كَنزُ التاريخ الإسلامي
30-03-2020, 12:06 PM


لا جديد على الأرض!!.. فالتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة.. ونفس الأحداث نراها من جديد رأي العين، فقط باختلاف يسير، يكاد لا يتعدى الأسماء والأمكنة..
ولذلك فالمتعمق في التاريخ يقرأ ببساطة ما يحدث على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.. فهو وكأنه فعلاً يرى المستقبل!! إنه يعرف بوضوح أين يضع قدمه، ويعرف كذلك كيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته.. فهو كالشمس الساطعة، تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال.

ويكفينا للدلالة على أهمية التاريخ أن نفقه الأمر الإلهي الحكيم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، فقصُّ القصة، أو رواية الرواية، لا يغني شيئًا إن لم يُتبَع بتفكر.. ودراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، إنما هي ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.

وفي جمعنا بين التاريخ والواقع نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، فنحن نعرض لأمور من العقيدة، وأمور من الفقه، وأمور من الأخلاق، وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام.. ونعرض كذلك لفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الواقع.. أو إن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين..

هكذا علمنا الله عز وجل في كتابه الحكيم، فهو يقص القصة، ويعرض فيها الحُجَّة التي تقنع العقل، ثم يعرض فيها الرقيقة التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمرًا عقائديًا، وقد يعرض فيها حكمًا فقهيًا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر.. فتشعر أن التاريخ حيٌ ينبض، ولسانٌ ينطق.. وتكاد تجزم أنه لا يحدثنا عن رجال ماتوا، ولا عن بلاد طواها التاريخ، إنما هو يحدثنا عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.

والتاريخ من هذا المنظور ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح.

لقد واجه المسلمون في تاريخهم كل أشكال المآزق والمحن والمشكلات، كما واجهوا عديدًا من الأعداء، وقد أثمر ذلك تجارب ضخمة تضم في ثناياها ما واجهته البشرية على مدار تاريخها الطويل.
وقد قامت الحضارة الإسلامية في بقاع مختلفة من العالم: في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وكان تنوع الأصول العرقية للمسلمين دافعًا لتنوع الثقافات، ومع ذلك فإنَّ الدين الإسلامي قد صهر الجميع في بوتقة واحدة يشعر الجميع فيها بشعور واحد؛ فيفرحون لنفس الأسباب، ويحزنون لنفس الأسباب؛ فهي إذن أمة واحدة منحت البشرية رصيدًا ضخمًا من التجارب الإنسانية.

والتاريخ الإسلامي هو أنقي وأزهي وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، وسعدت الدنيا بتدوينه... فهو تاريخ أمة شاهدة، وأمة خاتمة، وأمة صالحة، وأمة تقية نقية، وهو تاريخ أمة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.

والتاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم أبدًا، فهم رجال فقهوا دينهم ودنياهم، فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة.. فتحققت المعادلة الصعبة العجيبة: عزٌ في الدنيا، وعزٌ في الآخرة، ومجد في الدنيا، ومجد في الآخرة، ومُلك في الدنيا، ومُلك في الآخرة.

التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، جمعت الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه والقوة والإعداد والذكاء والتدبير.. جمعت كل ذلك جنبًا إلى جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة، وصدق التوجه، ونبل الغاية.. وصدق الله تعالي إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
هذا هو التاريخ الإسلامي في أصله وجوهره..

ولا يمنع ذلك أن هذا التاريخ العظيم يحوي أخطاءً، بعضها عظيم، ويشمل عيوبًا بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندَّعي أنه بياض بلا سواد.. ونقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام.. فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا خطأ فيه، ولا عيب فيه.. فهو دين مُحكَم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى.. سبحانه هو الحكيم الخبير.. ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه، وليس على الإسلام..

وكثيرًا ما يخالف الناس فتحدث هزات وسقطات، لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام، وذلك إذا ثابوا إلى رشدهم وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين..

ثم وقفة وسؤال!!

هذه الثروة الثمينة، وهذا الكنز العظيم.. ثروة التاريخ الإسلامي الطويل..
مَن مِن البشر في زماننا أَمِنَّاه عليها؟!
مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟!
مَن مِن البشر أسلمناه أُذُننا و عقولنا وأفئدتنا ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟!..

واعجبًا لأمتنا!! .. لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار.. طائفة من المستشرقين الأجانب، وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين!! .. لقد تسلم هؤلاء كنز التاريخ، لينهبوا أجمل ما فيه، وليغيروا ويبدلوا ويزوروا!! .. حتى خرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا.. وقُطعت بذلك حلقة المجد، وانفصل المسلمون في حاضرهم عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد تمامًا بتمام..
لقد انتبه أبناء الأمة الإسلامية فوجدوا بين أيديهم سجلًا حافلًا من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات.. صفحات سوداء تتلوها صفحات سود.. واحتار المسلمون في تاريخهم، أيمسكونه على هونٍ، أم يدسونه في التراب؟!!..

يا للجريمة البشعة!!

فويلٌ ثم ويل لمن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم..
وويل ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية، فصاغوا التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين..
وويل ثم ويل لمن يقدر على التصحيح فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل.. ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل..

إن التاريخ الإسلامي ليس قصصًا للتسلية، وليس كذلك سبيلًا للفخر بأمجاد المسلمين الأوائل في أوقات قوتهم دون أن نتعلم منهم كيف أسسوا الدول والحضارات، وإنما هو في حقيقته دروس نتعلم منها كيف نقرأ الحاضر ونصنع المستقبل، ونعرف منها ماذا يريد أعداؤنا منَّا على الحقيقة، ونعرف لماذا علا أسلافنا في عهود قوتهم، ولماذا انتصر عليهم العدو في أوقات الضعف، ولماذا كانت تلك القوة، ولماذا كان الضعف من الأساس[1].

[1] دكتور راغب السرجاني: مقدمة كتاب الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي.