أحوال دولة الروم قبل الفتح الإسلامي
01-02-2021, 10:26 AM


جعل الله تعالى مهمة حمل الرسالة الخاتمة التي بعث بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في أعناق العرب سكان شبه جزيرة العرب، وكانوا ضعفاء مقهورين فقواهم الله وعرفتهم الدنيا بعد أن حملوا رسالة الإسلام، وقدموها للأمم الأخرى فاستجاب لهم كثيرون من أمم الأرض، وساعدوهم على نشر الدعوة، وهكذا عمَّ نور الاسلام معظم أرجاء المعمورة، وأزاح القوتين الكبيرتين فقضى على فارس وأضعف الروم في القرن الأول الهجري، وسوف نستعرض فيما يلي الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأخلاقية التي كانت تسود في دولة الروم.

الحالة السياسية والاقتصادية
كانت دولة الروم (الإمبراطورية البيزنطية) تضم الروم في آسيا الصغرى (تركيا حاليًا) وتتوسع فتحتل الأقطار الواقعة على حوض البحر المتوسط الشرقي والجنوبي وبذلك جمعت أجناسًا عديدة من البربر والقبط والعرب إلى جانب الروم، ولم يكن بين هذه العناصر تجانس في الجنس واللغة والثقافة والتقاليد، ورغم انتشار النصرانية بين هذه الشعوب، لكنها لم تحقق لها الانسجام بسبب الخلاف المذهبي الذي أضعف ولاء رعايا الإمبراطورية في الشام ومصر لها.

وكان نظام الحكم ملكيًا مطلقاً، فالنصرانية لا تنظم المجتمع والدولة، بل تكتفي بتنظيم العلاقة بين الناس وخالقهم وشعارها (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) وكانت الفكرة السائدة التي تدعمها الكنيسة النصرانية هي أن الله اختار الإمبراطور لهذا المنصب، فأضحى بذلك موطن تبجيل وتقديس من رعاياه في أمور السياسة والدين، وكانت الطقوس والمراسيم تجري في البلاط بمشاركة الكنيسة ورجال البلاط، فإذا طلع الإمبراطور ركعوا أمامه جميعًا.

ورغم النصرانية فإن القانون الروماني والحضارة اليونانية الوثنية كانا يسودان الحياة، حتى جاء الإمبراطور البيزنطي هرقل (610 - (641) م) الذي عاصر ظهور الإسلام، وهو يعتبر من أعظم الأباطرة في التاريخ البيزنطي، حيث سعى هذا الإمبراطور إلى تجديد الإمبراطورية وإعادة تنظيم الدولة وبناء جيوشها وزيادة ثرائها بتنظيم الضرائب وطرق الجباية، وتمكن من إحراز النصر على الإمبراطورية الساسانية التي كانت تتفوق عسكريًا على الروم، وقد أشار القرآن الكريم إلى النصر الرومي النصراني على فارس المجوسية، وفرح المسلمون في مكة به، وكانت حملات هرقل على فارس بين سنتي 622- 628م، (من سنة 12 بعد البعثة المحمدية إلى سنة 5هـ).

أما الحالة الاقتصادية، فإن الربا والاحتكار كانا هما أساسا النظام، وقد فرض هرقل ضرائب جديدة على أهالي الولايات المستاءين من الحكم الروماني لتسديد الدين الكبير لحروبه مع فارس، وقد أصيبت الإمبراطورية البيزنطية بانحطاط هائل نتيجة المغالاة في المكوس والضرائب والانحطاط في التجارة وإهمال الزراعة وتناقص العمران، ويكفي لبيان كيفية إدارة الإمبراطورية للولايات الخاضعة لها أن نستشهد بقول المؤرخ بتلر عن إدارة مصر: "أن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس، وضرائب أخرى كثيرة العدد". ويقول: "مما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل". ويقول: "أن حكومة مصر الرومية لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين"، وحتى الروم أنفسهم تعرضوا لثقل الضرائب وخاصة الفلاحين الذين اضطرتهم الضرائب الباهظة إلى بيع أراضيهم والهجرة إلى المدن.

الحالة الدينية والفكرية
رغم أن الإمبراطورية البيزنطية تدين بالنصرانية، لكن تعاليم النصرانية لم تبق كما جاء بها عيسى عليه السلام. "بل إن تعاليم الكنيسة انطوت على قدر كبير من تفكير الفلاسفة الوثنيين، واستخدمت الكنيسة وسائلهم وأسلحتهم العقلية في شرح العقيدة المسيحية"، وخلاصة القول أن النصرانية الحقة فقدت روحانيتها ووحدانيتها لما أدخله إليها داعيتها الكبير بولس من تعاليم وثنية نشأ عليها قبل تنصره، ولما تنصَّر الإمبراطور البيزنطي قسطنطين أدخل إليها مزيجًا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومانية والأفلاطونية المصرية والرهبانية، وبذلك تحرفت الديانة وضاعت تعاليمها الأصلية، وانحدرت إلى عبادة القديسين والصور.

وقد وقع الخلاف المذهبي الذي كان محوره تفسير طبيعة المسيح عليه السلام بين سكان الإمبراطورية، فقد تبنت الدولة مذهب الملكانية الذي يرى أن للمسيح طبيعتين: إلهية وبشرية، في حين انتشر مذهب اليعاقبة والمنفوستية في بلاد الشام ومصر، وهو يرى أن للمسيح طبيعة واحدة إلهية، وقد أدى هذا الاختلاف إلى شقاق عنيف بين الدولة ورعاياها، وحاول هرقل توحيد مذهب الإمبراطورية، فعقد مجمعًا دينيًا انتهى إلى إقرار عدم الخوض في طبيعة المسيح والاكتفاء بالقول بأن لله إرادة واحدة، لكن المصريين قاوموه فاضطهدهم بالتعذيب والتحريق وفشلت محاولة التوحيد الديني، وضعف ولاء اليعاقبة والمنوفستية في الشام ومصر للإمبراطورية البيزنطية.

وهذا الخلاف المذهبي يوضح مدى الانحدار الفكري والانحراف العقدي الذي أصاب شعوب الإمبراطورية حتى جعلوا عيسى عليه السلام وهو عبد الله ورسوله إلهًا، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، وكانت طبقات المجتمع البيزنطي جميعاً تؤمن بالتنجيم، والتنبؤ بالغيب، والعرافة، والاتصال بالشياطين، والتمائم.

الحالة الاجتماعية والأخلاقية
انتقلت تقاليد المجتمع اليوناني والروماني إلى الدولة البيزنطية، فلا غرابة إذا ما شاع الفساد الأخلاقي والانحلال الاجتماعي داخل البلاط وفي أوساط الشعب، وكان الامبراطور وقادة الجيش وكبار رجال الكنيسة يعيشون في أعلى السلم الاجتماعي، في حين يقبع آلاف العبيد في المزارع الضخمة حيث يعانون من سوء التغذية وتدني مستوى المعيشة، ويقرب من مستواهم المعيشي الأحرار الذين يشتغلون في الصناعات، وهذه الطبقات من الفقراء كانوا يحسون بسوء حالهم وكثيرًا ما حاولوا القيام بثورات لم يوفقوا فيها، وكان أصحاب الأعمال الذين يستخدمونهم يؤلفون من بينهم طبقة وسطى كبيرة العدد.

وهكذا فإن الطبقية والإقطاع وفقدان العدالة الاجتماعية كانت تطبع المجتمع البيزنطي، كما كانت القسوة والعنف والتعصب والجهل والخرافة تطبع حياة الأفراد، وما ذلك إلا بسبب ضعف الإيمان الصادق بالله ورسله، وطغيان المظاهر الخادعة على الحياة الدينية في الإمبراطورية.

ورغم مظاهر الضعف والفساد في الإمبراطورية البيزنطية في وقت ظهور الاسلام وقيام حركة الفتوح الاسلامية، فإن من الخطأ المبالغة في وصف ضعفها، فقد تمكنت من حشد جيوش جرارة أمام تقدم المسلمين، وكانت جيوشها تتفوق عددًا وعدة على المسلمين، ولكن الإيمان الصادق وروح الجهاد ونصر الله للمسلمين هو الذي أكسبهم المعارك الطويلة التي خاضوها ضد قوى منظمة وجيوش متمرسة وقلاع حصينة وأمم عريقة[1].

قصة الإسلام
[1] أكرم بن ضياء العمري: عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1430هـ- 2009م، ص334- 338.