تفسير ابن تيمية للتاريخ وتحذيره للمسلمين
30-10-2017, 09:54 AM
تفسير ابن تيمية للتاريخ وتحذيره للمسلمين
أ. د. مصطفى حلمي

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

كثيراً ما يتوقف الباحث عند النظريات العميقة لشيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله في تاريخ الأمم السالفة، وفي نظرة نابعة من مقارنة بين الأمم أصحاب الرسالات وغيرها التي لم يبعث فيها أنبياء، وبلغتنا المعاصرة، وفي ضوء دراستنا لفلسفة التاريخ، قد لا يصبح من قبيل التسرع في الحكم، القول بأنه صاحب نظرة تفيد أن التاريخ سجل لأعمال الأنبياء والرسل، وأن الحضارات من صنعهم، وبقدر الاقتراب أو الابتعاد من تنفيذ الرسالات السماوية التي نيطت بهم، تنهض الحضارات الإنسانية أو تندثر، بل تتحقق سعادة البشر أو تشقى:" والله سبحانه يثبت وجود جنس الأنبياء ابتداء في السور المكية حتى يثبت وجود هذا الجنس وسعادة من اتبعه وشقاوة من خالفه"[1]، وتوجه الله عز وجل - للمكذبين بالرسل بمثل قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾.
والأمم - حسب تقسيمه - نوعان، نوع: لهم كتاب منزل من عند الله تعالى كاليهود والنصارى، ونوع: لا كتاب لهم كالهند واليونان والترك، وكالعرب قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد بعث إبراهيم - عليه السلام - إلى الروم الصابئة الذين عاشوا بمقدونيا وغيرها، فإن من آثار الصابئة بحران: الهياكل التي للعلة الأولى والعقل والنفس والكواكب، فإن هذا ليس من دين اليهود والنصارى ولا فارس والروم المتنصرة[2]، وكثيرًا ما يرى أن هناك علاقة بين فلاسفة اليونان وبين عبدة الكواكب، لأنهم يعظمون الأفلاك، كما سمحت له قراءاته في التاريخ بتصحيح الخطأ الذي كان شائعًا عن إسكندر ذي القرنين الوارد بالقرآن الحكيم، إذ ظن البعض أنه: اسكندر المقدوني تلميذ أرسطوطاليس.
إن مسار التاريخ يمضي على أقدام الأنبياء والرسل، فهم رسل الله إلى البشرية خصهم بآيات ودلائل ومعجزات، ويسر معرفتهم على خلقه، بل إن طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوع من الأديان خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم كما يعرف الأطباء والفقهاء، مثال ذلك: من رأى نحو سيبويه، وطب أبقراط، وفقه الأئمة الأربعة ونحوهم كان إقراره بذلك من أبين الأمور، ومن هنا: قرب الله تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وغيرهم[3].
كما يحدثنا القرآن أن كل أمة جاءها رسول، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ ،﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾،﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾، والأنبياء وسائط[4] بين الله وعباده في تبليغ أمره وفيه ووعده ووعيده[5]، وقد بعثوا صلوات الله عليهم بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأصبح أتباع الرسل أكمل الناس، وعلى العكس من ذلك، فإن المكذبين للرسل يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح.
ويقرر شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله: أن السعادة إذن في إتباع الأنبياء والرسل ومناهجهم أدعى إلى الإقناع ومخاطبة الكافة، ودليله على ذلك أن البشرية لم تنقطع صلتها بالأنبياء على طول تاريخها، مع تواتر أخبارها، فصار ظهور الأنبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم: لظهور أمرهم عند الخاصة والعامة، فإن التاريخ يكون الحادث الشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى قبله وبعده[6].
أما إذا قارن بين الأنبياء والفلاسفة، فإنه يرى أن منهج الأنبياء قائم على أمر البشر بما فيه صلاحهم وفيهم عما فيه فسادهم، سالكين فى ذلك أقرب الطرق، فلا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل الفلاسفة، فإن منهج هؤلاء: كثير التعب قليل الفائدة، أو موجب الضرر، ويضرب مثلًا على ذلك، فيذكر أن مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل طبيب زار مريضًا، فرأى مرضه، فدله على شرب دواء معين، وأمره بنظام خاص في الطعام والشراب، فأطاعه المريض فشفي، ولكن الفيلسوف يسلك طرقًا طويلة، إذ يتكلم في سبب المرض وصفته، وذمه، ما أوجبه ولو سأله المريض عما يشفيه، عجز عن الإجابة!!؟.
وبمثل هذه القاعدة، ينتقل إلى النظر إلى تاريخ المسلمين خاصة، فيبرهن شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله على أن إتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - أدعى للعلم والتوحيد والسعادة.
ويعني بذلك المقارنة بين الصحابة والتابعين لهم، وبين المتكلمين وفلاسفة المسلمين، ويقف أمام الأحداث التاريخية، فيعللها بسبب مخالفة الأصول الإسلامية في القرآن والحديث، فيرى أن انقراض دولة بني أمية كانت بسبب الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، إلى جانب أسباب أخرى أوجبت إدبارها[7].
وربما يعني بذلك: أن العقيدة عندما خمدت في النفوس، وفقدت فاعليتها عما كانت لدى المسلمين الأوائل، ظهر الضعف في الأمة، إذ تحولت العقيدة الراسخة من قوة محركة ناجمة عن إقناع عقلي ويقن قلبي، إلى مجرد أفكار جلية تتطاول إلى الحديث عن الذات الإلهية، ففقدت القلوب الهيبة.
ولما تضاءلت العقيدة في النفوس وأصابها الوهن، وتحولت إلى مناقشات وجدل كلامي وفلسفي، وظهر النفاق والبدع والفجور، هان المسلمون على أعدائهم، فغزا الصليبيون أراضي الإسلام، واستولوا على بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة[8]، وكذلك بالنسبة لحروب التتار، حتى رأى البعض أن هولاكو ملك التتار بمثابة بختنصر لبني إسرائيل، مستندين إلى تفسير سورة بني إسرائيل التي توعدهم الله تعالى فيها إذا أفسدوا في الأرض[9].
ويمضي شيخ الإسلام في تفسير الأحداث التاريخية: وفقًا لهذه القاعدة، فيذكر أن محنة القرآن كانت بداية لتشجيع القرامطة الباطنية في إظهار آرائهم بعد ترجمة كتب الفلاسفة، ولما رأت الفلاسفة: أن القول المنسوب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته هو: هذا القول الذي يقوله المتكلمون الجهمية ومن اتبعهم، ورأوا أن هذا القول الذي يقولونه فاسد من جهة العقل، طمعوا في تغيير الملة، فمنهم من أظهر إنكار الصانع، وأظهر الكفر الصريح، وقاتلوا المسلمين، وأخذ قرامطة البحرين الحجر الأسود[10]، ولم يقتصر الأمر على انتصار الخصوم في مجال الحروب فحسب، بل اشتد الخطب إلى مجال الفكر والعقيدة، لأن فتح باب القياس الفاسد في العقليات بواسطة المتكلمين، شجع الزنادقة على المضي في تنفيذ مخططاتهم، فانتهى بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها، كما قال لهم رئيسهم بالشام،" لقد أسقطنا عنكم العبادات، فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة!!؟".[11].
وقبل الانتهاء من هذه اللمحة لموقف شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله من التاريخ، فإننا نعجب من تفاؤله بينما كان في وسط ظروف حالكة الظلام، ومع هذا فإنه يقدم تفسيرًا للحديث: ((إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))، فالتجديد إنما يكون بعد الدروس، وذلك هو: غربة الإسلام، ثم يحاول إدخال الطمأنينة في القلوب:
" وهذا الحديث يفيد المسلم: أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [12]، ولكنه في الوقت نفسه يحذر من مخالفة الأوامر الإلهية، لأن الذنوب تورث الهزائم والكوارث للمسلمين كالهزيمة التي أصابتهم يوم أحد، ويعلل المقصود بقصص بني إسرائيل في القرآن اتخاذهم عبرة لنا، مستشهدًا ببعض السلف القائلين: (إن بني إسرائيل ذهبوا، وإنما يعني أنتم)، ومن الأمثال السائرة:(إياك أعني، واسمعي يا جارة)، وهكذا يعود بنا إلى نفس الأصل الذي يفسر به التاريخ.

هوامش:
[1] النبوات ص 27.
[2] الجواب الصحيح: ليدن ج 4 ص 99 والاستغاثة ج 2 ص 204- 305.
[3] النبوات ص 26 - 27.
[4] النبوات ص35.
[5] طريق الوصول ص 14.
[6] نقض المنطق: ص 15.
[7] الفرقان بين الحق والباطل ص122.
[8] نفس المصدر ص 120.
[9] نفس المصدر ص120-121.
[10] شرح حديث النزول ص 173- منشورات المكتب الإسلامى 1389هـ- 1969م.
[11] نفس المصدر ص 9 (وينظر ص 163، 165).
[12] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 18 ص 298- 299 ط الرياض.