مع رواية (الشوك والقرنفل) لـــــ يحيى السِّنوار
08-02-2024, 02:25 PM
مع رواية (الشوك والقرنفل)
لـــــ يحيى السِّنوار
بقلم عبد الله لالي
الحلقة الخامسة (الأخيرة):
المشهد الثاني:
عندما اختفى أب الأسرة المحورية في الرّواية هو وأخوه ولم يظهر عنهما أيّ خبر؛ وذلك بعد انظمامهما إلى المقاومة الأولى، على إثر انسحاب الجيش المصري من غزة، ظلّ والدهما (جدّ الأسرة) أياما طويلة يخرج كلّ صباح للبحث والسؤال عنهما، وفي أحد الأيّام عاد بالخبر القاصم للظهور، يصف الكاتب ذلك فيقول ص12:"مع غروب شمس أحد تلك الأيّام موعد عودة الجدّ من رحلات بحثه عن ولديه، فتحت أمّي الباب ترقب قدومه من أوّل الشارع، وبعد قليل ظهر الجدّ يتكئ على عصاه ولا تكاد تحمله قدماه وهو يجرّ قدميه جرا يوحي بأنّ الخبر الذي يحمله قد ناء به كاهله، صرخت والدتي على أخي الأكبر محمود بالجري لاستقبال جدّه ومساعدته فجرى محمود وبدأ ينظر إلى وجه الجدّ الذي غمرته الدّموع، ورغم محاولات محمود سحب أي كلمة من فم الجدّ لم يفلح حتى وصلا باب البيت، فارتكز الجدّ على الجدار، ولم تعد قدماه قادرتان على حمله فبدأ يهوي بعد أن دخل الخطوة الأولى للبيت.."
إنّه مشهد صارخ ينطق من كلّ جوانبه بحجم المأساة وهول المصيبة التي حلّت بالجدّ الذي بلغه خبر موت أحد ابنيه، وناء صدره بالخبر ولم يملك دموعه ولا حملته قدماه، ونجد البراعة في توظيف الألفاظ المناسبة لذلك، من مثل قوله:" يتكئ على عصاه/ لا تكاد تحمله / يجرّ قدميه/ غمرته الدموع.."
عبارات تصف المشهد بمنظار مكبّر حتى تجعل القارئ والمتلقي يستشعر مدى فداحة المأساة التي حلّت بالجدّ وكيف نزل عليه الخبر كالصّاعقة، وهذا أسلوب فنّي فعّال في السّرد لا يتقنه إلا من كان يملك تلك البراعة السّرديّة، ويحسن تبليغها إلى القارئ بشكل مؤثر..! وكان بإمكان الكاتب أن يقول بكلّ اختصار عاد الجدّ مساء وأبلغ الأسرة بوفاة ابنه وهو يشعر بحزن كبير، وانتهى الأمر فيكون الكاتب هنا مجرّد ناقل لخبر يقع كلّ يوم، ويتكرر مرارا، ويمكن أن يبلّغه أيّ إنسان بكلّ سهولة ويسر حتى وإن لم يكن كاتبا.
المشهد الثالث:
يصف الكاتب أحد المقاومين الأوائل عند بداية اجتياح العدوّ الصّهيوني لغزة فيقول من ص 21:" وأبو حاتم رجل طويل القامة، رشيق، قويّ البنية، يغطّي رأسه بتلك الكوفية ويلفها حول وجهه فلا تبدو منه سوى عينيه، كان شاويشا في قوات جيش تحرير فلسطين أيّام الحكم المصري في قطاع غزة، قاتل في حرب 67 ببسالة فائقة، ولكن ما عساه يفعل هو وقلائل من البواسل في معركة خاسرة بإجمالها. انساب أبو حاتم في شوراع وأزقة المخيّم، فقد كان يعرف طريقه، توقّف قليلا يتفحّص المكان من حوله.."
هذا مشهد يمزج فيه الكاتب بين الوصف التفصيلي وبين السّرد الذي يحدث تطورا مشهودا في أحداث الرواية، وهو أيضا أسلوب جميل جدا في نقل القارئ من مرحلة إلى أخرى في وقائع الرّواية، ويلقي بظلال خفيفة على أحد شخصيّات الرواية المؤثرة فيها، وإن كان شخصيّة ثانوية عابرة، إلى أنها ترمز إلى مرحلة زمنيّة مفصليّة في تاريخ فلسطين الحديث، تثبت أنّ مقاومة المحتلّ الصّهيوني لم تتوقّف يوما واحدا.
ومثل هذه المشاهد الفنيّة كثيرة في رواية تثبت بكلّ يقين أنّ هذا الكاتب (القائد الثوري الكببير)، يمتلك فعلا الأدوات الفنيّة والأدبيّة لكتابة رواية كاملة بكلّ شروطها وخصائصها الفنية التي يتفق عليها كلّ الأدباء والنّقاد.
التناص واستدعاء التراث:
تعجبني دائما تلك الروايات التي ترقد على ركام كبير من الزخم الثقافي والفكري، الذي يشبع تطلعات القارئ ويغني معارفه، ولا يكون مجرّد سرد سطحي لا يسمن ولا يغني من جوع، ومن الخصائص الفنية التي تحقق الزخم الثقافي والمعرفي خاصية التناص والتضمين والمخزون التراثي المختار بعناية كبيرة، ومن تلك الصور يمكن أن نذكر الأمثلة التالية:
في ص 17 يقول الكاتب:"ما باليد حيلة". وهو مثل سائر يردده الناس عامة ومثقفين، كما يستحضر الكاتب رموزا من التاريخ الإسلامي بمناسبة الحديث عن المسجد الأقصى الأسير، فيذكر حادثة الإسراء والمعراج وصلاح الدّين الأيوبي الذي حرر القدس من الاحتلال الصّليبي الغاشم، فيقول في ص 142:"تذكرنا إسراء ومعراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتذكرنا الناصر صلاح الدّين واغروقت العيون بالدّموع وسمع نحيب البعض.."
وقبل ذلك من ص 140 يستدعي الكاتب التراث الغنائي الفلكلورني لفلسطين عندما يقول على لسان المرأة الفلسطينية:"هاتي البارودة يا واقفة بالباب... هاتي البارودي، أحرّر بلادي يا واقفة على الباب.. أحرر بلادي، يا عزّ احبابي يا واقفة على الباب.. يا عز احبابي"
وفي هذه الأهزوجة الشعبيّة تحوير رائع للأنشودة الأصل وتوظيفها بشكل بديع في المقاومة، وكان منصوص الأهزوجة الأصلي كما يلي:" هاتي منديلي يا واقفة على الباب.. هاتي منديلي..." فكانت النسّخة المحورة خيرا من الأصل، وإن كان الأصل في مقامه وملابساته مؤثر وجيّد، ولا غبار عليه، وفي ص 134 وعند حديث الكاتب عن رحلة مجموعة من الشباب من غزة إلى بيت المقدس، لزيارة الأقصى، كان مرشدهم إبراهيم أحد أبطال القصّة الأساسيين، وهو الذي يحمل بين جوانبه جملة من الصّفات التي تجسّد شخصيّة الكاتب، استحضر إبراهيم وهو يتحدّث عن بعض معالم المسجد الأقصة؛ قصّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، الذي كان المسجد الأقصى هو المكان الذي أسري به إليه، وكان منه المعراج في الليلة المباركة ليلة الإسراء والمعراج.
رواية مشحونة بالأحداث زاخرة بالأفكار والمعاني السامية والقيم النبيلة، تروي حياة شعب عاش القهر والاحتلال، ولكنّه لم ييأس ولم يستسلم، وظلّ يرفع راية الجهاد يسلمها جيل إلى الجيل الذي يليه، وله موعد مع النّصر منتظر يعتقد بتحققه في يقين حين يأذن ربّ العالمين..!