أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الوجودية
11-12-2024, 08:20 AM
حاولت الفلسفة الوجودية إيجاد علاقة بين الذات والوجود؛ يذكرنا سارتر أحد أهم مؤسسي الفلسفة الوجودية بنقطة البدء لهذه الفلسفة فيقول في كتابه: (الوجودية فلسفة إنسانية) ما يلي:
"في عام 1880 حاول بعض المدرسيين الفرنسيين أن ينشئوا أخلاقا علمانية، فكانوا يقولون: إن القول بوجود الله فرض لا غنى عنه لكنه باهظ التكلفة، لذلك فإننا نلغيه من حسابنا، لكن - وبالرغم من ذلك- لا بد من أجل أن تقوم أخلاق ويقوم مجتمع ويشّيد عالم يخضع للنظام أن تؤخذ بعض القيم مأخذ الجد، ولا بد أن ننظر إليها على أنها ذات وجود مبدأي ... وبعبارة أخرى إذا افترضنا أن الله غير موجود فإن ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة، ذلك لأن كل القيم التي كان من الممكن أن نقول بوجودها كمقولات بنّاءه ستختفي معه". وكان دوستويفسكي قد كتب في ذات المعنى يقول: "إذا لم يكن الله موجودا، فسيصبح كل شيء مباحا".(1)
الحقيقة أن الأمر لم يكن أمر قرار اتخذه بعض المدرسيين الفرنسيين بل كان تعبيرا عن نضج ظاهرة تاريخية بدأت مع انهيار العالم البرجوازي ووصلت إلى ذروتها عام 1929 في ظهور أزمة اقتصادية عالمية، وصدامات دولية آذنت بقيام الحرب العالمية الثانية، وانفجار الثورة البلشفية في روسيا، ونمو النظم الفاشية في أوروبا.
من جهته ظن كيركغارد (2) أن العالم الذي يتطور وفق قوانينه الخاصة لن يكون فيه مكان للإنسان، ولهذا استبعد من فلسفته الطبيعة والمجتمع وتاريخهما، يقول: "إن امتزاج الفرد بفكرة الدولة والمجموع والجماعة والمجتمع يبعد الفرد عن الاتصال مباشرة مع الله، إذ لابد لهذا الاتصال أن يمر بجميع هذه الحلقات أولا، وبهذا نكون قد وضعنا الفرد بعيدا عن الله من خلال أكثر المصطلحات الفلسفية تهذيبا وخداعا"(3).
يُلاحظ تأثر أفكار كيركغارد هنا بموضوع الاعتراف الذي تمارسه الكنيسة وتضع من خلاله وسيطا بين الإنسان وربه بغير مبرر معقول.
هذه النزعة الذاتية المطلقة لا تخلف سوى العدم، فالإلحاد اليائس الذي انتهي إليه فيلسوف مثل سارتر والذي قال فيه أن الإنسان فقاعة لا غناء فيها قريب جدا من إيمان كيركغارد الذي يعد شيخ المتصوفة الذين أقاموا تصوفهم الديني من المادية الجامدة. فالذاتية والتفرد وعدم الاعتراف بافتقار الوجود البشري إلى موجد والألغاز واليأس والعدم والوجود المتوتر هي الأفكار الرئيسية التي نلتقي بها في كل صورة من صور الفلسفة الوجودية.
لقد مهدت الفوضى الأخلاقية في العالم التي وصلت إلى قمتها بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، خاصة في ألمانيا، لقيام عدمية لا أخلاقية مطلقة، فهزيمة ألمانيا عام 1918 خلفت فيها خسائر أخلاقية تفوق الخسائر المادية، إذ سادت فيها روح عدمية مطلقة مهدت العقول إلى التسليم في نشوة بالنظام الهتلري بكل ما تضمنه من نزعة لا عقلية متطرفة واكبار للغريزة والأسطورة (4) .
في هذا الجو من الاضطراب بين سماء بدون إله، وارض مضطربة بلا أخلاق، بدت حياة الإنسان خالية جوفاء بدون مخرج، فلم يعد هناك من يأخذ بيد الإنسان نحو الخلاص، ولم يعد هناك قيم ثابتة، واختفت الحقيقة وأصبح العالم عالما غريبا لا سبيل إلى معرفته، وأصبح الإنسان يواجه العدم، وأصبح العدم هو الواقعة الوجودية الرئيسية في نظرة هايدجر للعالم.
ولم تكن هذه النظرة غريبة عن سارتر الذي أراد لنفسه أن يكون شاهدا يقظا على عصره، لهذا فقد عبّر عما فيه من عدم ولا معنى حسب رأيه، وعن إرادة الإنسان في أن يجد لنفسه مخرجا منه، فكانت روايته (الغثيان) نقطة البدء في إقرار فلسفة النفي والعبث مقابل فلسفة الإثبات والقيمة. الفكرة الرئيسية للرواية هي أن العالم لا معنى له من حيث أن الإنسان ليس له من هدف يسعى وراءه فيه.
يتساءل بطل الرواية (أنطوان روكنتان) يوما عن مبررات حياته ويسأل نفسه عن وجوده وعن ماهية الكون الذي يحيط به فيصبح نهبا لشعور من الحصر النفسي والاستغلاق والغثيان، والغثيان هو الشعور الذي نحس به أمام واقع يفتقر إلى الهدف من الوجود، مستغلق على نفسه، وابتداء من اللحظة التي أحس فيها روكنتان أن حياته لا هدف من ورائها ولا معنى وانه يسعى فيها إلى غير غاية أحس أنه أصبح موجودا كما يوجد الشيء أو الموضوع، وإذا كانت حياته لم يعد لها معنى فإن العالم لم يعد له معنى مثله هو:
"لقد تلاشت الكلمات وتلاشت معها دلالة الأشياء وطرق استعمالنا لها" (5) .
"وتقطعت الأوصال بين الأشياء والعقل، لم يعد لشيء مغزى؛ و "بدأت كل هذه الأشياء التي فقدت مسمياتها تترنح بلا مبرر: كل شيء وجوده مجاني: هذه الحديقة، هذه المدينة، بل أنا نفسي"(6).
يقول روكنتان: "لقد أدركت أني وضعت يدي على مفتاح الوجود؛ مفتاح شعوري بالغثيان؛ مفتاح حياتي الشخصية، والحق أن كل ما وصل إلى معرفتي بعد هذا يرجع إلى أنني أمام وجود عابث بالمطلق" (7).
وهو يحدد معنى العبث بقوله: "إنه ما لا نستطيع استخلاص وجوده من مقدمات".
كانت هذه نقطة الانطلاق في فكر سارتر، فالنقد الذي وجهه ضد العالم الموضوعي متصل اتصالا وثيقا بنقده للعالم البرجوازي: عالم الحقائق الموضوعية والقيم الثابتة التي تفتقد الهدف.
نظر سارتر في هذه الرواية إلى الخصائص المميزة للعالم الرأسمالي في مرحلة انهياره بكل ما وصل إليه من عبث وبشاعة في مبالغة تعسفية على أنها خصائص أزلية للكيان البشري، كما بالغ في نظرته للغثيان على أنه رد فعل ميتافيزيقي أمام الحياة بشكل عام بدلا من كونه مجرد رد فعل تاريخي في مواجهة عالم يتحلل، فبدا الحل لديه وكأنه هروب من عالم الواقع إلى عالم من الخيال والعمل الفني.
في محاضرته التي ألقاها عام 1946 تحت عنوان: "الوجودية فلسفة إنسانية" لخص سارتر هذه التجربة في صورتها العامة قائلا: "عندما نريد الحرية، نكتشف أنها تعتمد اعتمادا تاما على حرية الآخرين، ونكتشف أن حرية الآخرين تعتمد على حريتنا" ثم يستنتج النتيجة التالية: "إنني أجد نفسي مضطرا في الوقت نفسه الذي أريد فيه حرية الآخرين أن أريد حريتي" (8)، مما يبرز تناقضا صارخا في فكر سارتر من خلال رجعته الفجائية إلى الأخلاق التقليدية في جو لا يسمح بها مطلقا.
وفي كتابه (الوجود والعدم) أراد سارتر أن يتخطى الاختيار المحرج بين المادية والمثالية. فقد استمر في الرد الفينومينولوجي (الظواهري) حتى النهاية مستمرا في تنقية الوعي حتى أصبح لا شيء "فالوعي لا مضمون له"(9) ، فلم يعد الوعي لدى سارتر ذلك الصندوق الذي يحتوي على لوحة نفيسة للعالم والأشياء على شكل نماذج مصغرة وشرائح ضوئية.
وبعد أن طرد الأشياء من الوعي وحدد الوعي من حيث وجوده بأنه يمثل فراغا شاملا فقط باعتبار أن العالم كله يقع خارجه ظن سارتر أنه تفادى الانعزالية المثالية، فالفكرة التي تقول بأن الوجود لا يمكن إرجاعه إلى المعرفة دعوى رئيسية للفلسفة الوجودية.
كتب سارتر يقول: "لقد أحرز الفكر الحديث تقدما هائلا عندما أرجع الوجود إلى سلسلة من الظواهر التي تكشف عنه ... بمعنى أن الظاهرة تحيلنا إلى سلسلة طويلة من الظواهر لكنها لا تحيلنا إلى واقع يختفي وراءها" (10)
لكن ما هو الوجود الذي يتحدث عنه سارتر؟
يقول سارتر: إنه ليس الوجود الذي تقول به المادية لأنه لا ينتج الوعي، وهو ليس الوجود الذي تقول به المثالية لأنه ليس من نواتج الوعي.
وبين المادية والمثالية وجد سارتر مخرجا فيما أسماه ب "البرهان الوجودي" وهو يختلف اختلافا بينا عن البرهان في معناه عند اللاهوتيين وعند ديكارت، الذين بدؤوا من وجود الإنسان الذي لا يقبل الشك باعتباره وجودا مفكرا وشاكا وحاول أن يقّيم الوجود بالنسبة إلى الكائن اللا متناهي الحائز على الكمال المطلق أو الله.
أما عند سارتر فالأمر يتعلق أيضا بالبحث عن حقيقة سامية، لكنها بالنسبة له ليست الله، بل العالم!
ووجود هذا العالم (بدلا من الله) يصبح حقيقة لا قبل للشك فيها منذ اللحظة التي يصبح فيها الوعي، بعد أن فرغ من كل محتوى عاجزا عن الاستمرار في الوجود إلا باعتباره متجها إلى وجود غيره، فالوعي لا يمكن أن يوجد إلا بالقياس إلى وجود سامي: "الوعي وعي بشيء؛ وهذا يعني أن التعالي (التسامي) هو أحد العناصر المكونة للوعي" (11)، ذلك أن الوعي هو ذلك الحدس الذي يوحي بوجود شيء يختلف عنه لا يمكن للوعي بدونه أن يظهر إلى الوجود، فالوعي لا يوجد ويتحدد كيانه إلا بوجود ما يعوزه وهو الوجود عند سارتر، بينما هو الله واجب الوجود عند الفلاسفة الوضعيين.
الوجود عند سارتر ليس مخلوقا ولا خالقا إنه قائم بذاته، إنه يكون هو ما هو عليه.
إن تعريف الوجود على هذا النحو يستبعد الحركة والصيرورة من الوجود وسارتر يقول بهذا صراحة (12):
وثمة صفة أخرى واخيرة للوجود في ذاته، فلا نستطيع استخلاصه من شيء، ولا يمكننا التعبير عنه أو وصفه بصفة ما، يقول سارتر: "لا يمكن أن يشتق الوجود من شيء ممكن، ولا يمكن إرجاعه إلى الوجود الضروري(13)" . فالوجود يكون بلا مبرر لوجوده.
لكن هذا التصور للوجود تصور متناقض، فكيف يمكننا أن نتصور الوجود الذي لا يتكشف إلا عن طريق الوعي ولا يعتمد هو نفسه في وجوده على الوعي.
إن النموذج الذي قدمه سارتر للعلاقات الاجتماعية، هو نموذج مجتمع له ظروفه التاريخية المحددة؛ مجتمع تسيطر عليه الروح الفردية الشائعة في الحضارة البرجوازية بكل ما تنطوي عليه من فوضى شريعة الغاب، والمنافسة المحمومة بين الجميع، هذا المجتمع يجعل من الإنسان موضوعا أو شيئا من الأشياء نظرا لعلاقات التسلط والعبودية التي تسيطر عليه.
وبالخلاصة فإن الفكر الوجودي في صميمه فكر أناني يقوم على الذات البشرية ويعتبرها نقطة الانطلاق إلى الوعي، يوضح ذلك بردييف بقوله: "تصبح الفلسفة أقل وجودية إذا انتقلت من الذاتية إلى الموضوعية، لكنها تظل وجودية إذا عاش الفيلسوف في الذاتية واتجه منها إلى الوجود المتعالي"(14).
."في عام 1880 حاول بعض المدرسيين الفرنسيين أن ينشئوا أخلاقا علمانية، فكانوا يقولون: إن القول بوجود الله فرض لا غنى عنه لكنه باهظ التكلفة، لذلك فإننا نلغيه من حسابنا، لكن - وبالرغم من ذلك- لا بد من أجل أن تقوم أخلاق ويقوم مجتمع ويشّيد عالم يخضع للنظام أن تؤخذ بعض القيم مأخذ الجد، ولا بد أن ننظر إليها على أنها ذات وجود مبدأي ... وبعبارة أخرى إذا افترضنا أن الله غير موجود فإن ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة، ذلك لأن كل القيم التي كان من الممكن أن نقول بوجودها كمقولات بنّاءه ستختفي معه". وكان دوستويفسكي قد كتب في ذات المعنى يقول: "إذا لم يكن الله موجودا، فسيصبح كل شيء مباحا".(1)
الحقيقة أن الأمر لم يكن أمر قرار اتخذه بعض المدرسيين الفرنسيين بل كان تعبيرا عن نضج ظاهرة تاريخية بدأت مع انهيار العالم البرجوازي ووصلت إلى ذروتها عام 1929 في ظهور أزمة اقتصادية عالمية، وصدامات دولية آذنت بقيام الحرب العالمية الثانية، وانفجار الثورة البلشفية في روسيا، ونمو النظم الفاشية في أوروبا.
من جهته ظن كيركغارد (2) أن العالم الذي يتطور وفق قوانينه الخاصة لن يكون فيه مكان للإنسان، ولهذا استبعد من فلسفته الطبيعة والمجتمع وتاريخهما، يقول: "إن امتزاج الفرد بفكرة الدولة والمجموع والجماعة والمجتمع يبعد الفرد عن الاتصال مباشرة مع الله، إذ لابد لهذا الاتصال أن يمر بجميع هذه الحلقات أولا، وبهذا نكون قد وضعنا الفرد بعيدا عن الله من خلال أكثر المصطلحات الفلسفية تهذيبا وخداعا"(3).
يُلاحظ تأثر أفكار كيركغارد هنا بموضوع الاعتراف الذي تمارسه الكنيسة وتضع من خلاله وسيطا بين الإنسان وربه بغير مبرر معقول.
هذه النزعة الذاتية المطلقة لا تخلف سوى العدم، فالإلحاد اليائس الذي انتهي إليه فيلسوف مثل سارتر والذي قال فيه أن الإنسان فقاعة لا غناء فيها قريب جدا من إيمان كيركغارد الذي يعد شيخ المتصوفة الذين أقاموا تصوفهم الديني من المادية الجامدة. فالذاتية والتفرد وعدم الاعتراف بافتقار الوجود البشري إلى موجد والألغاز واليأس والعدم والوجود المتوتر هي الأفكار الرئيسية التي نلتقي بها في كل صورة من صور الفلسفة الوجودية.
لقد مهدت الفوضى الأخلاقية في العالم التي وصلت إلى قمتها بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، خاصة في ألمانيا، لقيام عدمية لا أخلاقية مطلقة، فهزيمة ألمانيا عام 1918 خلفت فيها خسائر أخلاقية تفوق الخسائر المادية، إذ سادت فيها روح عدمية مطلقة مهدت العقول إلى التسليم في نشوة بالنظام الهتلري بكل ما تضمنه من نزعة لا عقلية متطرفة واكبار للغريزة والأسطورة (4) .
في هذا الجو من الاضطراب بين سماء بدون إله، وارض مضطربة بلا أخلاق، بدت حياة الإنسان خالية جوفاء بدون مخرج، فلم يعد هناك من يأخذ بيد الإنسان نحو الخلاص، ولم يعد هناك قيم ثابتة، واختفت الحقيقة وأصبح العالم عالما غريبا لا سبيل إلى معرفته، وأصبح الإنسان يواجه العدم، وأصبح العدم هو الواقعة الوجودية الرئيسية في نظرة هايدجر للعالم.
ولم تكن هذه النظرة غريبة عن سارتر الذي أراد لنفسه أن يكون شاهدا يقظا على عصره، لهذا فقد عبّر عما فيه من عدم ولا معنى حسب رأيه، وعن إرادة الإنسان في أن يجد لنفسه مخرجا منه، فكانت روايته (الغثيان) نقطة البدء في إقرار فلسفة النفي والعبث مقابل فلسفة الإثبات والقيمة. الفكرة الرئيسية للرواية هي أن العالم لا معنى له من حيث أن الإنسان ليس له من هدف يسعى وراءه فيه.
يتساءل بطل الرواية (أنطوان روكنتان) يوما عن مبررات حياته ويسأل نفسه عن وجوده وعن ماهية الكون الذي يحيط به فيصبح نهبا لشعور من الحصر النفسي والاستغلاق والغثيان، والغثيان هو الشعور الذي نحس به أمام واقع يفتقر إلى الهدف من الوجود، مستغلق على نفسه، وابتداء من اللحظة التي أحس فيها روكنتان أن حياته لا هدف من ورائها ولا معنى وانه يسعى فيها إلى غير غاية أحس أنه أصبح موجودا كما يوجد الشيء أو الموضوع، وإذا كانت حياته لم يعد لها معنى فإن العالم لم يعد له معنى مثله هو:
"لقد تلاشت الكلمات وتلاشت معها دلالة الأشياء وطرق استعمالنا لها" (5) .
"وتقطعت الأوصال بين الأشياء والعقل، لم يعد لشيء مغزى؛ و "بدأت كل هذه الأشياء التي فقدت مسمياتها تترنح بلا مبرر: كل شيء وجوده مجاني: هذه الحديقة، هذه المدينة، بل أنا نفسي"(6).
يقول روكنتان: "لقد أدركت أني وضعت يدي على مفتاح الوجود؛ مفتاح شعوري بالغثيان؛ مفتاح حياتي الشخصية، والحق أن كل ما وصل إلى معرفتي بعد هذا يرجع إلى أنني أمام وجود عابث بالمطلق" (7).
وهو يحدد معنى العبث بقوله: "إنه ما لا نستطيع استخلاص وجوده من مقدمات".
كانت هذه نقطة الانطلاق في فكر سارتر، فالنقد الذي وجهه ضد العالم الموضوعي متصل اتصالا وثيقا بنقده للعالم البرجوازي: عالم الحقائق الموضوعية والقيم الثابتة التي تفتقد الهدف.
نظر سارتر في هذه الرواية إلى الخصائص المميزة للعالم الرأسمالي في مرحلة انهياره بكل ما وصل إليه من عبث وبشاعة في مبالغة تعسفية على أنها خصائص أزلية للكيان البشري، كما بالغ في نظرته للغثيان على أنه رد فعل ميتافيزيقي أمام الحياة بشكل عام بدلا من كونه مجرد رد فعل تاريخي في مواجهة عالم يتحلل، فبدا الحل لديه وكأنه هروب من عالم الواقع إلى عالم من الخيال والعمل الفني.
في محاضرته التي ألقاها عام 1946 تحت عنوان: "الوجودية فلسفة إنسانية" لخص سارتر هذه التجربة في صورتها العامة قائلا: "عندما نريد الحرية، نكتشف أنها تعتمد اعتمادا تاما على حرية الآخرين، ونكتشف أن حرية الآخرين تعتمد على حريتنا" ثم يستنتج النتيجة التالية: "إنني أجد نفسي مضطرا في الوقت نفسه الذي أريد فيه حرية الآخرين أن أريد حريتي" (8)، مما يبرز تناقضا صارخا في فكر سارتر من خلال رجعته الفجائية إلى الأخلاق التقليدية في جو لا يسمح بها مطلقا.
وفي كتابه (الوجود والعدم) أراد سارتر أن يتخطى الاختيار المحرج بين المادية والمثالية. فقد استمر في الرد الفينومينولوجي (الظواهري) حتى النهاية مستمرا في تنقية الوعي حتى أصبح لا شيء "فالوعي لا مضمون له"(9) ، فلم يعد الوعي لدى سارتر ذلك الصندوق الذي يحتوي على لوحة نفيسة للعالم والأشياء على شكل نماذج مصغرة وشرائح ضوئية.
وبعد أن طرد الأشياء من الوعي وحدد الوعي من حيث وجوده بأنه يمثل فراغا شاملا فقط باعتبار أن العالم كله يقع خارجه ظن سارتر أنه تفادى الانعزالية المثالية، فالفكرة التي تقول بأن الوجود لا يمكن إرجاعه إلى المعرفة دعوى رئيسية للفلسفة الوجودية.
كتب سارتر يقول: "لقد أحرز الفكر الحديث تقدما هائلا عندما أرجع الوجود إلى سلسلة من الظواهر التي تكشف عنه ... بمعنى أن الظاهرة تحيلنا إلى سلسلة طويلة من الظواهر لكنها لا تحيلنا إلى واقع يختفي وراءها" (10)
لكن ما هو الوجود الذي يتحدث عنه سارتر؟
يقول سارتر: إنه ليس الوجود الذي تقول به المادية لأنه لا ينتج الوعي، وهو ليس الوجود الذي تقول به المثالية لأنه ليس من نواتج الوعي.
وبين المادية والمثالية وجد سارتر مخرجا فيما أسماه ب "البرهان الوجودي" وهو يختلف اختلافا بينا عن البرهان في معناه عند اللاهوتيين وعند ديكارت، الذين بدؤوا من وجود الإنسان الذي لا يقبل الشك باعتباره وجودا مفكرا وشاكا وحاول أن يقّيم الوجود بالنسبة إلى الكائن اللا متناهي الحائز على الكمال المطلق أو الله.
أما عند سارتر فالأمر يتعلق أيضا بالبحث عن حقيقة سامية، لكنها بالنسبة له ليست الله، بل العالم!
ووجود هذا العالم (بدلا من الله) يصبح حقيقة لا قبل للشك فيها منذ اللحظة التي يصبح فيها الوعي، بعد أن فرغ من كل محتوى عاجزا عن الاستمرار في الوجود إلا باعتباره متجها إلى وجود غيره، فالوعي لا يمكن أن يوجد إلا بالقياس إلى وجود سامي: "الوعي وعي بشيء؛ وهذا يعني أن التعالي (التسامي) هو أحد العناصر المكونة للوعي" (11)، ذلك أن الوعي هو ذلك الحدس الذي يوحي بوجود شيء يختلف عنه لا يمكن للوعي بدونه أن يظهر إلى الوجود، فالوعي لا يوجد ويتحدد كيانه إلا بوجود ما يعوزه وهو الوجود عند سارتر، بينما هو الله واجب الوجود عند الفلاسفة الوضعيين.
الوجود عند سارتر ليس مخلوقا ولا خالقا إنه قائم بذاته، إنه يكون هو ما هو عليه.
إن تعريف الوجود على هذا النحو يستبعد الحركة والصيرورة من الوجود وسارتر يقول بهذا صراحة (12):
وثمة صفة أخرى واخيرة للوجود في ذاته، فلا نستطيع استخلاصه من شيء، ولا يمكننا التعبير عنه أو وصفه بصفة ما، يقول سارتر: "لا يمكن أن يشتق الوجود من شيء ممكن، ولا يمكن إرجاعه إلى الوجود الضروري(13)" . فالوجود يكون بلا مبرر لوجوده.
لكن هذا التصور للوجود تصور متناقض، فكيف يمكننا أن نتصور الوجود الذي لا يتكشف إلا عن طريق الوعي ولا يعتمد هو نفسه في وجوده على الوعي.
إن النموذج الذي قدمه سارتر للعلاقات الاجتماعية، هو نموذج مجتمع له ظروفه التاريخية المحددة؛ مجتمع تسيطر عليه الروح الفردية الشائعة في الحضارة البرجوازية بكل ما تنطوي عليه من فوضى شريعة الغاب، والمنافسة المحمومة بين الجميع، هذا المجتمع يجعل من الإنسان موضوعا أو شيئا من الأشياء نظرا لعلاقات التسلط والعبودية التي تسيطر عليه.
وبالخلاصة فإن الفكر الوجودي في صميمه فكر أناني يقوم على الذات البشرية ويعتبرها نقطة الانطلاق إلى الوعي، يوضح ذلك بردييف بقوله: "تصبح الفلسفة أقل وجودية إذا انتقلت من الذاتية إلى الموضوعية، لكنها تظل وجودية إذا عاش الفيلسوف في الذاتية واتجه منها إلى الوجود المتعالي"(14).
----------------------------------------------
(1). جان بول سارتر: الوجودية فلسفة إنسانية، ص 34 و35 و36.
(2). سورين كيركغارد (باللغة الدنماركية: Søren Kierkegaard)؛ هو فيلسوف دنماركي، ولاهوتي، وشاعر، وناقد اجتماعي، ومؤلف ديني، ويُعتبر على نطاق واسع أول فيلسوف وجودي ...
(3). كيركجورد: حاشية على فضلات فلسفية، ص268.
(4). كامي ألبير: أسطورة سيزيب، ص 60
(5). سارتر، الغثيان، ص24
(6). سارتر، الغثيان، ص22
(7). سارتر، الغثيان، ص 164
(8). سارتر، الوجود والعدم، ص 558.
(9) . سارتر، الوجود والعدم، ص 17.
(10) . سارتر، الوجود والعدم، ص 11.
(11). المرجع السابق، ص 28.
(12) . المرجع السابق، ص 33.
(13). المرجع السابق، ص 34.
(14). تقويم الجمعية الفرنسية للفلسفة عام 1
(2). سورين كيركغارد (باللغة الدنماركية: Søren Kierkegaard)؛ هو فيلسوف دنماركي، ولاهوتي، وشاعر، وناقد اجتماعي، ومؤلف ديني، ويُعتبر على نطاق واسع أول فيلسوف وجودي ...
(3). كيركجورد: حاشية على فضلات فلسفية، ص268.
(4). كامي ألبير: أسطورة سيزيب، ص 60
(5). سارتر، الغثيان، ص24
(6). سارتر، الغثيان، ص22
(7). سارتر، الغثيان، ص 164
(8). سارتر، الوجود والعدم، ص 558.
(9) . سارتر، الوجود والعدم، ص 17.
(10) . سارتر، الوجود والعدم، ص 11.
(11). المرجع السابق، ص 28.
(12) . المرجع السابق، ص 33.
(13). المرجع السابق، ص 34.
(14). تقويم الجمعية الفرنسية للفلسفة عام 1
من مواضيعي
0 The Miracle of the Sun
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: من الحداثة الشيطانية إلى الأصولية المدمِّرة
0 Inanimate matter possess a form of Consciousness
0 The God Particle or the Higgs Boson
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الوجودية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الظاهراتية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: من الحداثة الشيطانية إلى الأصولية المدمِّرة
0 Inanimate matter possess a form of Consciousness
0 The God Particle or the Higgs Boson
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الوجودية
0 أسس ومعالم الفكر المعاصر: الفلسفة الظاهراتية
التعديل الأخير تم بواسطة طارق زينة ; 11-12-2024 الساعة 08:43 AM