خطة هولاكو لهدم الخلافة العباسية
05-09-2016, 08:03 AM




منذ تولَّى «منكوخان» زعامة دولة التتار وهو يُفَكِّر في إسقاط الخلافة العباسية، واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام، ومصر، وكان منكوخان قائدًا قويًّا حازمًا، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عونًا له في تحقيق أحلامه؛ فأحد إخوته وهو «أريق بوقا» ظلَّ معه في «قراقورم» العاصمة؛ ليُدير معه الإمبراطورية الواسعة، وأمَّا الأخ الثاني «قوبيلاي» فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية، والتي تضمُّ الصين وكوريا وما حولهما من أقاليم، وأمَّا الأخ الثالث «هولاكو[1]» فقد أصبح مسئولًا عن إدارة إقليم فارس وما حوله؛ مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة، ولا شكَّ أن الجميع قد سمع عن اسم «هولاكو» قبل ذلك!

هولاكو هو الزعيم التتري السفاح؛ الذي لا يمتلك أي نزعة إنسانية، الرجل الذي كان لا يرتوي إلا بدماء البشر، تمامًا كسلفه جنكيزخان، لعنهما الله.

هولاكو.. شخصية من أبشع الشخصيات في تاريخ الأرض!

ولأنه كان موكلاً بقيادة إقليم فارس، فإن مجال عمله الرئيسي كان البلاد الإسلامية، وكانت معظم الدماء التي أراقها دماءً إسلامية، ومعظم الآلام التي زرعها في قلوب البشر كانت في قلوب المسلمين، وسبحان الله! كأنَّ الحقد الذي كان في قلب هولاكو لم يكن كافيًا لتدمير الأرض، فقد تزوَّج امرأة لا تقل عنه حقدًا وبطشًا وظلمًا؛ لقد تزوَّج من الأميرة المغولية «طقزخاتون»، وكانت امرأة قوية ذات نفوذ في البلاط المغولي، وكانت فوق ذلك قد انتقلت إلى النصرانية، وكانت شديدة التعصُّب لديانتها، وشديدة الكراهية للإسلام.

وهكذا اجتمع هولاكو مع زوجته «طقزخاتون» ليصبَّا جام غضبهما على الأُمَّة الإسلامية[2]، وكان الهدف واضحًا في ذهن هولاكو؛ إنه كان يُريد بوضوح أن يُسقط بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ثم يتجاوزها إلى ما بعدها.

ومنذ تسلَّم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يُعِدُّ العدَّة لإسقاط الخلافة العباسية، والحقُّ أن إعداده كان إعدادًا باهرًا عظيمًا، بقدر ما كان ردُّ فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهًا حقيرًا، وإذا كان الوضع كذلك فلا بُدَّ أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله عز وجل سننًا لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يُعطيه الله عز وجل، وإن كان كافرًا، والذي لا يُعِدُّ نفسه ليوم اللقاء لا بُدَّ أن ينهزم وإن كان مسلمًا.. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}[هود: 15].

وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعدَّ لها إعدادًا جيدًا، فأخذ نصيبه من الدنيا ولم يُبخس منه شيئًا.

ماذا فعل هولاكو ليُسقط الخلافة العباسية؟
لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649 هجرية بحمية شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلَّى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة؛ فمع حقده الشديد ورغبته الملحَّة في تدمير الخلافة الإسلامية، واشتياقه الكامل لكنوز العباسيين، ومع كثرة جنوده وتفوُّقه العسكري الظاهر، فإنه -على الرغم من كل هذا- لم يتسرَّع في اتخاذ قرار الحرب ضدَّ الخلافة العباسية؛ بل ظلَّ يُعِدُّ العدَّة في صبر حتى مرَّت خمس سنوات كاملة من سنة 649 هجرية إلى سنة 654 هجرية، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزًا تمامًا.

وتعالوا نُتابع -كما كان المسلمون آنذاك يُتابعون!- خطوات هولاكو في إعداده: لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة؛ هذه المحاور الأربعة تزيد من فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وكل هذا العمل يتمُّ قبل حركة الجيوش، وقبل النزول الفعلي إلى ساحة المعركة في بغداد، والجدير بالذكر أن هذا الإعداد -في معظمه- كان يتمُّ علنًا على مرأى ومسمع من المسلمين وغير المسلمين! والتاريخ يتكرر!

المحور الأول:
الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين:
1- بدأ هولاكو في إصلاح كافَّة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وهي مسافات رهيبة؛ لكنه عمل على تهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة الجبلية لمنطقة طاجيكستان وأفغانستان وفارس، والموانع الطبيعية الصعبة.

2- أقام هولاكو الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، وخاصة نهري سيحون وجيحون، ووضع قوَّات كافية تحمي هذه الجسور، وبذلك ضمن استمرار عمليات التموين، وفي الوقت ذاته تفتح هذه الجسور الطريق لخطِّ رجعة لجيوش التتار في حال الهزيمة.

3- جهز هولاكو مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة؛ صُنِعَتْ خصوصًا لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد؛ وبذلك لا يأخذ وقتًا طويلاً في نقل المعدات الثقيلة عبر هذه المسافة الطويلة.

4- بدأ هولاكو في السيطرة على كل المدن والمراكز التي تتحكَّم في محاور الطرق؛ وبذلك تجنَّب حدوث أي مباغتة أو قطع لطرق جيشه أثناء سيرها.

5- قام هولاكو بشيء عجيب فيه ذكاء شديد، وهو إخلاء كل الطرق من الصين إلى بغداد من قطعان الماشية؛ سواء البرية أو المملوكة للسكان، وذلك لترك الحشائش والأعشاب لتكفي لطعام الأعداد الهائلة جدًّا من الخيول الخاصة بالفرسان، والدواب المكلَّفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام.. وغير ذلك؛ وبذلك لا يحتاج أن يحمل معه طعامًا للحيوانات، ولا يتعرَّض لمفاجأة غياب الطعام، وهو كفقد البنزين بالنسبة إلى السيارات، بل أشد؛ فالسيارة تظلُّ بحالتها إذا غاب البنزين حتى يؤتى به، أما الحيوانات فلا تصبر على غياب الطعام[3].

المحور الثاني:
الحرب النفسية على المسلمين:
إضافة إلى إعداد الطرق، وتهيئة الوسائل اللازمة لضمان الإمداد والتموين للحملة التترية، فإن هولاكو لجأ -أيضًا- إلى سلاح رهيب، وهو الحرب النفسية على المسلمين.

وقد كانت لهولاكو أكثر من وسيلة لشنِّ هذه الحرب المهولة على المسلمين.

من هذه الوسائل مثلاً:

1- القيام ببعض الحملات الإرهابية في المناطق المحيطة بالعراق، التي لم يكن لها غرض إلا بثّ الرعب، وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة، التي تمَّت في السابق في عهود «جنكيزخان» و«أوكيتاي»؛ فالحملة التترية الأولى -التي كانت في عهد جنكيزخان- مرَّ عليها أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أجيال من المسلمين لم تَرَ هذه الأحداث أصلاً، وإنما سمعت بها فقط من آبائهم وأجدادهم، وليس مَنْ سمع كمَنْ شاهد، والحملة التترية الثانية في عهد أوكيتاي لم يكن من همِّها التدمير والإبادة في بلاد المسلمين؛ وإنما كانت موجَّهة في الأساس لروسيا وشرق أوربا؛ ومن ثَمَّ لم يتأثَّر بها المسلمون بصورة كبيرة.

ولذلك أراد هولاكو أن يقوم ببعض النشاط العسكري التدميري والإرهابي؛ وذلك بغرض إعلام المسلمين أن حروب التتار ما زالت لا تُقاوم، وأن جيوش التتار ما زالت قوية ومنتشرة.

من ذلك -مثلاً- ما حدث في سنة 650 هجرية عندما قامت فرقة تترية بمهاجمة مناطق الجزيرة وسَرُوج وسِنْجَار، وهي مناطق في شمال العراق، فقتلوا ونهبوا وسبوا؛ ومما فعلوه في هذه الهجمة أنهم استولوا على أموال ضخمة كانت في قافلة تجارية، وقد بلغت هذه الأموال أكثر من ستمائة ألف دينار[4]، (وما أشبه هذا بما يحدث اليوم تحت مسميات مثل: تجميد الأموال..).

ولا شكَّ أنها كانت خسارة كبيرة للخلافة العباسية، وفي الوقت ذاته كانت نوعًا من تجهيز الجيش التتري بالمال والعتاد، وفوق ذلك كانت هذه الحملات تقوم بدور الاستطلاع والمراقبة والدراسة لطرق العراق وجغرافيتها، هذا كله إلى جانب بثِّ الرعب في قلوب المسلمين، فكانت هذه الحروب بمنزلة حروب الاستنزاف، فأضعفت من قوَّة الخلافة والمسلمين كثيرًا، وهيَّأت المناخ للحرب الكبيرة القادمة، وأمثال هذه الحروب تتكرَّر في التاريخ كثيرًا، وما مذبحة دير ياسين -وما أحدثته من آثار- منَّا ببعيد.

2- ومن وسائل التتار الخطِرة في حربهم النفسية ضدَّ المسلمين الحرب الإعلامية القذرة؛ التي كان يقودها بعض من أتباع التتار في بلاد المسلمين؛ يتحدَّثُون فيها عن قدرات التتار الهائلة، واستعداداتهم الخرافية، ويُوَسِّعُون الفجوة جدًّا بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، وتسربت هذه الأفكار إلى وسائل الإعلام في زمانهم؛ ووسائل الإعلام في ذلك الوقت هم الشعراء والأدباء والقصاصون والمؤرخون، وقد ظهر في كتاباتهم ما يجعل المسلمين يحبطون تمامًا من قتال التتار؛ وذلك مثل:

التتار تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم؛ (كناية عن قوَّة وبأس المخابرات التترية، وحسن التمويه والتخفِّي عندهم، إضافة إلى ضعف المخابرات الإسلامية وهوانها).

التتار إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه.

التتار نساؤهم يقاتلن كرجالهم؛ (فأصبح رجال المسلمين يخافون من نساء التتار)!

التتار خيولهم تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات، ولا تحتاج إلى الشعير!

التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين والمؤن؛ فإنهم يتحرَّكون بالأغنام والبقر والخيول ولا يحتاجون مددًا.

التتار يأكلون جميع اللحوم.. ويأكلون بني آدم[5]!

ولا شكَّ أن مثل هذه الكتابات كانت ترعب العوامَّ، وأحيانًا تُؤَثِّر في نفوس الخواصِّ؛ وهذا من البلاء الذي جنته الأُمَّة على نفسها، وما جناه عليها أحد!

3- وكان -أيضًا- من وسائل التتار المشهورة لشنِّ حرب نفسية على المسلمين كتابة الرسائل التهديدية الخطرة، وإرسالها إلى ملوك وأمراء المسلمين، وكان من حماقة هؤلاء الأمراء أنهم يكشفون مثل هذه الرسائل على الناس؛ فتحدث الرهبة من التتار، وكان التتار من الذكاء بحيث إنهم كانوا يستخدمون بعض الوصوليين والمنافقين من الأدباء المسلمين ليكتبوا لهم هذه الرسائل، وليصوغوها بالطريقة التي يفهمها المسلمون في ذلك الزمان، وبأسلوب السجع المشهور آنذاك، وهذا -ولا شكَّ- يصل إلى قلوب الناس أكثر من الكلام المترجم الذي قد يُفهم بأكثر من صورة، كما أن التتار حاولوا في رسائلهم أن يخدعوا الناس بأنهم من المسلمين، وليسوا من الكفار، وأنهم يُؤمنون بكتاب الله «القرآن»، وأن جذورهم إسلامية، وأنهم ما جاءوا إلى هذه البلاد إلاَّ ليرفعوا ظلم ولاة المسلمين عن كاهل الشعوب البسيطة المسكينة؛ (ما جاءوا إلا لتحرير العراق!)، ومع أن بطش التتار وظلمهم قد انتشر واشتهر؛ فإن هذا الكلام كان يدخل إلى القلوب المريضة الخائفة المرتعبة، فيُعطي لها المسوغ لقبول اجتياح التتار، ويُعطي لها المبرِّر لإلقاء السيف، ولاستقبال التتار استقبال الفاتحين المحرِّرين؛ بدلاً من استقبالهم كغزاة محتلِّين.

لقد كانت هذه الرسائل التترية تُخالف الواقع كثيرًا، ولكنها عندما تقع في يد مَنْ أُحبط نفسيًّا، وهُزم داخليًّا؛ فإنها يكون لها أثر ما بعده أثر.

وكمثال على هذه الرسائل أذكر هنا الرسالة التي أرسلها هولاكو إلى أحد أمراء المسلمين؛ وقال فيها:

«نحن جنود الله.

بنا ينتقم ممَّن عتا وتجبَّر، وطغى وتكبَّر، وبأمر الله ما ائتمر.

نحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد.

فيا أيها الباقون، أنتم بمَنْ مضى لاحقون.

ويا أيها الغافلون، أنتم إليهم تُساقون.

مقصدنا الانتقام، ومُلكنا لا يُرام، ونزيلنا لا يُضام.

وعدلنا في مُلكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفرُّ؟

دمَّرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب.

وجعلنا عظيمهم صغيرًا، وأميرهم أسيرًا.

تحسبون أنكم منَّا ناجون أو متخلِّصُون، وعن قليل تعلمون على ما تقدمون وقد أعذر من أنذر»[6].

ولا شكَّ أن مثل هذه الرسالة إذا وقعت في يد خائف أو جبان، فإنه لن يقوى على الحراك أبدًا بعد قراءتها، وكان هذا هو عين المرجوِّ من وراء مثل هذه الرسائل!

بهذه الوسائل وبغيرها استطاع التتار أن يبثُّوا الرعب والهلع في قلوب المسلمين؛ وبذلك أصبح المناخ مناسبًا جدًّا لدخول القوَّات التترية الغازية.

[1] هولاكو خان (ت 663هـ): هو هولاكو بن تولي خان بن جنكيز خان، ملك التتار ابن ملك التتار، وهو والد ملوكهم، والعامة يقولون هو لاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكًا جبارًا فاجرًا كفارًا -لعنه الله- قتل من المسلمين شرقًا وغربًا ما لا يَعْلَمُ عددهم، إلا الذي خلقهم، وسيُجازيه على ذلك شرَّ الجزاء.
[2] الدكتور الصياد: المغول في التاريخ ص182.
[3] رشيد الدين فضل الله الهمداني: جامع التواريخ 1/235.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 213.
[5] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 329، 330.
[6] ابن العماد العَكري الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 7/742.




د.راغب السرجاني