بَدلات ومَواكِب
23-12-2015, 01:07 PM
مَظهر السُّلطة و صورتُها لدى الشَّعب، جزءٌ من السُّلطةِ ذاتها، بل إنَّ هذه الصُّورة قد تحمِل أبعادا خطيرةً يَقصِد إليها أصحاب السُّلطة، أو تَحدثُ عرضا فَتَصبُّ في مصلحتهم، ويكون من نتائج ذلك، التَّأسيسُ لعلاقةٍ ذات مواصفات خاصة بين الحاكم و المحكوم، وقد تَختفي في هذه العلاقة أكثَرُ الدَّلالات التي يُحيل إليها لفظ "مَسؤول" والذي يَكثُر استعمالُه عند العامَّة والخاصّة، لكنَّه في الغالب يكون مُحمَّلا بدلالات عكسية في نوعٍ من التَّطوُّر الدّلالي مناقض تماما لخطاب السُّلطة الذي لا يزال يَعدُّ المَسؤول خادما للشَّعب، بينما يشهد الواقع أنَّه مَخدوم.
إنَّ اهتمام المسؤول المُفرِط بِبدلتِه، وَحِرصُه على الظهور بأناقة أمام المواطن الذي لا يكاد في كثير من الأوقات يَجدُ ثمن هذه البدلة لِتوفير أساسيات أبنائه، يدُلُّنا على تفكيرٍ ذي مَعالِمَ لا تخفى آثارها، والمَظهر على أهمِّيته البالغة يَبقى مَظهرا، والأهمّ منه أن لا يَحمِل صاحبَه على التَّرفُّع على من يُفتَرض أنه خادمٌ لهم، إنَّ المُشكِلة تتأكَّد عندما تُصبِح المسؤوليةُ مظهرا أكثَرَ منها مَخبرا، وما أكثر هؤلاء الذين تَذهَلُهم ألقابهم ومظاهرهم عن الالتفات إلى تقصيرهم في مسؤولياتهم، وإنَّما أُشير بلفظ البَدلةِ هنا إلى معناه الحقيقي والمجازي، إذ كثيرا ما تتحوَّل أعمال بعض المسؤولين إلى مظاهر و أزياء فقط، لكن يبقى في نفس المواطن أثرٌ يُعمِّق جراحه، و لا أحسب هذا يفوت أصحاب البدلات و لكنهم بالتأكيد يتجاهلونه.
وأمّا مَواكب المَسؤولين، فأثرها أسوأ من ذلك، لما تتركُه أبواق السيارات من قَلق لدى المواطن حتى قرب المستشفيات، ولعرقَلتها حركة المرور لأوقاتٍ طويلةٍ في بعض الأحيان، ولا شكّ أنّها تترك أثرا نفسيا سيئا عند المواطن، لا سيما إذا تعطلت مصالحه، وإنَّ لهذا كُلِّه تأثيرا في زيادة الهُوَّة بين المسؤول و المواطن، الذي يشعُر بضآلة حجمه، وقِلَّة شأنه، وهو يرى الشارع المُهمَل طيلة السنة يُنظّف في ظرف قياسي، فقط ليكون صالحا لمرور مسؤول ما، بينما لا يُنظّف من أجل المواطن الذي يُطرَدُ منه طردا، وهذا مظهر يرتبط ارتباطا قويا برؤية المسؤول للسُّلطة أو فهمه لأبعادها، فهل البدلات والمواكب تُؤكد توجُّهنا الديمقراطي أو تجرحه وتُسيئ إليه؟
لعلَّ مِن عُيوبنا أنّنا لا نعتدَّ من الديمقراطية إلّا بشيء من جانبها السياسي، أما روح الديمقراطية و أبعادها الفكرية فتكاد تغيب عند كثير من المسؤولين، ولذلك لا ينتبهون إلى أنَّ سدَّ شارع قد يكون فيه حتفُ مريض يتعلق برقابهم يوم القيامة. وَردَ في " ملامح انقلاب إسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز" لعماد الدين خليل حِكايةً عن الخليفة الخامس ما يلي:" بعد أن ينتهي من خُطبتِه الأولى أَثر تسلُّمه الخلافة، يهم بِمُغادَرة المَسجِد لِمُباشرة مهام منصِبه التي لا تَنتهي، فإذا بموكِب الخُلفاء ينتظره عند الباب أشبه بالمهرجان..خيول و مراكب و سرادقات و فرسان.. وألوان وصخب..فيشيح عن هذا كُلِّه و يقول:" ائتوني بِبغلتي!! ويتقدم إليه أصحاب المراكب يسألونه العلوفة وأرزاق خدمة الخيول فيُجيبهم :" ابعثوا بها إلى أمصار الشام يبيعونها فيمن يريدون، واجعلوا أثمانها في مال الله، تكفيني بَغلتي هذه الشَّهباء!!".
فهل رأى عمر بن عبد العزيز أنَّ هذا الموكب مظهر من مظاهر الظلم وغياب العدالة الاجتماعية؟ إنّ شعوره بالقيمة الحقيقية لمفهوم العدل، جعله يُدرك من اليوم الأوَّل أنَّ مثل هذه المظاهر إنما تقتات من لحوم الرعية المغلوبة على أمرها، ونجد هذه الرّؤية أيضا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أنكروا عليه في المسجد أن يلبس ثوبَين وقد أعطى كل واحد من المسلمين ثوبا، فقال لهم :" إنما هو ثوب ولدي عبد الله وقد وَهبه لي". وحتى لا يقال إنَّ هؤلاء بشر من طينة مختلفة في عصر مختلف تماما، فإنّنا نشهد مثل هذه السلوكات من مسؤولين كبارا في العالم المتقدم اليوم، ومواقع التواصل الاجتماعي فيها كثير من أخبارهم، فهذا رئيس الوزراء الهولندي له موكب مِن دراجة هوائية يركبها، و يُرافقه رجل أمن على دراجة هوائية أيضا، وهذا الرئيس الروسي بوتين في محطة وقود يعبئ خزان سيارته بيده، وقد شهد كثيرون ممن يزورون أوربا بشكل دائم، إنّ مواكب كبار المسؤولين تحترم إشارات المرور، ولا تفكر في خرق قوانين المرور لأنها فوق القانون.
فلا شك إذن، أنّ المبالغة في هذه المظاهر إلى حد إيقاع الظلم والغُبن على المواطن، مَصدرُه نظرةٌ إلى مَفهوم الحُكم غير سليمةٍ في بعض جوانبها على الأقل، ولعل غياب العدالة الاجتماعية ممّا يجعل الحاجة الأمنية عُذرا للمبالغة في مواكب المسؤولين الكبار، أو حتى الصغار في كثير من الأحيان، ولذلك كان العُمَران يصرفان جُهدهما لتحقيق العدل أوّلا، فحفظنا عن ابن الخطاب أنه قيل له: " عدلت فأمنت فنمت"، وحفظنا عن ابن عبد العزيز قوله لبعض ولاته الذي طلب نفقة إضافية لترميم المدينة :" إذا قرأت كتابي هذا، فحصِّنها بالعَدل،و نق طرقها من الظلم، فإنَّه مرمَّتها، والسلام".
إنَّ تَعديل رؤيتنا لمفهوم المسؤولية، وفكّ الارتباط بينها وكثيرٍ من المَظاهر الفجَّة التي لا مُبرِّر قويا لها، قَمين بصَرف الجهد والمال إلى خدمة المواطن، وتأمين عيشه وحياته، وقمين أيضا بانتزاع ثقة المواطن واحترامه الصادق، وإنما تنتزع البدلات احتراما ظاهريا فقط، وإنَّ الرعب الذي تبثه بعض المواكب في قلوب المواطنين، ليدلُّ على رُؤيةٍ غير سليمة للمواطن البسيط، ويَجدر بأصحاب البدلات أن يحذروا من توسيع المسافة بين المواطن و دولته.
عبد العزيز حامدي