تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 02:11 AM
الطيب صالح: التعاون بين جامعتي بيرقن والخرطوم
الطيب صالح
17/05/2007

* في خضم الصراعات والمشاكل والحروب التي تستعر في العالم، يجد الإنسان بعض الظواهر التي تبعث على الأمل والتفاؤل، وتقوي الإحساس بأن الإنسان، بقدر ما في طبيعته من نزوع نحو الخراب والدمار، فهو أيضاً قادر على البناء وعمل الخير.
من هذه الظواهر التي لفتت نظري أخيراً، التعاون الذي نما بين جامعة (بيرقن) في النرويج والجامعات السودانية، وبخاصة جامعة الخرطوم. لقد زرت جامعة بيرقن أخيراً، بصحبة صديقي رجل الأعمال السوداني المثقف محمود صالح عثمان صالح. إنني مهتم ببلاد اسكندنافيا منذ زمن، وقد زرت الدنمارك والسويد، وزرت أوسلو، عاصمة النرويج مرتين من قبل. وفي كل مرة أزور هذه البلاد في أقصى الشمال الأوروبي، أزداد إعجابا بإنجازاتهم الكبيرة في خلق مجتمعات متقدمة متحضرة، لعلها أكثر تقدما من أي مجتمعات أخرى في العالم.
تعجبني فلسفتهم الواقعية في الحياة، وقدرتهم على إقامة مجتمعات متوازنة تجمع بين التكنولوجيا الحديثة المتطورة، والبساطة وعدم الإسراف في رفاهة العيش. ويخيل للإنسان أحياناً، أنهم أكثر من أي شعوب أخرى في العالم، توصلوا إلى حلولٍ لمعضلات العدالة والحرية، وأقاموا مجتمعات يسود فيها العدل، دون التضحية بحرية الناس وحقهم في اختيار أساليب الحياة التي تناسبهم.
وقد كان تأثير دول اسكندنافيا في ميدان العلاقات الدولية في الفترة بعد الحرب العالمية الثانية، تأثيراً خيرا. لقد أعطت دول اسكندنافيا المجتمع الدولي، سكرتيرين عامين للأمم المتحدة، وكان لهما، خاصة مستر داج همر شولد من السويد، تأثير عظيم في إرساء قواعد السلوك بين الدول، وفض النزاعات دون اللجوء إلى استعمال العنف. وعلى وجه العموم، فإن دول اسكندنافيا، كانت دائما سباقة إلى المساهمة الإيجابية في حل الصراعات التي تنشأ بين الدول، والمشاركة بهمة وعزم في برامج التنمية في الدول الفقيرة، وفتح أبواب مؤسساتها وجامعاتها، لتدفق الخبرة منها إلى الدول الفقيرة.
إنني ذكرت أنني زرت مدينة (بيرقن) وجامعتها هذه المرة بصحبة صديق هو نفسه من المنارات المضيئة في عمل الخير. ذلكم هو رجل الأعمال المثقف محمود صالح عثمان صالح.
إنه من الناس النادرين، الذين يخصصون بعض ما أنعم الله عليهم من خير، لنشر الثقافة وفتح الأبواب للتفاهم ومحاربة قوى الجهل والتخلف، وتعميق قيم الخير والإخاء بين الناس.
كل هذا الجهد الإنساني والثقافي العظيم، يتم عن طريق مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، الذي أنشأه الأستاذ محمود وعائلته، تخليداً لذكرى خالهم المرحوم عبد الكريم ميرغني.
وقد صار هذا المركز في وقت قصير، مصدر أشعاع ثقافي عظيم الأثر. إنه ينشر الكتب ويعقد الندوات، ويساهم مساهمة فعالة في عملية التبادل الثقافي بين السودان وبين مختلف دول العالم.
انتبه الأستاذ محمود مبكرا إلى الأهمية المتزايدة لجامعة (بيرقن)، وإلى المضامين المهمة وراء وجود علاقة وثيقة بين جامعة في أقصى الشمال الأوروبي، وبين جامعة الخرطوم في قلب إفريقيا. فبدأ من جانبه في توثيق هذه العلاقة، والمساهمة في تقوية هذا الجسر الإنساني العظيم بين السودان والنرويج. إنه جسر لو قدر له أن يبقى ويشتد إن شاء الله، فسوف يكون له بلا شك تأثير كبير.
هذا وقد سارع الأستاذ محمود فأهدى قسم الدراسات الإسلامية في جامعة (بيرقن) مجموعة من الكتب النادرة عن السودان نحو ستة آلاف مجلد، وهي كتب لا تقدر بثمن. فرحت بها جامعة (بيرقن) فرحاً عظيما، ووضعتها في مكان ملائم في الجامعة، لتصبح في متناول الدارسين والباحثين الذين يفدون إلى الجامعة من شتى بلاد العالم.
وجدير بالذكر أن جامعة (بيرقن)، رغم حداثة سنها، فقد أصبحت الآن ربما أهم مركز للدراسات الإسلامية في العالم، وتفوقت على جامعات أعرق منها مثل جامعة أكسفورد وجامعة لندن وجامعة (درم).
والواقع، أنه توجد وجوه شبه بين جامعة الخرطوم وجامعة (بيرقن).
جامعة الخرطوم مثل جامعة (بيرقن)، جامعة صغيرة الحجم نسبيا، وحديثة العهد نسبيا.
افتتحها الحكم البريطاني في بدايات القرن العشرين تخليداً لذكرى الجنرال غوردون الذي كان حاكما للسودان، وقتل في الثورة المهدية.
بدأت مدرسة ابتدائية، ثم مدرسة ثانوية، ثم صارت تعرف بـ (المدارس العليا)، بعد ذلك صارت كلية جامعية تابعة لجامعة لندن، وأخيرا صارت جامعة قائمة بذاتها.
استغرق نموها، إلى أن أصبحت جامعة مستقلة، أكثر من نصف قرن. ولكنها حين اكتملت، أصبحت جامعة متينة الأسس، يشار إليها في الحقل الأكاديمي، بأنها واحدة من أهم الجامعات في إفريقيا والشرق الأوسط.
نشأت مثل جامعة (بيرقن)، لتساهم في حل مشاكل محددة في بلد نام مثل السودان، فاهتمت بالبحوث الزراعية، خاصة البحوث المتعلقة بالقطن وهو من المحاصيل الأساسية التي يصدرها السودان. ويعتبر مركز الأبحاث الزراعية في (ود مدني) في الجزيرة، من مراكز البحوث المهمة في إفريقيا.
كذلك اهتمت جامعة الخرطوم بالبيطرة، نظراً للثروة الحيوانية الضخمة التي يتمتع بها السودان.
ورغم هذه الاتجاهات العملية، فإن جامعة الخرطوم بحكم كونها الجامعة الوحيدة في السودان إلى وقت قريب كانت تختار أنبغ الطلبة من سائر القطر، وتعطيهم إلى جانب التعليم العملي، تعليما نظرياً ذا مستوى عال جداً.
(للحديث بقية)
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 02:14 AM
الطيب صالح: الانتماء على الشدة والبؤس
الطيب صالح
08/09/2007

*دخل قاعة الطعام رجل وامرأة .
الرجل ( أبيض) لكنني قدرت أنه ليس أوروبياً ، فقد كان بياضه مثل الثوب المستعار .
المرأة سمراء ، واضحة السمرة ، كأنها من اليمن ، أو حتى من نـواحـي ( الجزيرة) في السودان .
جلسا في الركن جنب السيدة الأمريكية وبادراها بالتحية ، فتحولت إليهما فوراً . باعتني واشترتهما.
ابتسمت بيني وبين نفسي وحمدت الله ، وقلت هذا من بركات ( الأستاذ) . لابد أن صوته العربي المحض، قد وصل إليها بطـريقة ما ، كما ينتقل تيار الكهرباء ، فأزعجها وصرفها عني.
سألتهما من أين هما ، فأجابها الرجل بالفرنسية أنهما من لبنان.
انتبهت كما جرى لأخينا ذلك بالخوف مني .
انطلقوا يتحدثون الأمريكية ، كالذي يطرب لصوته بلا مبرر ، والرجل يتحدث فرنسية حسنة ، تملؤه نشوة ، كما تفعل اللغة الفرنسية بمن يحسنونها . والمرأة السمراء زوجته ، صامتة ، تستمع وتبتسم .
فجـأة قالت الأمريكية :
" لكـن اللبنانيين عرب ، لغتهم العربية ، أليس كذلك؟".
أجابها الرجل بتهور أدهشني ، ربما بتأثير اللغة الفرنسية التي لابد أنها أدارت رأسه :
" ليس كل اللبنانيين يتحدثون العربية . نحن نعتبـر لغتنا الأولي هي الفرنسية ، نتخاطب بها في بيتنا، حتى مع أطفالنا . نحن لسنا عرباً إننا نكره العرب . العرب خربوا بلادنا " .
نظرت إًلي المرأة الأمريكية نظرة مباغتة ، ووسوست لهما .
حدجني الرجل حال من أخذته العزة بالإثم ، وبدا الحرج والارتباك على زوجته . وكنت أكثر منها حرجاً، كأنني رأيت شيئاً لا تجوز لي رؤيته .
بعد ذلك راحوا يتهامسون ، والمراة الأمريكية تلتفت إلًي من وقت الي آخر ، وقد تأكد لي صدق حدسي أول الأمر . أعجبها الدور الغامض الذي هيأته لها الظروف كأنها رسول من رسل الـ (باكس أمريكانا) وكأنهم في معسكر ، وأنا في معسكر مضاد .
قلت يا سبحان الله . هل جئت إلى باريس لأحامي عن بيضة العروبة؟ وهل أنا إلا عربي من الأطراف ؟ وقد لا يكون بلغهم بعد أنني مثلهم من (غزية) بمنعرج اللوى. وهل العروبة اليوم إلا مثل (بنك ) ظن الناس أنه يوشك أن يفلس ، فأخذوا يسحبون أرصدتهم منه ؟ وأين يذهبون ؟ كل دولة مشغولة بهمومها ، ولا عاصم لهم .
قررت أن أريحهم ، فقلت للرجل باللغة العربية ، وأنا اكظم غيظاً ملأني به شعر ( الأستاذ) .
" انتو من وين في لبنان ؟"
" تعرف لبنان مليح "
" نعم "
" من الشوف"
قلت له ، وأنا أفكر في العرب النصارى الذين حاربوا مع المسلمين في معركة اليرموك :
" أهل الشوف من أعرب العرب "
" لا يا عمي . نحن ما بدنا في العرب . العرب خربوا بيوتنا . وما لقينا منهم غير المصائب ..."
صحيح أن العرب يخربون بيوتهم بأيديهم أحياناً . ولابد أن المرارة التي انتابت هذا الرجل الفاضل ، لها مبرراتها :
لابد أن الحرب أصابته برشاشها . لعلهم هدموا بيته، قتلوا له عزيزاً أو أكثر . ومدخراته في البنك ضاعت بسبب انهيار الليرة . ولعله نجا بأهله فوجد ملاذاً وأمناً في فرنسا . فمن يلومه إذا أحب فرنسا ؟
من حسن الحظ أنني عرفت لبنان ، وأحببته وأعلم أنه حقاً معقل من معاقل العروبة - على علاتها –
ولو كانت العروبة ثوباً تلبسه وتخلعه أنى شئت ، لجاز لك . ولكنها قدر وانتماء . وما أروع الانتماء على الشدة والبؤس .
أنت عربي حتى لو هدموا دارك ، وقتلوا أبناءك وأضاعوا مدخرات عمرك . حتى إذا لم يبلغهم بعد أنك منهم ، وقد شهدت الوغى معهم بمنعرج اللوى
وما أحسن ما قال أبو الطيب :
أنا في أمة تداركها الله غريب .....
غريب ... نعم
ولكنه ( في الأمة ) وليس بمعزل عنها .
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 02:16 AM
الطيب صالح: عطف في غير محله
الطيب صالح
15/09/2007
* طغى حب المعرفة لدي على الكره، واستيقظ عندي الحس الروائي فاصبحت أنظر إلى "مستر سين" كأنه شخص في رواية. أراقبه يصول ويجول، ويحر ويبرد – كان حقيقة يرغي ويزبد – وأتعجب، وأقول لنفسي:
"ما الذي جعل هذا الرجل هكذا؟ ما الذي حدث له في حياته فجعله بهذه التعاسة ؟"
ويا للغرابة، أصبحت أحس تجاهه إحساساً لا يبعد عن الرثاء.
مرة طلب منه المدير العام، دون سابق إنذار، أن يحضر فوراً ليعرض قضية في المجلس التنفيذي. هكذا كان أحمد مختار أمبو، يعامل مساعديه الأوروبيين والأمريكان خاصة، بشدة تقرب من الشراسة، من قبيل الدفاع عن النفس، فقد لاقى منهم ما لاقى.
طلب مني "مستر سين" أن أصحبه ،فقد كانت القضية تتصل بعملي.
دخلت معه المصعد، وكان بادي الاضطراب، محمر الوجه صدره يعلو ويهبط، يحمل حقيبتين منتفختين بالأوراق، واحدة باليمين وواحدة باليسار.
وكان علينا أن نسير على الأقدام مسافة من حيث نحن إلى مكان الاجتماع في المبنى الرئيس.
عطفت لحاله، وقلت له:
"تسمح أحمل عنك إحدى الحقيبتين؟"
نظر إلي متعجباً، وتردد قليلاً ثم أعطاني الحقيبة.
مشى يهرول، وأنا أسارع الخطى لألحق به، وأسمع صوت شهيقه وزفيره. كان قد جاوز الستين. دخلنا مبنى "فونتنوا" وعبرنا فناءه الواسع وقاعاته المتعددة ودهاليزه الطويلة، حتى وصلنا إلى قاعة المجلس التنفيذي.
أعشت الأضواء عيناي وهلة، ثم جولت نظري في الحاضرين.
رأيت وجوهاً أعرفها. منهم الرجل الكريم عبد العزيز حسين عضو المجلس عن دولة الكويت. ابتسمت له وابتسم لي بطريقته الودودة دائماً.
كان المدير العام، أحمد مختار أمبو متصدراً المائدة المستديرة، متحفزاً مستأسداً، ممسكاً بمجامع المكان.
نظر إلينا ونحن ندخل. كنت أقابله لماماً في المناسبات، ولا يكاد يعرفني.فيما بعد سافرنا معاً وحججنا معاً وأعجبت به وصرنا صديقين، وأصبحت أدعو صراحة لإعادة انتخابه، وهو
أمر لم يحببني إلى قلوب المعسكر المناوئ وهو معسكر الغالبين.
رشق المدير العام "مستر سين" بنظرة تخلو من أي ود، ولم يمهله حتى يستقر في مقعده، بل قال له فوراً "هيا".
أحسست بعطف شديد نحو صاحبي.
هذا موقف ليس سهلاً. المجلس التنفيذي هو أعلى سلطة في المنظمة. يصنع القرارات ويرسم السياسات، يأتمر المدير العام والسكرتارية بأمره. ماذا يفعل " مستر سين" المسكين، وقد جاء يهرول حتى انقطع نفسه.
تعلقت به الأبصار وساد الصمت. وضع الحقائب على الأرض بجواره.لم يفتحها ولم يأخذ منها أي ورقة يستعين بها. أخذ يتحدث ارتجالاً.
كان صوته هادئا محايداً.تحدث نحو ربع ساعة، فعرض الموضوع عرضاً بيناً مقنعاً. وحين فرغ من حديثه، أقر المجلس التوصية المقدمة دون أي اعتراض.
عدنا أدراجنا نمشي على مهل، وإن كان "مستر سين" حتى في الظروف العادية، يمشي على عجل، كأنه يطلب شيئاً أو يهرب من شيء، نظرت إليه برهة, ربعة القامة أقرب إلى القصر متجمعاً على ذاته آخذاً نفسه بالشدة. يرى الأمر جللاً ولا يميز أنه ما من أمر يستحق كل هذا العناء يخاف الشيخوخة، وأوضح ذلك من مبالغته بالعناية بثيابه ومظهره. يرعبه الموت، لابد حين يجيئه الموت فلن يكون مستعداً له. استبقاه "أمبو" بعد سن الستين لحاجة في نفس يعقوب.
عرضت أن أحمل عنه إحدى الحقيبتين، كما فعلت من قبل. رفض وألححت فرفض بإصرار أدهشني.
سبحان الله. كأنه لا يأمنني على أوراقه. فكيف استأمنني عليها ونحن رائحان؟
قلت لعل تلك التجربة الإنسانية الفريدة التي ربطت بيننا وهله- رجلان يهرولان كل منهما يحمل حقيبة مملوءة بأوراق لا قيمة لها في موازين الحياة والموت – قلت لعلها تمتد، فأنظر إلى "مستر سين" نظرة جديدة.
أبداً. عاد صاحبي إلى سيرته الأولى. أول ما دخلنا مبني "ميوليس" حيث هو مساعد للمدير العام، اهتز وربا، وسرى في عينيه البريق، وفي وجهه الدماء.
لم يتركني استمرئ إحساس العطف الذي أحسست به تجاهه، وهو يركض كأنه تلميذ تأخر عن المدرسة.
متى أتعلم ألا أشفق على أناس هم في واقع الأمر أقدر مني وأكثر حيلة على تقلبات العيش؟
وكنت أريد أن أساله: لماذا حمل كل تلك الأوراق وهو لم يستفد منها شيئاً؟
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 03:42 AM
الطيب صالح: رمضانية
الطيب صالح
27/09/2007
> لا أظن أحداً ينسى الأماكن التي صام فيها ، وهل كان الفصل صيفاً أم شتاء . وبماذا أفطر ومع من أفطر.
وهو قد ينسى بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة ، كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة .
الأيام العادية تمضي تباعاً طوال العام .لا يكاد الإنسان يحس بمرورها . كأن الزمن نهر سرمدي.
ولكن يوم الصائم – وهذه عندي من حكم الصوم- يتفلت قطرة قطرة الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها .
الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنه (كم) يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس .
يختلط جوعه وظمأه - خاصة إذا كان الوقت صيفاً حاراً - مع كل دقيقة تمر. يكونان عجينة من المكابدة والسعادة .
فإذا انقضى اليوم ، يحس الصائم أنه قد قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته . وإذا انقضى الشهر بطوله ، يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة، ولكنه عسير المراس .
إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر ، أول عهدي بالصيام .
كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء : الجدود والآباء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة.
لم يكن الدهر قد بدأ بعد يقضم من جسمها كما يقضم الفأر من كسرة الخبز.
كـانت دورنا تقوم على هيئة مربع ، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية . كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة .
نتولى نحن الصبية أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها ، وقبيل المغيب نجئ بسفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة – غير بعيد منا- ( الله أكبر) معلناً نهاية اليوم .
وكنت في تلك الأيام قبل - أن يقسو القلب ويتبلد الشعور - أحس أن ذلك النداء موجه لي وحدي ، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا ، إنني انتصرت على نفسي.
أذكر جيداً طعم التمر الرطب ، وهو أول ما نفطر به ، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب . وكانت لنا نخلات نميزها ونعني بها ، لها ثمر شديد الحلاوة ، تخرجه باكراً .
كانوا لا يبيعون ثمارها. ولكنهم يدخرونه لمثل تلك المواسم . وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك .
وأذكر مذاق الماء الذي يصفى ويبرد في الأزيار أو في القرب ، خاصة ماء القرب ، الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ .
وشراب ( الابري) وهو يصنع من خبز يكون رقيقاً جداً : أرق من الورق . تضاف إليه توابل ، وينقع في الماء ويحلى بالسكر .
ومذاق ( الحلو مر ) وهو أيضاً من عجين مخلوط بتوابل خاصة . وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة .
هذان الشرابان لا يوجدان إلا في السـودان ، وهما مرتبطان برمضان . ولهما رائحة عبقة فواحة.
تلك وروائح أخرى ، كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان ، كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان .
كان طعم الزمان في تلك الأيام حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل .
لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا . لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة ، كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه ، وغالباً ما ينتظر السحور من دون عشاء .
نصلي ونفطر على مهل ،ونقوم نحن الصبية فنحضر الشاي والقهوة ( الجبنة)
وكان يسمح لنا بشرب القهوة فقط في شهر رمضان ، فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم .
ولم يكن ذلك نوعاً من الحظر ، ولكن من قبيل الاقتصاد في النفقة ، فقد كان البن أغلى من الشاي.
يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم.ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم ، ويا له من حديث ، كان رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة . كنت أستمع إليهم وكأني أشرب ماء القرب البارد وآكل التمر الرطب.
لا أعلم كم كان (معدل الدخل) عندنا تلك الأيام . ولم أكن أعلم شيئاً عن الحالة الاقتصادية في القطر .
ولم يكن يهمني من الذي يحكم البلد . كنت أعلم أن الإنجليز موجودون في الخرطوم ، وأحياناً يمر بنا واحد منهم ، كما يمر طائر غريب في السماء.
لكننا كنا بمعزل عن كل ذلك ،نحس بالعزة والمنعة والطمأنينة والثراء.
كنـت أعلم أن ذلك الإحساس حق ، من الطريقة التي يمشي بها آبائي وأجدادي .
لا يمشون مختالين ، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس ، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم.
ولعـل الإنجليز خرجوا آخر الأمر لأنهم ضاقـوا بإحساس الحرية ذاك لدى السودانيين ، كأنهم لم يفهموا ، أو رفضوا أن يفهموا أنهم أمة مهزومة مستعمرة.
الإحساس بالمذلة والهوان حدث لهم بعد ذلك.
على أيدي بعض أبنائهم الذين انتزعوا الحكم من الذين ورثوه عن الإنجليز ، ومنهم من كان صبياً مثلي في ذلك الزمان الأغـر ، وجلس على بقعة رمل كما جلست ، مع آبائه وأجداده في إفطار شهر رمضان.
كنا حقاً سواسية كأسـنان المشط . ولا بد أنه ذاق المذاقات نفسها وشم الروائح نفسها ، واستمع مثلي إلى أحاديث آبائه وأجداده ، حديثاً مليئاً بالمحبة والحكمة والطمأنينة .
فماذا أصابنا بعد ذلك ، أم ماذا أصاب الزمان؟ >
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 03:44 AM
الطيب صالح: مملكة آل فريزر
الطيب صالح
25/10/2007

* متجر (هارودز) في حي (نايسبردج) في لندن كان في الزمان الغابر قلعة من قلاع الامبراطورية البريطانية. لم أشتر منه شيئاً أبداً، فذلك فوق طاقتي ، ولكنني أزوره أحياناً للفرجة ، كما أزور المتحف البريطاني ، ومتحف الـ(تيت قلري).
والحي كله ، الممتد حتى (سلون سكوير) و(ساوث كنسجتن) إلى غابة (تشيلسي) على النهر ، كان مسرحاً للصبابات ، أيام (كان الشباب مطية الجهل) بصحبة صلاح أحمد محمد صالح وعبد الرحيم الرفاعي .
كان يملكه – عنيت المحل التجاري – آل “فريزر” الارستقراط . وآخر من آل إليه منهم ، رجل تعيس الحظ ، بحسبان تلك الطبقة .
كان متزوجاً من الكاتبة المعروفة التي ما تزال تحمل اسمه، (ليدي انتونيا فريزر) وهي سليلة أسرة كاثوليكية من النبلاء ، فأبوها (لورد لنقفورد) من لوردات حزب العمال ومن العاملين في ميدان البر ومساعدة الضعفاء .
وأمها كاتبة معروفة أيضاً ، ومن مؤلفاتها كتاب بديع عن حياة ذلك اللورد النبيل الذي أحب مصر وناصر الثورة العرابية (ولفرد بلنت) .
طلقته بعد أن أنجبت منه خمسة أو ستة أطفال ، وتزوجت الكاتب اليهودي المسرحي الشهير هارولد بنتر . وهو والحق يقال ، كاتب كبير ، يقارن في أهميته في المسرح ب(سامويل بكت) إلى جانب أنه إنسان مهذب بعيد عن التعصب .
كانت تعد من فاتنات عصرها ، وكانت – والشيء يذكر بالشيء- زميلة صديقنا الرسام السوداني الموهوب حسين مأمون حسين شريف في جامعة (كيمبردج).
وحسين هذا ، كان من نجوم المجتمع الانجليـزي في تلك الأيام . كـان وسيماً ، طلق اللسان جداً باللغة الانجليزية ، ذكياً حلو الحديث والدعابة ، إضافة إلى أنه من “ آل المهدي “ وكانوا يعاملونه على أنه ( أمير ) علماً أننا في السودان ، ليس عندنا طبقات ولا أمراء ، كلنـا نلبس العمائم والجلاليب ، ونأكل الكسـرة بـ” ملاح الويكة” .
كانوا يجدون فيه ذلك الجانب الـسحري والكلمة تعني أصلاً “ (الشيء أو الشخص القادم من بلاد الشرق) . فتأمل !
وكـان يلبس أزياء طريفـة تؤكـد ذلك الانطبـاع ، وهي أزيـاء صـارت ( موضات) فيما بعد، ربما بتأثير منه ، فقد كان وثيق الصلة بتلك النخبة من الرجال والنساء المؤثرة في الذوق العام.
كان رساماً موهوباً جداً – رحمه الله- عرض أعماله في لندن وغيرها ، واكتسب شهرة فنية كبيرة ، لكنه كان موزع الاهتمام ، فقد جذبته السينما بعد ذلك ، وأنتج أفلاماً قد تروق النخبة من عشاق الفن السينمائي ، إلا أنها لم تجد ذيوعاً.
أراد أن يعرفني بتلك السيدة ، فلم أكترث لذلك ، فقد كنت في أيام ( جاهليتي) – كما يقول الشيخ ابن عربي رحمه الله – لا أدخل بحراً لا أقوى على السباحة فيه.
وتلك الطبقة ناعمة الملمس ، خشنة المخبر ، رغم أن منها أناساً فضلاء . ونساؤها خاصة عظيمات الجاذبية ، ولكن البعد عنهن غنيمة في كل الأحوال .
وأنا أصلاً هواي مع غيلان ذي الرمة في :
عطابيل سمر من ربيعة عامر
عذاب الثنايا مسرفات الحقائب
عدا أن غيلان العبقري لم يقل ( عطابيل سمر) بل قال ( عطابيل بيض) وإنما أنا هكذا قلت ، إكراماً لأم عمرو وجاراتها ! وعدا أن الأمر لم يتم ، لا لغيلان ولا لي، كما كان أحرى به أن يتم .
ذلك – ثم وقعت الطامة على (آل فريزر) أن قلعتهم الحصينة استسلمت لفاتح عربي مصري مسلم هو محمد الفايد .
كان وقع ذلك لا شك مراً عليهم وعلى طبقتهم التي تمثل مؤسسة السلطة وعصب الامبراطورية من قبل الملكة فكتوريا.
هؤلاء قوم ، دخول نواديهم المنغلقة في “ مي فير” والـ”مال” والـ”سان جيمس” مستحيل على الأجنبي ، فما بالك بمصاهرتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم ؟
لذلك لم تكف صحفهم من يومها عن السخرية صراحة وتلميحاً بهذا الدخيل الذي يصفونه ب(مستجد النعمة ) وذلك من أفظع الصفات في معجم تلك الطبقة.
ثم ، ويا للمصيبة ، أحبت أميرتهم وأم ملكهم المحتمل ، ابن ذلك ( الغازي) الأجنبي . وحتى في قمة الحزن في تلك المأساة ، كتبت بعض الصحف ، ومنها صحيفة الـ( قارديان) الرصينة عادة ، مقالات لئيمة ، منها مقالة تصف عماد الفايد رحمه الله بأنه “ جقلو “ والكلمة تعني الشاب الذي يبيع جسده للنساء الطاعنات في السن. فهل كان عماد الفايد في حاجة إلى المال ؟ وهل كانت “ ديانا” الأميرة الشابة الجميلة في حاجة إلى العشق؟
لا يخطر على بالك ، لأجل ذلك ، أنهم قتلوهما.
تأكد أن ذلك لا يمكن أن يكون قد حدث . تلك الطبقة ، رغم ما وصفت من أمرها ، يحترمون القانون ، لأنهم هم الذين شرعوا القوانين . ويعرفون الأصول والحدود التي لا يصح تجاوزها .
والقتل ليس من أساليبهم.
هذا ، وقد مررت على محلات (هارودز) وكان قد مضى على مصرع الأميرة (ديانا) وعماد الفايد أكثر من أسبوعين . وجدت طوابير كثيفة من الانجليز يوقعون على دفاتر العزاء ويضعون باقات الزهور.
ذلك في ظني أعجب ما ظهر من الشعب البريطاني إبان هذه المأساة . إنهم كما وصف الكتًاب : أحدثوا ثورة صامتة ، وفرضوا أنماطاً جديدة من السلوك على الطبقات الحاكمة .
إنما العجيب حقاً أن الشعب البريطاني الطيب – وهو كذلك بالفعل – قد اعترف صراحة بجواز حب أميرتهم لعربي مصري مسلم . وفي ذلك بالطبع ، اعتراف ضمني بسيد مملكة “ فريزر” الجديد ، محمد الفايد.
هل هذا يعني أن تلك الطبقة العليا ، قد اعترفت به أيضاً ، وأنه لو طلب أن يكون عضواً في نادي (الاثينيم) العريق ، فإنهم سوف يقبلونه؟
الله أعلم !
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 03:49 AM
الطيب صالح: فجر يخرج من جوف الظلام
الطيب صالح
22/11/2007

* كثيراً ما جال في خاطري بيتك العجيب :
لقيت بدرب القلة الفجر لقية
شفت كبدي والليل فيه قتيل
إنني لقيت الفجر بعد ذلك، بين "سيدني" و"طوكيو" فماذا أردت من تذكيري بقولك هذا الآن؟
يقول الشيخ ناصف اليازجي في شرحه:
"درب القلة موضع وراء الفرات. والدرب كل مدخل الي بلاد الروم. والقلة أعلى الجبل. وقوله "والليل فيه قتيل". أي أنه بدا له الفجر عند هذا المكان فاشتفت كبده بانصرام الليل كما يشتفي العدو بنكبة عدوه. وجعل الليل قتيلاً لظهور حمرة الشفق عند انقضائه فشبهها بالدم".
وربما يكون " درب القلة" هذا هو الموضع الذي عبر منه امرؤ القيس إلى بلاد الروم، وقال في ذلك بيته المشهور:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
وقد حدثني العالم الموريتاني الجليل الشيخ سالم ولد عًدود، أن " الدرب" في قول امرئ القيس تعني الحدود الفاصلة بين بلاد العرب وبلاد الروم.ويري أستاذنا العلامة الدكتور ناصر الدين الأسد أن " الدرب" مكان بعينه.ومهما يكن فإن " قتيل الليل " الذي رآه المتنبئ في ذلك الموضع، أمره عجيب.
أما الشيخ عبد الرحمن البرقوقي، فإنه يشرح البيت كما قال اليازجي حذوك النعل بالنعل، ولكنه يزيد:
" يقول ابن جني : سألته، يعني المتنبئ، عن معني هذا البيت فقال: وافينا القلة في وقت السحر، فكأني لقيت بها الفجر، ثم سرنا صبيحة ذلك اليوم إلى العصر أربعين ميلاً وشننا الغارات وغنمنا وشفيت كبدي لانحسار الليل عني، والليل قتيل في ذلك الموضع فكأن النهار لما اشرأب بضوئه على الليل قتله وظفر به"
إن كان المتنبئ قال حقاً هذا الكلام، وأن ابن جني فهم عنه قوله تمام الفهم فلا بد أن الشاعر أعطى مريده ابن جني بمقدار، فكل من أطال صحبة هذا الشاعر العبقري، يدرك أن الأمر أجل من محض ليل ينحسر ونهار يطلع، وضوء يفتك بالظلام.ولا يغيب عن البال أن القصيدة تتحدث عن صراع دموي بين قوى الخير والشر والحب والبغضاء والثأر والأخذ بالثأر.هذا قتل عظيم.
حتى الحب دونه الموت:
يحرمه لمع الأسنة فوقه
فليس لمشتاق اليه وصول
ما أغزر الدماء في هذه القصيدة: دماء تفيض حتى تصبح طوفاناً تخوض فيه الخيل:
فخاضت فجيع الجمع خوضاً كأنه
بكل نجيع لم تخضه كفيل
تسايرها النيران في كل مسلك
به القوم صرعى والديار طلول
كل هذا رآه الشاعر قبل أن يحدث، حين رأى الليل قتيلاً بـ "درب القلة" أو بالأحري رأى قتيلاً في الليل.في تلك اللحظة كان الشاعر منتصراً ومهزوماً، قاتلاً ومقتولاً، مشاركاً في الاحداث ومبتعداً عنها مراقباً لها.
يقول المؤرخون إن سيف الدولة عبر الفرات إلى دلوك إلى قنطرة صنجة إلى درب القلة، فشن الغارة، فعطف عليه العدو، فقتل كثيراً من الأرمن ورجع إلى مالطية، وعبر قباقب حتى ورد المخاض على الفرات ورحل إلى سميساط فورد الخبر بأن العدو في بلد المسلمين فاسرع إلى دلوك وعبرها، فأدرك جيش العدو راجعاً إلى جيحان فهزمه وأسر قستنطين ابن الدمستق، وخرج الدمستق على وجهه.
كل هذا رآه الشاعر رأي العين في الواقع وكان قد رآه بعين الشاعر قبل أن يحدث. فكأن القتيل الذي لقيه في درب القلة لم يكن قتيلاً واحداً، بل جموعاً من القتلى لما يزالون في ضمير الغيب.
كان النصر غالياً سالت فيه دماء كثيرة من الروم ومن العرب أيضاً والشاعر يزهو بنصر العرب، وفي الوقت نفسه لا يعدم الرثاء على العدو المهزوم، كيف لا وهو يسمع ولولات النساء وأنات الجرحى، وأنا لا أجد شماتة في هذين البيتين، اللذين يخاطب بهما الدمستق وقد نجا بنفسه وترك ابنه للأسر، بل أجد عاطفة لا تبعد عن الحزن.
نجوت بإحدى مهجتيك جريحة
وخلفت إحدى مهجتيك تسيل
أتسلم للخطية ابنك هارباً
ويسكن في الدنيا إليك خليل؟
الحزن حتى في مثل هذا الموقف لا يستغرب من هذا الشاعر العظيم، فهو خبير بأحوال الناس، عليم بتقلبات النصر والهزيمة، وقد عانى ما عانى، مهزوم حتى في أوقات انتصاره، كما قال الرافعي، سيماء الملك المخلوع.
لذلك تجده ينصرف فجاة عن مدح سيف الدولة، ويلوذ بنفسه في أبيات متعبة كأنها لا تمت إلى القصيدة بصلة، وكأنها قصيدة منفصلة، يبدؤها متحدياً.
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
يقول الشارح في معنى هذا البيت: إذا كنت سيف الدولة فإن غيرك من الملوك بمنزلة البوق والطبل أي لا يغنون غناءك ولا يقومون مقامك.
هذا كلام لا نفع منه. إلا أن الشارح يضيف دون اكتراث:
" وقال العروضي : أراد بالبوق والطبل الشعراء الذين يشيعون ذكره ويذكرون في أشعارهم غزواته.."
صدق العروضي، فهذا ما قصد اليه الشاعر، وقد عني نفسه على وجه الخصوص.انظر كيف قلل من شأن نفسه فصور أنه طبول تدوي وبوقات تصك الأسماع. وكان حزيناً وكان مهزوماً، لأنه كان يدرك في قرارة نفسه أن الأمير في واد وهو في واد.
رحمك الله. لقد وقفت وقفة "وجودية" كما يقال هذه الأيام، في لحظة كأنها خارج حدود الزمان والمكان، في ليل ليس كالليل، وراءه فجر ليس كالفجر. تحمل ثأراً غامضاً، وطموحاً لا يحد، وحباً مثل البغضاء وغروراً بنفسك لا يقرك عليه أحد. الفجر لم يشف كمدك كما زعمت، بل زادك كمداً.سمعت أنين الجرحى ورأيت دماء القتلى. وإذ إنك مت قتيلاً بعد ذلك، فلعلك رأيت دمك ينتشر في الأفق ويتشكل على هيأة فجر يخرج من جوف الظلام.
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 03:52 AM
الطيب صالح: رجــل من الغــرب.. وحضارة من الشــــرق
الطيب صالح
29/11/2007

* كان (جاك بيرك) - الذي تـوفي عام 1995م عن خمسة وثمانين عاماً -واحداً من الأوروبيين الفضلاء الذين تبحروا في دراسة الحضارة العربية الإسلامية وأحبوها وتحمسوا لها ودافعوا عنها.
قادته ظروف مولده ونشأته إلى تعلم اللغة العربية. فقد ولد في الجزائر في الرابع من شهر حزيران /يونيو عام 1910م لأبوين فرنسيين.
وكان والده موظفاً في سلك الإدارة الاستعمارية، إلا أنه كان يحسن اللغة العربية، وله سمعة علمية في مجال الاستشـراق.
ذلك الاهتمام كان نـادراً حينئذ، فقد كان المسـتوطنون الفرنسيون الذين وفدوا إلى الجزائر منذ استعمارها عام 1830م، يتميزون بضيق الأفق وجلافة الطبع والاحتقـار للجزائريين أهل البلد.
وجدير بالذكر أن الروائي الفرنسي الشهير (ألبير كامو) ولد أيضا في الجزائر في تلك الظروف، في عام 1913م، أي بعد ثلاث سنوات من مولد(جاك بيرك).
وكما يبين العالم العربي الأمريكي النابغة بروفيسور إدوارد سعيد في كتابه القيم "الثقافة والإمبريالية" فإن (كامو) في حقيقة أمره كان متعاطفاً مع تلك الطبقة من المستوطنين الفرنسيين (Colons) وكان أدبه – حين تنظر إليه بعمق كما فعل إدوارد سعيد – يبرر استمرار الاستعمار الفرنسي للجزائر.
يتضح ذلك في قوله عن حركة الكفاح الجزائري للاستقلال في بداية انطلاقها:
"فيما يتعلق بالجزائر، فإن الحافز على المطالبة بالاستقلال، ليس أكثر من الهوس العاطفي البحت. لم توجد أبدا أمة تسمى الجزائر. اليهود والأتراك واليونانيون والإيطاليون لهم حق في الجزائر لا يقل عن حق العرب (...) الفرنسيون في الجزائر هم أيضا مواطنون بأدق معنى الكلمة. أضف إلى ذلك أن دولة عربية خالصة، لن تستطيع أن تحقق الاستقلال الاقتصادي، الذي يكون الاستقلال السياسي بدونه مجرد وهم".
بالمقارنة بهذا الرأي من كاتب كان يجـد حفاوة بالغة بين اليساريين والوجوديين في فرنسا، وحتى في البلاد العربية، فإن (جاك بيرك) كان بين قلة من المفكرين الفرنسيين الذين أعلنوا انحـيازهم الكـامل إلى حركة الكفاح الجزائرية.
لم يبدأ (جاك بيرك) في صنع شهرته العلمية في الجـزائر، ولكن في المغرب، التي انتقل إليها وعمل موظفاً إداريا في منطقة جبال الأطلس.
كان الاستعمار الفرنسي في المغرب، أخف وطأة منه في الجزائر، فقد حاول حكام أمثال (الجنرال ليوتي) أن يطبقوا أساليب مستنيرة تحترم إنسانية المواطنين الأصليين وثقافاتهم وأعرافهم.
لم يحاول الفرنسيون أن يتوطنوا في المغرب كما فعلوا في الجزائر واعتبروه (محمية) وليس مستعمرة. لذلك كان الكفاح لنيل الاستقلال أقل ضراوة ومرارة مما حدث في الجزائر.
صاغ (جاك بيرك) تجربته في المغرب في كتابه التنظيم الاجتماعي في إقليم أعالي "الأطلس" الذي صدر عام 1955م. ويعتبر إلى اليوم من المراجع العلمية المحترمة عن حياة ذلك الإقليم.
ثم توجـت حيـاته العلمية أنه عين أستاذا للتـاريخ الإسلامي في معهـد (الكوليج دي فرانس) العريق، وذلك أعظم شرف يناله أكاديمي فرنسي.
هنالك صار زميلاً فترة للمؤرخ الفرنسي العظيم (فيرناند برودل) والعالم اللغوي الشهير (رولان بارت) بالإضافة إلى ذلك كان مديراً لمعهد الدراسات التطبيقية العليا.
في تلك الفترة التي امتدت نحو ثلاثين عاماً، عكف (جاك بيرك) على عمل دراسات عميقة عن أحوال العالم العربي، نشرها في كتب، كلها لقيت احتراماً من الدارسين والمهتمين بشؤون العالم العربي عموماً.
من ذلك كتبه: "العرب أمس واليوم" 1960م "المغرب بين حربين" 1962 "مصر الإمبريالية والثورة" 1967.
وقد أنفق أكثر من سنوات أواخر حياته في ترجمة التاريخ واللغة والفقه وعلوم الإنسانيات الحديثة.
هذا، وقد أسعدني الحظ أنني تعرفت على (جاك بيرك) أواسط السبعينيات حين زرته في مكتبه في الـ(كوليج دي فرانس). وكان ذلك دون سابق معرفة بي.
سارع إلى كتابة مقدمة للطبعة الفرنسية الأولى لرواية موسم الهجرة إلى الشمال التي صدرت أوائل السبعينيات. ثم توقفت صلتي به في سنوات عملي في باريس رغم متابعتي لجهوده الفكرية.
كانت فيه تلك الجاذبية الفرنسية من ميل إلى المرح وحب الحياة. وكما عبر بصراحة في كتاب سيرته، وكان فيه نزوع غير قليل إلى المغامرة.
من أمثلة ذلك أنه بعد أن جاوز الستين طلق زوجته الأولى وتزوج سيدة إيطالية من عائلة أرستقراطية تصغره بأكثر من ثلاثين عاماً. ويقول في كتاب سيرته، إن ذلك أسخط بعض زملائه وأصدقائه الذين ما كانوا ليسخطوا لو أنه اتخـذ عشيقة أو كان عربيداً مستهـتراً.
كان يتحدث اللغة العربية ويكتبها ويحاضر بها بطلاقة لافتة للنظر.
كان يستهويه الشعر الجاهلي، وامرؤ القيس بصفة خاصة. وجدير بالذكر أنه لم يراوده شك أبدا في صحة الشعر الجاهلي، كما فعل بعض المستشرقين أمثال (بلاشير) و(مرجوليوث) وسايرهم في ذلك الدكتور طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي".
أحب (جاك بيرك) العربية والإسلام حتى لتحسبه عربياً مسلماً. وكان في سمته شيء يذكر بالعلماء المسلمين الأوائل.
وقد خسر العلم بموته خسارة يصعب أن تعوض، وخسـر العرب والمسلون صديقاً من طراز نـادر .
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 03:56 AM
الطيب صالح: ثالث الأوفياء الدكتور بشير البكري
الطيب صالح
08/12/2007



* خسر أحمد مختار أمبو في إعادة انتخابه مديراً لليونسكو بثلاثة أصوات لا أكثر، وكان يستطيع أن يفوز، لو أن بعض الدول التي اتهموه بمحاباتها وهاجموه بسببها، تجرأت على تأييده.
سقط كما يسقط رئيس دولة في انتخابات رئاسية.أذكر ضوضاء الفرح ونشوة الظفر التي عمت في صفوف خصومه؛ عجبت لذلك، ولعل (أمبو) نفسه لم يتصور أنه حرك غيظ بعض الناس إلى ذلك الحد؛ كان رغم صلابته وحزمه، منصفاً كريماً مفرطاً في رقته وإنسانيته في بعض الأحيان.
والذي استهواني وحرك حب الاستطلاع عندي – كما يحدث للكاتب الروائي الذي يراقب دائماً وإن كان مشاركاً في الأحداث – هو ذلك المشهد القديم المتجدد؛ الجموع التي ترحل مدفوعة بما تحسبه غريزة البقاء من باب المهزوم إلى باب المنتصر، تكاد تسمع لحركتهم دوياً كدوي الحيوانات المذعورة في الغابات؛ المنتصر يمتلئ فجأة بطاقة غامضة، كما تمتلئ القربة بالماء، فإذا هو شخص آخر إلا من رحم الله.
والمهزوم لا يبقى منه غير ماهو فيه أصلا، بعض المهزومين لا يبقي منهم شيء لأنهم لم يكونوا أكثر مما أضفاه عليهم هيلهم وهيلمانهم، وآخرون يظلون كما هم.وربما يكونون في حالات الهزيمة أفضل مما كانوا في حالات النصر.
وهكذا اجتمعنا في وداع أحمد مختار أمبو ذلك الصباح في مطار باريس، لم يضيع وقتاً بعد إعلان نتيجة الانتخابات، قضى يوماً واحداً ليجمع أوراقه ويخلي مكتبه وسافر في اليوم التالي.
لم يكن غاضباً ولا ساخطاً؛ كان كعهده دائماً ممتلئاً بتلك الصفات الكريمة الموجوة فيه أصلا، وهي صفات ميزها أولئك الرجال الثلاثة الأوفياء فأحبوه لأجلها وليس لأنه مدير عام منظمة اليونسكو،وها هم ملتفون حوله في ساعة هزيمته كما كانوا في أيام انتصاره : الدكتور محمد إبراهيم كاظم من مصر، والدكتور عبد الرازق قدورة من سوريا، والدكتور بشير البكري من السودان.
الدكتور بشير البكري – ثالث أولئك الثلاثة الأوفياء – من الفوج الأول من السودانيين الذين أتموا تعليمهم الجامعي في مصر، من حيث أرسلوا إلى فرنسا فنال بعضهم شهادة الدكتوراه، وقد حصل الدكتور بشير البكري علي درجته في السوربون في الاقتصاد، من هذا الرعيل المرحومان الدكتور محي الدين صابر والدكتور عقيل أحمد عقيل والدكتور احمد السيد حمد.
هذا المنحي، جعلهم في بداية الأمر، فريقاً قائماً بذاته، فلم يكن في السودان حينئذ أحد يعرف اللغة الفرنسية أو تعلم في فرنسا، كان أبناء جيلهم جميعاً نتاج تعليم (أنجلو سكسوني) إما في السودان، أو في انجلترا.لكنهم سرعان ما دخلوا في نسيج الحيـاة العـامة بفضـل سودانيتهم المتأصلة، وأصبح (اختلافهم) ميزة خدمـوا بها الوطن خدمات عظيمة، وما يـزالون.
كذلك فإن اتصالهم الباكر بمصر، جعلهم أكثر إدراكا لقضية المصير المشترك بين مصر والسودان.
حين أذكـر الدكتور بشـير البكري، يتبادر إلى ذهني فوراً، صديقه الحميم الدكتور محي الدين صابر، كل منهما سار في طريق، لكنهما كانا يلتقيان كثيراً في باريس.كنت أجد متعة ذهنية وروحية خاصة في مجالستهما معاً؛ إنسانان جمعتهما التجـارب المشتركة والذكريات والألفة، أعواما طـويلة، كل واحد منهما يكون علي سجيته كما لا يكون إلا مع قـلة من البشر، وهما أيضا متمـاثلان في صداقتهما لأحمد مختار أمبو، وقد أيده الدكتـور محي الدين صابر تأييدا عظيماً من موقعه كمدير عـام للمنظمة العـربيـة للتربية والثقافة والعلوم.
حين التحقت بمنظمة اليونسكو آخر عام ثمانين، وجدت الدكتور بشير البكري سفيراً للسودان بها للمرة الثالثة، وكانوا في تلك الأيام الوضيئة يعينون السفراء ،ليس بمقياس ولائهم للحكومة، ولكن بمقياس الكفاءة والقدرة علي النهوض بعبء تمثيل الوطن بأكمله.
كان الدكتور بشير البكري خير ممثل للسودان، كان واضحاً بقدراته العقلية وجاذبيته الشخصية، وكانت داره ملتقى عامراً لرجال السياسة والفكر والأدب والصحافة، من الفرنسيين والعرب والأفارقة، وكان صاحب الدار كعهده دائماً حيثما كان جامعاً للشمل، محباً للخير، يتحلى بتلك الصفة النادرة، إنه يستطيع دائماً أن يصل إلى الأساس المشترك، تحت سطح اللجاجة وتباين الأفكار.
الدكتور بشير - حفظه الله - من هؤلاء الناس الإيجابيين، وهم ليسوا كثيرين في العالم الذين يؤمنون أن أي معضلة مهما عظمت لا بد أن يوجد لها حل – بالعلم والحكمة والجهد والصبر.
وكل تلك الفضائل متوفرة عنده بدرجة عظيمة، كان في تلك الأيام إلى جانب عمله سفيراً للسودان أيضا عضوا في المجلس التنفيذي لليونسكو وعضواً في مجلس إدارة جامعة الأمم المتحدة في طوكيو، ورئيساً لصندوق دعم الثقافة، وعضواً في عدد من اللجان؛ كان متصل النشاط، دائم السفر ومايزال.
بالإضافة إلى كل تلك الصفات، يتميز الدكتور بشير بالميل إلى الدعابة والمرح، وما أكثر ما تعقدت الأمور في لجان اليونسكو وفي المجلس التنفيذي، فكان الدكتور بشير دائماً يجد لها حلولاً بروحه المرحة ودعابته الذكية.
إنما ساقني إلى هذا الحديث أصلا، هو أمر الصداقة والوفاء وفي هذا لم يكن الدكتور بشير - رعاه الله - بأقل وفاء من صاحبيه لصديقهم المشترك.
كان (أمبو) حريصاً غاية الحرص أن يعقد آخر مؤتمر في سلسلة المؤتمرات عن سياسات الاتصال والإعلام، وهي مؤتمرات ارتبطت بما سمي(النظام الإعلامي الجديد) الذي آثار سخط الولايات المتحدة ومن رأى رأيها من الدول الأوروبية.أراد أن يتوج عهده بذلك المؤتمر ولعله أدرك أنه لن ينال تفويضاً للمرة الثالثة.
كان المؤتمر يعني بسياسات الاتصال في الدول العربية، فكان لا بد أن يعقد في دولة عربية، لكن اليونسكو عجزت أن تجد دولة عربية تقبل باستضافته. انبرى الدكتور بشير البكري بحصافته المعهودة فأقنع حكومة السودان بعقده في الخرطوم، ورغم العقبات والظروف الصعبة التي اكتنفت منظمة اليونسكو حينئذ، فقد كان ذلك المؤتمر باعتراف الكثيرين، أنجح مؤتمر عقدته المنظمة في موضوع الإعلام والاتصال، وكان الدكتور بشير هو العنصر الفاعل والطاقة المحركة.
في أثناء ذلك أحاط الدكتور بشير صديقه، بجو غامر من الحفاوة والود، وكان الوقت وقت ديمقراطية في السودان، بعد انتفاضة رجب المباركة، والسودانيون يكونون في أحسن حالاتهم، وبلغت تلك الحفاوة ذروتها حين منح رئيس الدولة لمختار أمبو ارفع وسـام في جمهورية السودان؛ لا غرابة أن الدمـوع فاضت في عيني (أمبو) من شدة التأثر.
لذلك أقول إن أحمد مختار أمبو حين غادر باريس ذلك الصباح فإنه غادرها منتصراً، تخفف من أثقال جاهه وسلطانه في اليونسكو وحمل معه ذلك الشيء الذي لا يقدر بثمن صداقة ثلاثة رجال أوفياء فيا لهم من رجال!
ويا لهم من أصدقاء .
  • ملف العضو
  • معلومات
فارس...
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 16-01-2009
  • المشاركات : 42
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • فارس... is on a distinguished road
فارس...
عضو نشيط
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (2)
28-02-2009, 03:58 AM
الطيب صالح: عزاء في كتب التــــاريخ
الطيب صالح
15/12/2007

* حين تدلهم الخطوب، أتعزى بعد كتاب الله الكريم، وسيرة الرسول الأمين أعظم من أظلته السماء، وأقلته الغبراء، أتعزى بشعر العرب. ولو شئت لسقت شعراً كثيراً يصلح لهذه الأيام، ولكن حسبي ذلك البيت من شعر “الأستاذ” الذي لا أمل من ترديده:
من رآها بعينها شاقه القطان - فيها كما تشوق الحمول
قال العكبري، قال أبو الفتح:
“أي من عرف الدنيا حق معرفتها، تيقن أن أهلها راحلون لا محالة فلم يجد بين القاطن والراحل فرقاً، فهذا يشوقه وهذا يشوقه، لأن الرحيل قد شملهما.
والمعنى: من رأى الدنيا بعينها وتوسمها بحقيقتها، شاقه القاطن فيها لقلة مقامه، كما يشوقه الظاعن عنها لسرعة زواله”
وأضيف، غفر الله لي، أن أبا الطيب أراد أيضا أن يضع حياة الإنسان القصيرة في سياق الأبد، لعل الإنسان يدرك لو يستطيع كم هي عابرة حياته، وكم هي تافهة مساعيه وطموحاته.
والإنسان لأنه ظلوم جهول قد يزين له غروره أن عمره القصير هو الأبد وأنه مخلد في الأرض، وأن لا أحد قبله ولا أحد بعده. ينسى أن أناسا إثر أناس قد جاءوا قبلنا وأحسنوا وأساءوا ثم رحلوا. وسوف يجئ بعدنا أناس قد يرون ما نحسبه نحن صواباً عين الخطل وغاية الحمق.
كذلك أجد العزاء في كتب التاريخ، وقد أعارني صديقي المرحوم الدكتور محمد إبراهيم كاظم - أحد حكماء العرب في هذا العصر كتاباً مملوءاً بالحكمة- للكاتب الانجليزي “بروفسور سي نورثكوت باركنسن” عنوانه “تطور الفكر السياسي” كنت قد قرأت “لباركنسن” كتابه الشهير “قانون باركنسن” الذي يسخر فيه من البيروقراطية والبيروقراطيين لكنني ما كنت أعلم أنه مؤرخ أيضا.
هذا الكتاب ليس مرجعاً تاريخياً، ولكنه عرض لحقب متباعدة من تاريخ الإنسانية بطريقة فيها روح الطرافة والعبث، تذكرك بأسلوب المؤرخ الحبر “اي.جي. بي. تيلور” وقد لفتت نظري فقرات يتحدث فيها الكاتب عن علاقات “أثينا” بجيرانها في القرن الخامس قبل الميلاد، أسوقها لكم فيما يلي: “تجدر الإشارة إلى مثلين من أمثلة السلوك الامبريالي لمدينة “أثينا” يرجع تاريخهما إلى الفترة التي أعقبت موت “بريكليس” مباشرة.
ففي عام 428ق. م. وصلت الأخبار إلى “أثينا” بأن مدينة “متلين” الخاضعة لنفوذها تعد العدة للانقلاب عليها والاستقلال بذاتها، فأرسل الأثينيون جيشاً حاصر المدينة بالبر والبحر حتى اضطرت إلى الاستسلام.
أعقب ذلك جدل في “أثينا” ماذا يفعلون بالمدينة المهزومة؟ ونجح “كليون” بائع الجلود في إذكاء حماسة العامة، فصدر قرار بذبح كل رجال “متلين” الذين بلغوا سن التجنيد، وأرسلت الأوامر بالفعل لتطبيق القرار. ولكن الجدل ثار من جديد في اليوم التالي، فقد طالب “ديودونس” بالرحمة لأهل “متلين” وعارضه “كليون” الذي طالب بما سماه “العدل” وقال في مرافعته: إن مقتضيات النظام الامبريالي لـ” أثينا” تحتم على الدوام بث الرعب في قلوب الرعايا الرافضين لسلطان أثينا وألا فعلى الأثينيين أن يتوقعوا ضياع نفوذهم بالانسياق وراء عواطف الرحمة نحو أناس لن يرحموا الأثينيين إذا انتصروا عليهم.
تغلب رأي المعتدلين في هذه الحالة، ولكن حتى هذا لم يمنع الأثينيين من قتل ألف رجل بدلاً من الستة آلالف الذين قرروا قتلهم بادئ الأمر.
بعد أن فتكت “أثينا” بمدينة “متلين” وجعلتها مثلاً، رأى الأثينيون بإغراء من “كليون” أنهم يستطيعون ضربة لازب، أن يرفعوا عن كاهلهم ضريبة الحرب التي أرهقتهم، بمضاعفة “الجزية” التي فرضوها على المدن الخاضعة لسلطانهم، بمقتضى المعاهدات المبرمة بينهم وبين تلك المدن.
أعلنت الزيادة عام 425ق.م. وأرسلت طلبات الدفع إلى كل المدن ولم يستثنوا مدينة “ميلوس” المستقلة التي لم تدخل في ظل نفوذ “أثينا” ولم تربطها بها أية معاهدة. وقد رفضت “ميلوس” أن تدفع، فانتظر الأثينيون حتى عام 416 ق.م. حيث أحسوا بأنهم يملكون القوة العسكرية الكفيلة بإجبارها على الانصياع. حينئذ جردوا حملة إلى “ميلوس” وأرسلوا معها طلب الدفع بأثر رجعي. ويقول المؤرخ اليوناني “ثيوسايديدس” أن سفراء “أثينا” كانوا صريحين كل الصراحة مع أهل “ميلوس” فقالوا لهم:
“لن نضيع وقتكم في الاستماع إلى حجج مزيفة نبرر بها مطالبنا. لن نقول لكم أننا نستحق الزعامة والنفوذ لأننا حاربنا الفرس نيابة عنكم وطردناهم عن ارض “هيلاس”. ولن نتظاهر بأننا ننتقم منكم بسبب أي ذنب ارتكبتموه ضدنا. أنتم تعلمون كما نعلم نحن أن طبيعة الأشياء تقتضي بأن تكون “الحقوق” أمراً لا ينطبق إلا بين أطراف متعادلة في ميزان القوة. القوي حر في أن يفعل ما تمكنه قوته من فعله، والضعيف يذعن ويعاني كما تحتم عليه طبيعة ضعفه”.
لم يقتنع أهل “ميلوس” بهذا المنطق، وقرروا ألا يرضخوا لمطالبهم وقالوا للأثينيين إن الآلهة التي تؤيد الحق سوف تؤيدهم وتنصرهم، فأجابهم الأثينيون بصراحة تامة أيضا”.
“حين تتحدثون عن تأييد الآلهة، فلعلها تنظر إلينا نحن أيضا بعين الرضا، إذ أن أهدافنا وسلوكنا لا يتعارضان بوجه من الوجوه مع ما نعتقد أن الآلهة ترضي عنه ومع ما يفعله الناس بعضهم إزاء بعض. فحسب ما وصل إليه علمنا عن الآلهة التي نؤمن بها والرجال الذين تعاملنا معهم وخبرناهم، فإن الدول بمقتضي القوانين التي تحكم سلوكها، يحق لها أن تبسط نفوذها إلى أقصى ما تسمح به قدرتها. وما نحن بأول من ابتكر هذا القانون، ولا نحن أول من عمل بمقتضاه. لقد وجدناه في الدنيا حين جئنا، وسوف نتركه لمن يجيء بعدنا. كل ما فعلناه أننا استفدنا منه، ولا يخامرنا أدنى شك أنكم أو غيركم لو كنتم تملكون مثل ما نملك من قوة لفعلتم مثل ما نفعل. وأما فيما يتعلق بالآلهة فنحن مطمئنون تماماً من ناحيتها”.
قاومت مدينة “ميلوس” بضعة أشهر، ثم استسلمت، فذبح الأثينيون كل الرجال الذين بلغوا سن الرشد، وأخذوا النساء والأطفال سبايا وباعوهم في أسواق الرقيق. ولكن السماء لم تغض الطرف عن الظلم الذي حاق بمدينة “ميلوس” ولم تغفر لأثينا غرورها وجبروتها، فبعد ستة أشهر من هذا التاريخ أرسلت “أثينا” حملة ضخمة لغزو جزيرة صقلية، فمنيت بهزيمة نكراء. ولم يحل عام 412ق.م. حتى كانت كل الشعوب الخاضعة لأثينا قد ثارت عليها ورفعت السلاح في وجهها.
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 10:30 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى