تذكرة الى لندن
22-07-2019, 08:27 PM
" أكون أو لا أكون تلك هي المشكلة".
شعرت أن ويليام شكسبير يصرخ بها هنا في كبد لندن...أكيد أن الرجل مدفون في مكان ما من تربة هذه المدينة الصاخبة أبدا .
لكن كلماته الثاقبة لا تزال ترفرف في السماء كما الكواكب...
أنا أقف قبالة نهر التايمز العتيق. هذا النهر الذي يشق المدينة في هدوء و كبرياء و أنفة.
أضخ إلى رئتي هواء مضمخا بطعم البحر. و موشحا بعطر الضباب..حقا انها لندن عاصمة الضباب...
رداء قرمزي راح يمشط المباني و الأشجار و الأشياء في بطء يفوق بطء السلاحف. تلك هي الشمس التي استفاقت للتو من الأفق. مشربة بالحمرة و دافئة و خجولة مثل العذراء في خذرها...
صباح عاصمة الانجليز سوف يكون رائقا ما دام قرص الشمس يعانق أحشاء هذه المدينة المترعة بالضباب و المستغرقة في البرد و الرطوبة معا...
البشر هنا يحتفون بمأدبة الشمس. كيف لا و هذا القرص الذهبي لا يرصع سماء لندن إلا لماما...
(تق.تق.تق.تق)..انزلقت الحصاة من بين أناملي و راحت تحدث ذلك الصوت و هي تقفز على صفحة الماء الداكن.
(طننننننننننننننننن)...ارتعشت و أنا أتلقى ذلك التنبيه الصاخب. ساعة بيغبن المتسلقة أجواء السماء لتقبل أسراب السحاب تشير إلى السابعة بالضبط...
بلى بالضبط...يجب أن يتعلم المرء الالتزام بالوقت بين ظهراني الانجليز أو كان مصيره الدفن حيا في مزبلة التاريخ أو الجلوس على قارعة الطريق لا يحفل به أحد ...
يقول الناس هنا إن ساعة بيغبن هذه تتأخر ثانية واحدة فقط كل عشرين حولا. أمر يدعو الى الذهول حقا.
الأبراج و العمارات و الجسور و الأنفاق و القطارات و المراكب تصنع مباهج لندن و كبرياءها..
تطورت هذه البلاد إلى الأمام بآلاف السنوات الضوئية. و شعرت على الفور أن صاحب الفضل يرقد هنا في قبر من القبور التي تكتظ بها لندن .
أكيد هو يسمعني الآن و أنا أردد مقولته اللامعة " دعه يعمل دعه يمر" . بلا شك هو النابغة آدم اسميث ...
انسلخت السنون التي أنفقتها في عاصمة الضباب ألتمس العلوم و كأنها البرق. لا يشعر المرء هنا بتعاقب الليل و النهار...
أجل الاغتراب بغيض المذاق لكن لندن كفيلة بأن تتلقفك بين أحضانها و تغمرك من فيض محاسنها.
بين أناملي أمسك ظرفا كبيرا أحرص عليه كمن يحرص على جوهرة نادرة تم التقاطها من جوف المحيط...في ذلك الظرف الأصفر ترقد ثمرة السنين الخوالي. وثيقة سميكة من الكرتون و مذهبة الإطار ..
مكتوب عليها بلسان انجليزي فصيح – جامعة لندن تشهد أن السيد رابح بن سعيد قد نال شهادة الدكتوراه بدرجة الشرف في الفيزياء النووية –
كانت الفرحة تفرخ وسط كل خلية من خلاياي. أخيرا أصبت الهدف و أخيرا سآوي إلى حضن أمي التي طال انتظارها...و أستعيد و طني القابع هناك في أقصى الجنوب...
يحق للوطن العزيز أن يتذوق تلك الثمرة النائمة في هدوء وسط هذا الظرف الكبير...
مرت ساعات و أنا أركب السماء...اعتصرني الألم و أنا أرمق لندن هناك في الأسفل و هي تنزلق بعيدا إلى الوراء لتختفي بين أحضان البحر.
فراق لندن هو شعور مر المذاق لا يحسه الا الحبيب حين يفتقد حبيبته ...
و سرعان ما تسللت إلى أنفي رائحة أعرفها و تعرفني. رائحة لا يفكك شفرتها إلا من اكتوى بنار المهجر...رائحة التربة التي أنجبتني و أطعمتني و علمتني.
حطت الطائرة على أرض الوطن...لقاء الأهل و الأحبة أجمل هدية يتلقفها المرء. بل هي الولادة من جديد.
مر الوقت سريعا و دخلت معركة البحث عن الوظيفة...حقا هي معركة حامية الوطيس كما يقول جهابذة الفصحى.
في يوم مطير أقبل علي ساعي البريد يحمل رسالة...فتحتها بلطف و أمل. قرأتها بصوت متلعثم:
- يعين الأستاذ رابح بن سعيد معلما في قسم الابتدائي بمدرسة المستقبل للبنات –
نوبة من الاستياء تعصف بي. مزقت الورقة على الفور و قد أظلمت الدنيا في وجهي. مكثت أياما منقطعا عن العالم الخارجي...
شعرت أنني أعيش نكسة تضاهي نكسة فلسطين في حزيران. ما أبغض الانكسار و الهزيمة.
و في صباح غائم كنت في المطار. سألتني الموظفة:
–ما هو المطلوب يا سيدي؟-
أجبت الفتاة و أنا أدفع إليها المال و الوثائق:
- تذكرة إلى لندن لو سمحت-