المــــــــــتسول
24-05-2017, 05:10 PM
المتســـــــــــــــــــول


“صدقة يا محسنين. صدقة يا مؤمنين " .
مد ذراعه المتخشبة من أثر لفح الشمس و لسع البرد...
جعل يلهج بتلك الكلمات المتناسخة كأنما يمارس طقسا مقدسا من طقوس العبادة.
ذراعه لا زالت ممدودة في الهواء في إصرار لا يعرف الكلل أو الملل...
توشك ذراعه العنيدة تلك أن تلامس ذقون المارة و ثيابهم عن غير قصد حينا و عن قصد أحيانا..
لسان صاحبنا لا يكف عن المسألة و الطلب و الإلحاح فيه ..
تتقاطر من فيه كل المفردات الناعمة و المتوددة التي تسعى للظفر بقلوب هؤلاء البشر...
وحدها تلك المفردات كفيلة بأن تبث الرقة والرأفة لحال هذا البائس الملتصق أبدا بالجدار. ثيابه الرثة إن صح أن تدعى ثيابا تثير الشفقة حقا...
عباءة أحالتها الرقع إلى تضاريس و ملامح بائسة تدعو إلى الضجر.
و نعل تفشت فيه الثقوب كما تتكالب الكواسر على فريستها.
أما العمامة فهي أقرب إلى القمامة الكريهة منها إلى غطاء يلف فيه رأسه.
ذلك الرأس الأشيب الذي يعد وليمة دائمة لكل ألوان القمل و الحشرات ...
" حسنة يا محسنييييييييييييييين" جهر المتسول بصوت أجش مجتهدا أن يستثير جيوب المارة عسى أن يقذفوا في منديله ما جادت به أنفسهم...
كان عليه أن يغتنم هذه الدقائق. فالليلة ليلة المولد النبوي الشريف و جميع الموظفين سوف يكونون أسخياء على غير العادة.
كان يقف على الرصيف المهتريء الذي أنهكته الرطوبة و أجهده الغبار و أرهقته أقدام البشر.
هواء الصباح كان يصنع ملامحه رائحة العرق و أدخنة العربات الغاضبة و روث البهائم و عطر أنثوي محتشم.
(سررررررررررن) عبثت أصابعي في كمشة من النقود الراقدة في جوف جيبي...عزمت أن أدخل البهجة على وجه الرجل البائس.
نقدت ذلك المتسول البائس بعضا منها..
كنت أطمع أن أشيع في قلبه شيئا من الفرح في هذه الصبيحة التي تئن تحت كتل جبارة من الغيوم القاتمة...
تلقفت أصابع صاحبنا تلك النقود و أفرج من بين أسنانه البيضاء عن بسمة راضية.
كنت أحسد في قرارة نفسي هذا المتسول...لقد منحه القدر صفين من الأسنان الناصعة البياض كما اللؤلؤ .
كنت لا أستسيغ ذلك المشهد المترع بالتناقض و أحدث نفسي قائلا :
– كيف يجتمع في جسد واحد تلك الأسنان الآسرة و هذا القدر الكبير من القذارة-
و سرعان ما أمضي إلى مكتبي المتواري هناك وسط كوكبة من المكاتب الفقيرة والتي يضج بها مقر مصلحة " شؤون المتقاعدين "...
و حين تأذن الشمس بالمغيب أقفل عائدا إلى بيتي مكدودا ليصدمني مجددا صوت المتسول اللحوح و هو يصدح في الآفاق و لا يحفل بالتعب أو اليأس:
"صدقة يا كرااااااااااااااااااام " ..تكاد تلك الأحرف أن تخترق طبلة أذني المتعبة...
لقد كان المتسول في قمة النشاط و العزم. منتصبا في إصرار وسط ذلك الرصيف المتخم بالمارة.
مضى شهر و شهر...ألمت بالبلاد نكسة مالية أجبرت السلطات على أن تستبدل الأوراق النقدية القديمة بأخرى جديدة .
لقد أمهلت المواطنين شهرا واحدا فقط لكي يستبدلوا ما لديهم من الأوراق النقدية القديمة...
و تقاطر الناس فرادى و زرافات على المصارف و البنوك للظفر بتلك الأوراق النقدية الجديدة و التخلص من الأوراق النقدية القديمة...
بعضهم كان يحمل كيسا و البعض الآخر أكياسا من الأوراق. و أما الأغلبية الساحقة مثلي فكان بحوزتهم حفنة ضئيلة من الأوراق...
حملت في ذلك الصباح كل مالي و يممت شطر المصرف كي أظفر بالأوراق النقديةالجديدة....
لكن مــــــــــــــــــــاذا؟ لقد أفرجت شفتاي عن" آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه "طويلة أطول من نخيل العراق....
صرخت دون أن أشعر و جف الريق في حلقي من هول ما رأيت.
لقد صدمني المشهد و لم أصدق...فركت عيني طويلا كي أستبين اللقطة بجلاء... المتسول هناك في أقصى المصرف و في كامل أناقته.
بدلة ايطالية فاخرة تزين جسده المكتنز .و سيجار لا يدخنه إلا المترفون يضطرب بين أصابعه ...
فوق أنفه الكبير تستقر نظارة شمسية قاتمة السواد. ربما كان يريد الاختفاء من شيء ما..
منظره يوحي بأنه مقاول شهير في المدينة.
كان المتسول يفتح في أناة حافظة نقود ضخمة جدا. كانت مترعة بشتى أنواع الأوراق النقدية.
جاء مثل الآخرين ليستبدلها بأوراق جديدة...م