤوليته.
بالخلاصة فإن العلاقة بين الوعي وموضوعه سواء في الدراسات الإنسانية أو الطبيعية ليست علاقة بين واقعتين تقع كل منهما خارج الأخرى بعيدة ومستقلة عنها، ففي علم النفس لا تمثل المعرفة واقعة بل فعلا، فإذا اعتقدت أني غضوب بطبيعتي فإني سأرفض الوسائل التي تجعلني أسيطر على مخاوفي.
وفي العلوم الطبيعية فإن مجرد رؤية سقوط التفاحة من الشجرة لن يجعلنا نكتشف قانون الجاذبية إلا بتدخل الوعي.
من الأفكار الهامة التي قدمها هوسرل في ظواهريته فكرة (الاتجاه القصدي) وهو الفعل الذي نضيف به معنى لوجود الشيء، فالعلاقة بين الوعي وموضوعه ليست علاقة شيء بصورته التي تظهر في المرآة، إنها علاقة تفاعل ايجابي يتطور إلى نتيجة محددة. الوعي إذا حرية ومفارقة للذات، لكنه لا يمثل مفارقة جوفاء أو حرية في فراغ، إنه وعي بإدراك كلي أو نظرة شاملة؛ إن لوحة (الموناليزا) مثلا ليست رسما لفتاة جميلة بالألوان، بل نظرة إنسانية شمولية لتوقف الزمان والمكان في لحظة معينة وتفاعلهما في تلك اللحظة بعلاقة مميزة مع الإنسان.
نخلص من كل ذلك إلى أنه لا وجود للحقيقة بمعزل عن الإنسان، وذلك لأن وجود الإنسان متبلور في هذه الحقيقة بعكس ما تقدمه لنا الموضوعية العلمية من حقائق وقوانين جامدة تفتقد الوعي الإنساني الذي أسهم في تكوينها.
إلا أن نقطة الضعف في مذهب الظواهريات أنه يجري خارج الزمان بعيدا عن التاريخ متجاهلا علاقة الروابط الإنسانية ودورها في صنع التاريخ والمجتمع، لذلك نجد ليفيناس ( (Emmanuel-Levinas)-5 يسجل اعترافه بهذا قائلا: "الوعي الذي تقوم فلسفة الظواهريات بتحليله لا يمثل بأي حال من الأحوال وعيا منخرطا في المجتمع ولا متداخلا مع التاريخ"
الحقيقة أن معنى الأشياء لا يتحدد بالرأي الشخصي للفرد إلا في حالات نادرة تعكس أزمة عميقة يمر بها هذا الشخص أو ذاك، حيث يطرح وجود الأشياء بمعنى يناسب حالته الخاصة. لكن، الدلالات التي تحملها الأشياء قد نُقشت فيها بواسطة ذوات واعية أخرى، وليست ذاتي الواعية. هذا المعنى نتاج عمل وتاريخ أناس آخرين سبقوا وجودي وأسهموا من خلال أعمالهم وتجاربهم في إكساب الأشياء معناها الحالي.
نقطة الضعف في فلسفة هوسرل تتلخص إذا في أنها تجري خارج التاريخ، إنها تقتطع من التجربة الإنسانية الشاملة الواقعية الحية لحظة واحدة تتجه إليها متنكرة لفسيفساء الحياة المتنوع من جميع جوانبه: العلمية والفنية والصراع الاجتماعي والانتماء التاريخي والالتحام الشامل بالكون، وتطالب بعدم الاعتراف بهذا كله لصالح لحظة نظرية في الحياة، نظرت إليها نظرة متميزة، فليس غريبا بعد ذلك أن ينتهي الأمر بهذا الوعي وهذه الذات المتوحدة إلى اليأس وتعرية الإنسان أمام الوجود كما هو الحال عند هايدجر 6، وإلى الحصر النفسي كما هو عند ياسبرز7 .
---------------------------------------------
1. إدموند هوسرل (Edmund Husserl، تُلفظ بالألمانية: [ثˆhتٹsةگl]؛ 8 أبريل 1859 - 26 أبريل 1938) فيلسوف ألماني ومؤسس فلسفة الظاهريات.
2. المادية الآلية: هي فلسفة بدأت في الظهور بين القرنين السادس والسابع عشر للميلاد، كان السبب وراء ظهورها الحقائق التي تم اكتشافها مثل الميكانيكية التي تخضع لها الدورة الدموية وتظهر القلب كمضخة للدم لا أكثر، أو قوانين الجاذبية التي تخضع لها الكواكب والنجوم والتي نزعت عن هذه الأجسام السماوية الأساطير القدسية التي كانت تحيط بها، بكلمات أخرى فقد بدا كل شيء بما في ذلك الإنسان خاضعا إلى حقائق طبيعية أو واقعية.
3. المثالية المتعالية أو المتسامية ل (إيمانويل كانت): ترى أن العالم المادي هو نتاج فكري محض، يقول كانت: إن المثالية المتعالية تعتبر الظواهر تمثّلات ذهنية وليست أشياء بذاتها، لأن معرفة الأشياء بذاتها أمر غير ممكن.
4. رينيه ديكارت (بالفرنسية: René Descartes)‏ (1596 –1650)، فيلسوف، وعالم رياضي وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ "أبو الفلسفة الحديثة"، كانت الكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده، انعكاسات لأطروحاته، وما زالت تدرس حتى اليوم.
5. ليفيناس: في اكتشاف الوجود، ص35
6 . مارتن هايدغر: ‏ فيلسُوف أَلَمَّانِي، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928. وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل.
7 . كارل تيودور ياسبرس ‏ هوبروفيسور في الطب النفسي وأحد فلاسفة ألمانيا المعدودين في القرن العشرين. ولد في أولدنبورغ بألمانيا، 23 فبراير 1883. وإذا كان اسم زميلهِ هايدغر قد غطَّى عليه إلى حد ما، إلا أن المتخصصين في تاريخ الفلسفة يعرفون قدرهُ وأهميتهُ.
التعديل الأخير تم بواسطة طارق زينة ; 03-12-2024 الساعة 09:00 AM