من رواية سمراء العين ...مختار سعيدي
27-06-2015, 05:56 PM
من رواية سمراء العين ل...مختار سعيدي
ينظر إلى أخته ثورة من بؤر الذاكرة، بقدر ما ضاقت عينيها بقدر ما اشتدت شرارات بأسها، الأم كأنها تمثال نحت من الصم لا تؤثر فيه تعاقب الفصول، باطنها كظاهرها، تتعامل مع الجميع بنفس البرودة و الشرود أحيانا، العمة حية تسكن دهاليز النفوس المظلمة، تتلون بلون الحدث و لا تقول شيئا، ظهورها دائما مصحوب بنقرات القلق و الحذر...ينظر إلى ترتيب الآثاث ، و ألوان الستائر واللوحات على الجدران، وجدها تزرع الحيرة و الريبة، و كأن اليد التي مرت من هنا، كانت تخفي وراء كل لمسة سرا رهيبا، أو ظنا محيرا ، هذا البيت القديم، من عهد المعمرين الأسبان قد تجاوز المئة سنة ، لا يزال يحتفظ بظل أصحابه، تزرع أرواحهم في الخفاء التنافر لفرض وجودها و خلودها بينهم، كم من مرة يرى بعض الظواهر يستحي أن يذكرها خوفا من اتهامه من طرف أبيه بالجبن، يسر بها بعضهم إلى بعض و لا يذكروها للجمبع، عندما ينزل إلى القبو كأنه في قبر، يستشعر النازل إليه أنه يعيش تلك الأفلام المرعبة التي تسيل العرق البارد في البدن، يتهيأ له أن كل الأشياء التي نقلها و رتبها أعادتها يد الخفاء الى أماكنها التي كانت فيها ، يستنفرفيه كل شيء، و يظهر له أن هذا السكون ليس طبيعيا، يتحسس بكل مداركه ليتفادى المفاجأة التي ينتظرها خلف أي شيء، أشياء قديمة قدم الزمان لا يزال أبوه يحتفظ بها، من زمن أجداده و أجداد المعمر الفرنسي، رحى من حجر، قربة ، محراث تقليدي ، صندق، عصي، سيوف و خناجر، ، برميل للماء، ستائر خيمة، منصب من حديد و قدر أسود، كلها من عهد أجداده، في الجهة الأخرى تماثيل برونزية، بيانو قديم، لوحات فنية و صور لشخصيات تاريخية فرنسية و اسبانية ، صليب مصلوب عليه رجل، جرات و براميل الخمر بعض ألبسة الكارنفال، أقنعة، زجاجات خمر، جوارب ،مدفأة حطب والسياط التي ذكرته بمقولة احد الأرجل السوداء التقى به جزائري في مدينة ليون كان في عهد الاستعمار يعمل عنده، فقال الجزائري ...ذهبتم و أخذتم معكم كل خيرات الأرض الجزائرية التي كانت تمون دول الحلف الأطلسي بالمواد الفلاحية، فرد عليه قائلا، لا لا لا أبدا ما أخذنا معنا الا هذه السياط التي كنا نجلدكم بها و هذه العقول الذكية التي كانت تسيركم،...كيس فيه مجلات ، و مكتبة تحمل من كل انواع الكتب، تاريخ فلسفة ادب علوم اجتماعية علم نفس و غيرها محفوظة كأنها الآن طبعت، وحدها تصنع الحدث و تجدده كلما جاءها زائر يكاد يركب جملة او جملتين بالفرنسية، توقفه، تستصغره، تجرده، ينحني و يثني عليها، يتعلق بها حتى لا تستطيع أن تتخلص منه، يخرج مثقلا بهموم قديمة لأمة كانت هنا صنفت الإساءة جزائرية و الاحسان فرنسي، و لتكون متحضرا يجب ان تظهر فرنسيا، كأنها عن قصد تركت ثراثا زاخرا في كل مجالات زمن بائد من اثار فلاسفتها و مفكريها و ادبائها، تقدسهم ذاكرة جردوها من كل مقوماتها، وخلدوا أنفسهم كأنهم احياء بيننا و هم أموات ، لا يستطيع الأب بنوستالجيته رغم جهله التخلص منها، بل لا يقبل حتى المساس بها، انها حديث الجميع ، و صدق من قال جوع كلبك يتبعك، في قبو الحاج لشرف لا زالت فرنسا قائمة..لا يزال كريم يذكر لما كان ينزل مع أبيه، يمنعه من لمس أي شيء و الفضول يمزقه،كانت تعجبه تلك المجلات و الكتب ،حتى اصبح موشوما في نفسه أن القبو مكان مقدس، محرم و ممنوع، حفاظا على الأشياء القيمة التي فيه، ما زاد في نسج الإفتراضات و الظنون، و أصبح هاجس دخوله يشغل الجميع...فما أخبث الإستعمار الفرنسي، قالها في نفسه حتى لا يسمعها أبوه....