البُهلول
01-01-2020, 07:11 PM
.... كنت يومها في أسوأ أحوالي ، فقد ضيعت مصحفي في قطار سريع ... قررت أن أهجر فوضى المدينة وأن أجلس على حافة سد ( سيدي محمد بن علي ) الذي تفصله عن مدينة سيدي بلعباس بعض الكيلومترات فقط ... أسترق منه زرقة المياه بما أن الإرهاق الشديد منعني من مواصلة طريقي إلى إحدى الشواطئ القريبة من ولايتي ، كنت كلما شعرت بضيق طلبت شاطئ البحر المهجور شتاء كي ألاقح أثقالي معه ، فتخرج إلى النور قصيدة قد أعجز عن كتابتها وأنا في بيتي ... المهم أنني أمام زرقة المياه ، وهذا يكفيني كي ألطخ بياض الأوراق بما يثقل كاهلي هذه الأيام الجحوفة التي تمطرني غصصا...
... تأملت مليا تلك الطفلة البريئة على الضفة الأخرى تلاعب بهلولا دون تردد أو خوف ، ترتمي في أحضانه وقد عانقها كأنما به شوق لعناق الأطفال ..... هذه الطفلة البريئة لم تدرك بعد الفرق بين عاقل ومجنون ، ففي عرفنا يمكن للمجنون أن يفقأ لك عينا أو يكسر ذراعك إذا ما اقتربت منه ، قررت حينها أن ألف حول السد وأقترب من المشهد الجميل ، نكزت السيارة ورحت أقترب شيئا فشيئا ، حتى صار المشهد كأنما يتحول قدامي من خيال إلى حقيقة ....... وقد لبست الحقيقة ثوب حقيقة أخرى عندما بدا لي وجه المعتوه مألوفا ، تفاصيل ملامح هلكى وراء السواد الذي يكسو الوجه ، هذا الشحوب الماثل أمامي يخفي أمارات تحملها بصمات وقعت بالبند العريض على ذاكرتي ، لكنني إلى حد الساعة لم أتبين الأمر ، نزلت من سيارتي واقتربت أكثر من المشهد الأخاذ ، لعلي أظفر بتفاصيل أخرى تحيلني على المعقول ...
... أرسلت ابتسامة متكلفة إلى الرجل المستلقي أمام سيارته الفخمة على كرسي بلاستيكي ، كنت بهذه الابتسامة المرغمة أحاول أن أطمئن الرجل بأن ابنتك الملاك شدت انتباهي ، وكنت من لحظة إلى أخرى أقول مبتسما وعيناي محدقتان في البهلول : « ما شاء الله » ، محاولا بهذا التصرف أن أمتص امتعاض الرجل من العين ....
.... المعتوه يداعب الطفلة وأنا أقف متفرجا على المشهد الشاعري ، لم أنبس بنت شفه ، لكن اللغز المحير في هذه الملامح التي لم تنكرها ذاكرتي ... ربتُّ على داخلي قائلا : « كل المجانين يحملون الملامح نفسها » ، هذه الملامح التي قد لا يشترك فيها العاقلون ، كل ذلك يدور بخلدي وأنا أنظر إلى المشهد باهتمام كبير ومن لحظة إلى أخرى أقول مبتسما وعيناي محدقتان في البهلول : « ما شاء الله » ....
.... كم كانت تزاحمني الأسئلة وأنا أتأمل المشهد ... ألا تخاف على ابنتك أيها الأب المتهور ؟ ماذا لو تناولها المعتوه من إبطها ورماها في كبد السد ؟ هل يمكن أن تدركها إذا ما فعلها بسرعة المجانين ؟ تصور لو تناول السكينة التي تقشر بها التفاح الفاخر وغرزها في بطنك أو رقبتها ... بدا لي المجنون قادرا على فعل كل شيء ، إلا ما يفعله العقلاء ... كل ذلك يدور في خلدي وأنا من لحظة إلى أخرى أقول مبتسما وعيناي محدقتان في البهلول : « ما شاء الله » ...
... لم أشعر بنفسي إلا وأنا استدير بسرعة كي أقبض على يد البهلول عندما أمسك بيد الطفلة محاولا تقبيلها ... لست أدري لماذا فكرت في تلك اللحظة انه يمكن ان يلحق بها اذى ... توقف المشهد بغتة كي يحدق المجنون في ملامحي ... عيناه شديدتا السواد ... وقد انسدلت عليهما بعض خصلات الشعر الأملس الطويل ... نظراته ثاقبة ... نظر إلي بقوة وهو يقول : « تأخرت كثيرا صديقي ، لقد انتظرتك مدة 26 سنة بالضبط ... تأخرت كثيرا عندما كان الشوق إليك يسوقني إلى جنوني » ... لم أستفق من ذلك الدوار القاتل الذي أصابني بعدما تبينت ملامح المعتوه بدقة ... إنه صديقي الحميم عبد القادر الذي لم أره منذ سنة 1992 بعدما ارتحلت إلى أقصى الجنوب أطلب العمل .... عبد القادر الذي كان لي كظل ... صديق قريب فرقتنا الظروف ... عبد القادر طبيب مختص في أمراض الأطفال ... عرف سنوات عجاف بعد فراقنا ... ماتت والدته إثر مرض عضال ، ثم مات أحد إخوته بعد عام ، ثم أخوه بعد عام آخر ، ثم أخته ، ثم أخوه ، وبقي وحيدا يصارع الجنون ... إنه صديقي عبد القادر الذي عشت معه أحلى أيام الطفولة والشباب ...
.
ع.دين
من مواضيعي 0 البُهلول